الطريق.. سعي نحو المحال

الطريق.. سعي نحو المحال

يقول جلال الدين الرومى: «هذا الشئ الذى لا يعثر عليه إنما هو أملى».
قالوا : ما تبتغيه يبدو محالاً. قلت: إن المحال من مأمولى !!»

فى ظلمة الفجر العاشقة، الممر العابر بين الموت والحياة على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا!!

هكذا يفتتح الراوى حكايته الأولى فى الحرافيش (عاشور الناجى)، حيث يلقي بنا مباشرة فى وهدة اللحظة التى يلتبس فيها النور بالظلمة التى تنداح تدريجيا لتفسح مجالاً لانبلاج الصبح!! ولعله حين وصف ظلمة الفجر بالعاشقة لم يبالغ كثيراً، فهى لحظة الوله العارم حين يولج النهار فى الليل، ويولج الليل فى النهار، وهو ما يطلق عليه الشيخ الأكبر «محيى الدين بن عربى» النكاح المعنوى الكونى!

كون ما أوجده إلا الحب الذى يستصحب جميع المقامات والأحوال، وهو سار فى ثنايا الوجود كله، أو لعله فرط العشق ملكى الخطى، والكل معشوق، والعاشق مجرد حجاب، فيما يقول جلال الدين الرومى، ويتغنى سنائى الغزنوى فى حديقته الساحرة مجاوزا بنا حدود الوعى ومنطقه فيما يلى:

«للعشق طريق وراء الأفلاك... كل الكائنات تأخذ فى طريق العشق براءتها من عجزها».

لكنه الإنسان ذلك البكاء، طفل الطريق الذى أزعج خلوة الشيخ عفرة المؤتنس بالرائحة محلى الأنفاس الرحمانية، أصل المنة الوجودية فيما يرى ابن عربى، وحيث الأناشيد الشجية المنبعثة من التكية الفردوسية، وكأنها تجسيد غامض بهيج لموسيقى الأفلاك السماوية الخالدة الدائرة عشقا ووجدا بالأصل فى حركة أزلية أبدية، كدراويش المولوية.

البدء !!

الشيخ عفرة، اسم عجيب لا يخلو من إيحاءات مهمة، وذات مغزى !! فالعفر ظاهر التراب، والعفر من الليالى هى تلك الليالى البيض التى ينيرها القمر، والعفريت من العفارة، وهى الخبث والشيطنة، والعفر يعنى الشجاع الجلد، والعفرانى: الأسد القوى !!

الشيخ الأرضى عفرة، أسد الطريق، رجل الله، ولعله بما يتلقاه من إلهام باطنى فى تلك اللحظة البكر، هو الظل الدنيوي العاكس للقرين السماوى الروحى الملكى، ومرشده الخفى، بصيرته النافذة الحقة بالرغم من فقده البصر !! فالطريق يلزمه مرشد، ولا يُسلك هذا البحر عن طريق التخبط والعمى، وقد مضى الشيخ عفرة يتلمس طريقه بطرف عصاه الغليظة، مرشدته الظاهرية فى ظلامه الأبدى !! حينئذ ينبثق منها نور المعرفة الكشفية فى عمق المساحات البرجة للظلمة إذ تُمارس حرية الخيال الشطحى المنفلت من قيود التحديد والوضوح ومعارف النور التى تعوق الخيال، وتكفه عن ممارسة عنفه الأثير الخلاق!! ويمكننا ملاحظة حضور الظلمة كفضاء ثرى وخصب، معرفيا ووجوديا، فى العديد من روايات محفوظ ذات الطابع الرمزى والميتافزيقى، بل نكاد نلتقط تكراراً لافتاً فى هذا الصدد، فها هو فى رواية «ليالى ألف ليلة» يبادئنا قائلا : «عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة... أشار السلطان (شهريار) بإطفاء القنديل الوحيد، فساد الظلام... تمتم شهريار : ليكن الظلام كى أرصد انبثاق الضياء، ثم أبلغ قراره لدندان وزيره حول مصير شهرزاد بعد انتهاء الحكايات، وبأن تبقى حية وزوجة له، وبالرغم من سعادة دندان، إلا أن السلطان قال كأنما يخاطب نفسه : الوجود أغمض ما فى الوجود».(354).

إن فضاء الظلمة هنا ليس قرينا للشر أو للعدم بالمعنى القيمى، لكنه فضاء وجودى ومعرفى، حيث يلتبس الوجود دوما بالمعرفة فى رؤية محفوظ!! يصوغ فضاء الظلمة إمكانية حيوية متجددة ومدهشة لاكتشاف الذات لذاتها، ومكنوناتها العجيبة، وهواجسها الخفية المؤرقة، بل فداحة تناقضها المؤسي، وعرامة جنونها وجموحها اللانهائى، ناهيك عن وعيها الموحش والمباغت بحتمية وشقاء المصير العبثى الذى لا مفر منه، ولا منجى، وحيث يرهص الاكتمال بلحظة السقوط المفجع والمدوى لمولود الليالى القمرية الذى ما زال حتى تلك اللحظة يسكن مملكة الظلال، عاكسا مخايلات الأهلة والأقمار المغوية، ولم يكتشف بعد وجه القمر الأسود المعتم شديد الإظلام، اكتماله الحقيقى، قبل أن يستعير نوره الزائف من الشمس، ويمارس غوايته الدنيوية الشبحية، ويوقعنا فى أسر عوالم الأحلام، وسكرة الرؤى.

طريق الحيرة

ها هو شهريار، وقد تحقق بذروة السعادة والخير، متحررا من شهوة القتل والانتقام، لكنه حين يتحدث دندان عن السعادة، تنتفى حكمة البهجة الزائفة، ويدرك شهريار أنه قد بدأ رحلة الحيرة الموحشة فى متاهة الوجود الغامض!!

تُنتهك ظلمة الشيخ عفرة بسريان الصوت الباكى للطفل عاشور دويا يجترح وحدة الوجود، ويشق سكون الليل، مشيعا الاضطراب فى ثنايا الكون، وكأنه ميلاد الافتضاح، وصرخة العصيان الأولى التى تعلن جهارا عن ظلمة الإثم التى دفنت داخلها القلوب، فيما يصفها الشيخ عفرة الذى صاح حين لمس بيديه وجه الوليد الطرى المتشنج بالبكاء قائلا : «لعنة الله على الظالمين... الآثمين».

ولد الشك فى قلب الشيخ، ولعله ميلاد الوعى وسطوة السؤال القلق، وتدمير نعمة اليقين !! حينئذ، ولت البراءة المغسولة بماء الفجر الطهور، براءة الانسجام الكونى الرائق !!

ولعل البكاء الوليد، وتفجر الدموع الساخنة من ينبوع العمق الغائر للذات التى تعلن وجودها، اغترابا عن أصلها الإلهى، وقد بوغت بوطأة الانفصال القاسية، ليس إلا طقسا تطهريا صاخبا من الإثم، إثم الانفصال، بل تكفيرا عن عرامة التوق، توق الممكن للوجود، وأشواق الخروج من ظلمة الغيب إلى نور الشهادة، وقيد الحضور الحسي الواقعي !! إرهاصة الوعى الوليد ببداية طريق الشقاء، ورحلة النأي فى عمق الظلمة الآسرة، متأرجحا ما بين الغفلة الأولى الحتمية الناتجة عن السقوط الدنيوى فى ظلمة المادة، والخضوع لقوانين التغير والصيرورة وحتمية العدم والفناء، من ناحية، وبين اليقظة النافذة المحدقة فى عمق الوجود الموحش، ووعى الاغتراب الأسيان، وابتغاء المحال الذى كلما أوغلنا فى الطريق اقتربنا منه، ونأينا عنه فى آن، من ناحية ثانية !!

حين يولد الإنسان الظل ، الكائن الملتبس واقفا على حافة الإمكان بين وجود محض، وعدم محض، يكشف منذ اللحظة الأولى عن عمق ترابى، وتناقض أصيل، وميلاد مزدوج بين أصليْن إلهى، وطبيعى، يقول محفوظ فى «قلب الليل»، وللاسم دلالته اللافتة: «إننى أتمرغ فى التراب، ولكننى هابط فى الأصل من السماء ... لا تحاسبنى على التناقض، إنى حزمة من المتناقضات... إنسان إلهى وإنسان دنيوى... أغنية الفجر... كشف ضوءها عن حلم يتجسد ويتوثب لتحطيم جدار القصر، والانطلاق متحديا الجاه والقيود، للتمرغ فى تراب الأم الخالدة !!».

جعفر الراوي، يهجر نعيم جده الكبير الحالم بعالم من البشر الإلهيين، ويا له من حلم قاسٍ لا يخلو من استحالة مضنية، وينطلق فى قلب الليل الطويل متمردا على سمو جده، وتطهره واكتماله وقداسته ومثاليته المفرطة، !! يتمرد جعفر على القبضة القوية الآسرة، وفضاء الأمان والصيانة ليسعى باحثا عن حريته المطلقة، مصرحا بكبرياء وتطاول، إذ يقول:

«إننى أخوض معركة مع جدى منذ قديم... أقف أمام الحياة مرفوع الرأس متحديا، إذ إن الحياة لا تحترم إلا من يستهين بها... بوسعى أن أحدثك عن الموت... إنى من صناعه، حق لى يوما أن أقول إننى واهب الحياة... كأننى أمير سماوى... إلا ... يد أمى، وأصلى المأساوى الأصيل».

دوما ما تكون البداية لحظة انتهاك وجرح، وتمرد على سلطة الأصل وسطوته الخارقة، لكن الفاجعة تكمن فى العبث المستكن فى عمق المحاولة حينما يكتشف المرء أنه ما خاض مغامرته الكبرى إلا من أجل حلم وهمى، ولعله كابوس وأضغاث أحلام، يقول الراوى فى «ليالى ألف ليلة» :

«خاض ثلاثتهم الظلام صامتين (ويقصد شهريار ودندان وآخر لم يحدده لكننا نعرف من السياق انه شبيب رامة السياف نذير الموت الصامت دومًا بالرغم من وطأه الحضور المخيف) وقال دندان: لعل مولاى قد وجد للتسلية المنشودة؟فتمتم الآخر: .. مخاطبًا نفسه : حلم قصير مذهل، لا تتخايل فيه حقيقة حتى تتلاشى... ولزم الصمت حتى النهاية !!».

فى فضاء الحلم، ما بين الجسد المعتم، والحضور المنير الإغوائى للقمر الذى يبدأ هلالا يتوق للكمال، فما إن يتحقق به حتى ينقص تدريجيا ويتلاشى، تبدأ الرحلة فى الطريق، طريق العبور ما بين الموت والحياة !! وحين نكتشف أن الدنيا نوم وحلم، والموت انتباه ويقظة، كما ذكر عن النبى فى حديث شهير «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، يتبين لنا كون الوجود محض استعارة مؤقتة لا تشكل جزءا من هويتنا الحقة التى هى العدم، أو كما يقول الرومى:

«لقد وجدت هويتى فى انعدام الهوية، ثم جدلت الهوية فى انعدام الهوية».

جمصة البلطى كبير الشرطة، فى «ليالى ألف ليلة»، المتورط فى عالم السلطة العفن، استوعبته السلطة وخلقته خلقا جديدا، فتناسى الكلمات الطيبة التى تلقاها على يد الشيخ البلخى فى الزاوية على عهد البراءة، يطلق جمصة العفريت سنجام من القمقم بعد سجن طويل امتلأ بالحنق والرغبة فى الانتقام، ولعله غوايته المنبعثة من عمقه الصراعى !! يفرح جمصة بتحريره للعفريت المسجون ، متصوراً نفسه أداة القدر، وصاحب الحظ السعيد لأن العفريت سيكافئه حتما على تحريره إياه بمكافأة سخية !! لكن العفريت الموحد رآها مشيئة الإله المباركة، ومنحة القدر وحده، وتوعد جمصة بالويل، وهو يذكره بظلمة الناس وفساده كريه الرائحة ووحشيته التى جعلته يستبيح أى شئ فى سبيل الدفاع عن سلطته، ومن ثم عدم استحقاقه الرحمة التى لا ينالها إلا من استمسك بالحكمة واجتهد فى رحاب الحق والعدل!!

حساب عسير للذات من قبل ذاتها يعيدها لطريق الحق، بعد أن استنفدت مسارها العدمى، وغرقت فى لجتها المظلمة، كما غرق الأسد فى صورته المنعكسة فى مياه البئر، مصارعا ذاته، دافعا بنرجسيته العارمة إلى مداها الأخير، حيث تتكشف إمكانات الخلاص !! غلب النوم جمصة مرة فى حجرة عمله، بعد ليالٍ طويلة من المقاومة الخارقة، فاستسلم له كأسد جريح، لكن صوت سنجام اقتحم وجدانه، قائلا بتحد: تطاردك لعنة حماية المجرمين واضطهاد الشرفاء !! وعبثا يحاول جمصة المرواغة، مخايلا ذاته المستورة (العفريت المؤمن) وبقايا عصر البراءة من نوازع الخير، بل إنه يتذرع بالواجب، والعقل الذى يخدمه، ويمارس نوعا من الابتزاز العاطفى حين يعلن انه ليس راضيا عن نفسه، وأن هواتفه الشريفة تحاوره فى سكون الليل... الخ!! ولا تكف الذات عن نسج الفخاخ الدنيوية الآسرة لذاتها، حتى أن جمصة سعى لاستخدام قوة العفريت لتحقيق أحلامه الدفينة فى القوة والسلطان!! حينئذ باغته العفريت قائلا : ما زال قلبك غارقا فى العبودية !! كان لابد لجمصة أن يستنفد الطريق لآخره قبل أن يتحرر من عبودية الدنيا؛ وليس إلا انتهاك القانون، والجريمة، عهد الشيطان !!

يذهب جمصة البلطى إلى شيخه القديم عبدالله البلخى، الذى بدأ معه بعهد الله، يحكى له حكايته العجيبة، يسأله النصيحة، لكن الشيخ يلقى به فى فضاء الابتلاء، ومواجهة دوار الحرية ورعبها اللذيذ الآسر !! ولعله هجره وتخلى عنه ليكون قراره مؤتنسا بالله وحده دون سواه، فالحكاية حكايته وحده، والقرار قراره وحده، ولا بد لمن نسى ميثاق الربوبية الأول أن يخوض المعركة، ويناضل فى فضاء الحيرة، لا لاسترداد الذاكرة الفردوسية التى لا تسترد أصلا، بل لمعايشة متجددة للحظة ميلاد وخلق طازجة (إنه على أى حال يدفن جمصة القديم ويبعث آخر جديداً)، وهذا لا يتحقق إلا بإراقة الدماء، ونحر الروح، يقول العطار الصوفى :

«الروح سد فى الطريق، فكن الروح ناثرا... صر إلى العدم حتى تدرك الحياة !!»

اتخذ جمصة البلطى قراره الحدى، وتوجه لمنزل الحاكم خليل الهمذانى، وبعد حوار خالع للعذار، وجه البلطى ضربة قاضية لعنق الحاكم الفاسد المستبد !! حوكم جمصة وتحدى شهريار بلامبالاته، ويقينه المطلق بأنه حقق إرادة الله العادلة، وحكم عليه بالموت شنقا، ولتعلق رأسه فوق باب داره، وتصادر أمواله!! فى ظلام السجن، وصمته المطبق، وخلائه القاسى نام البلطى نوما عميقا لم يستيقظ منه إلا على جلبة وضوء مشاعل، ورأى الجنود قد حضروا ليسوقوه إلى النطع، لكنهم ساقوا البلطى أمام عينيه، أما هو فقد وجد نفسه محررا من القيد !! غادر السجن، ولم يلتفت إليه أحد، وشاهد إعدامه، بعينى رأسه!! سقط رأس البلطى فى لحظة مفعمة بالصمت، وحين خلا الميدان تماما من الناس، سمع صوت العفريت، يقول له: لقد قتلوا صورة من صنع يدى، لكنك حى، هيهات أن يعرفك أحد، لأنى منحتك صورة جديدة !!

يقول الرومى:

«اعلم أن الصورة تقفز من المعنى كالأسد من الغابة... إن الصورة خرجت من اللاصورة، ثم عادت إلى من إليه راجعون، ففى كل لحظة لك موت ورجعة... الدنيا تتجدد فى كل لحظة ونحن لا ندرى بتجددها،». !!

مُنح جمصة البلطى حياة جديدة فى صورة عبدالله الحمال؛ لكنه لم يع الدرس جيدا، كان لم يزل ساعيا فى عوالم الظلال تستلبه وعود الجهاد من أجل الحق والعدل، ولعلها وعود السلطة الخفية!! وهذا بالفعل ما انتهت إليه الحكاية، إذ سيصبح جمصة يوما عبدالله العاقل كبير شرطة معروف الإسكافى حاكم المدينة، ويا لها من مفارقة عبثية!! واصل الحمال طريقه الجهادى إلى آخره وقتل من الطغاة ما قتل ونسى ذاته، هرب إلى الخلاء فيما وراء النهر، وواجه شيخه الحقيقى عبدالله البحرى العابد فى مملكة الماء اللانهائية الكاملة، الخالية من التناقضات، وحين تبع قرينه وغاص فى عمق الماء، تبدلت صورته مجددا، وبعث عبدالله المجنون!! يقول المتصوفة :

«الإنسان سمكة لا بقاء له على اليابسة بل فى البحر العميق... بحر الوجود الزاخر الذى تنمحى فيه حدود جميع الصور... حيث الطريق بحار من نور ونار».

دلف البلطى إلى عالم الجنون والتلاشى، بداية طريق العشق، وقد مر بجحيم الألم، ومعاناة الجفاء الذى لابد منه لذوق العشق، لكنه عاد ثانية، وسقط فى فخ الوعى الآفة وامتهن الصيد، وسقطت الروح ثانية فى فخ الصور الخيالية، بالرغم من أنها كادت تذوق لذة الاكتمال!! سيظل عبد الله المجنون العاقل مسكونا بوطأة الدنيا وأحلامها وخيالاتها إلى أن يتحول إلى عبد الله العاقل، ويغادر مملكة الحرية الحقة، والجنون المقدس، فيما أسماها جعفر الراوى !! لكنها الروح الواقعة فى أسر الصور، لا ترحل صوب السماء، بل تأفل فى كل خيال، وتسعى عمرها هباء فى صيد الظل.

الطريق نفي وخلاء!

دوما ما ينقض الطريق مساره بنفسه، وينفى ذاته بذاته فى روايات محفوظ، أو هذا مايتبدى لنا للوهلة الأولى فى ظل مسارات الوعى وثنائياته الحاسمة. ولعل الطريق لا يبدأ أصلا إلا من خلال الغوص فى مساحات النفى والسلب !! إنه الخلاء، دائما وابدا الخلاء الذى شعر عاشور الناجى أنه يلتهم الأشياء، حين مرض الشيخ عفرة الذى التقطه ورباه، وانتقل إلى جوار ربه، فشعر أنه وحيد فى دنيا بلا ناس، وأسبل جفنيه متفكرا، وود لو أنه تسلق شعاع الشمس، وذوب فى قطرة الندى، وامتطى الريح المزمجرة فى القبو، لكن صوتا صاعدا من صميم قلبه، قال له إنه عندما يحل الخلاء بالأرض، فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذى الجلال!!

ولا بد لنا هنا من الانتباه إلى تعدد وتنوع تجليات الخلاء، ومسارات الطريق !! لقد كان خلاء عاشور الناجى سالف الذكر، خلاء رحميا يكاد يولد من عمقه حلم الإنسان الإلهى، المخلوق الأوحد على الصورة الإلهية الكاملة، جامعة صفات الجمال والجلال، المتعالية المتسامية، العاكسة لحلم الجد السيد الراوى الكبير فى قلب الليل!! لكن الحلم لا يكتمل، ويُخترق الخلاء بالحضور الآثم لدرويش زيدان، وهو ما سيعاينه الناجى يوم يكتشف جريمة درويش التى أعد لها فى ليلة مظلمة كانت جديرة بالعبادة والمناجاة!! تدفع الصدمة المباغتة التى أشاعت الاضطراب فى خلاء الناجى، وحرمته نعمة الحلم، وراحة اليقين الناعمة، عاشور لمواجهة درويش زيدان، ومنعه بالقوة من اقتراف الجريمة، ثم فراقه فراقا، بدا نهائيا، وهو ما لم يتحقق قط، حيث ظل درويش زيدان قابعا فى الظلمة الهاجعة (خلاء الناجى)، ولعله شيطانه الخفى!!

يقول الرواي : «فى ظلام الحارة تنفس بعمق، والظلام كثيف لا عين له، لا شئ سوى الصمت والظلام... شعر وهو يشق طريقه فى الظلام أنه يودع الطمأنينة والثقة، ها هو تيار مضطرب يلفه فى دوامته... الظلام ينطق بلغة صامتة، يحتضن الملائكة والشياطين، فيه يختفى المرهق من ذاته ليغرق فى ذاته... النجاة عبث... الرغبة تهزم الملائكة... من يتزوج الحياة فليحتضن ذريتها المعطرة بالشبق... ها هو مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى والجنون والندم... استنام إلى الهزيمة جذلان بإحساس الظفر... مرقت فلة من باب الخمارة، اعترضت طريقه، شد اللجام، وهو يقول لنفسه «لتدركنى رحمة السماء». لابد مما ليس منه بد!!

هكذا تزوج الناجى من فلة (الشيطانة الصغيرة باهرة الجمال) انبثقت مخلوقة الخيال الشهوى منفلتة من عمق الرغبة المظلمة، دون صوت، عارمة الحضور بعطر الشبق والغواية، فاخترق الخلاء العاشورى، واُقتحم بالجنون الكامل، كما حدث لجعفر الراوى حين التقى مروانة الغجرية فى الخلاء، وذاق اللبن رمز المعارف السرية المحرمة، الذى أضحى رباطًا حريريًا قاتلاً بينهما، فقال لها : أنت كريمة يا مروانة !! نداء الدم الصارخ يغرى بالجنون والمهالك، يذكرنا بكريمة صابر الرحيمى، فى «الطريق»، تلك الطاغية التى ما كان له أن يفلت من أسرها إلا بقتلها، ولعله الفعل الذى اكتمل به الحصار وليس العكس، حيث العودة للعمق البدئى للأم الكونية الكبرى!!

يرحل عاشور مع فلة زوجته وابنه شمس الدين إلى الخلاء فرارا من الطاعون الذى أخلى حارته من البشر، وعندما عاد إليها ثانية، قالت له فلة الجاهلة، وهى تنتحب: «من خلاء إلى خلاء يا عاشور» حيث صمت اليأس العنيد والرعب المتحدى والقهر الصليد، لكن عاشور يصيح غاضبًا: «لن تبقى خالية إلى الأبد».

لم تكن خلاءات عاشور الناجى إلا خلاءات مؤقتة، تجليات لعزلة تنطوى على أحلام العودة ثانية لعالم البشر، والأشياء والعلاقات، وتنذر بإمكانات الاستمرار والحياة مجددا!! بل لعلها كانت مساحات ائتناس مسكونة دوما بالآخر المشابه والمغاير فى آن (فلة ودرويش زيدان) فكلاهما منبثق من عمق الذات، ومرآة عاكسة وكاشفة لحميمية عميقة تتحقق من خلالها الذات بحضورها وسطوتها وفرادتها، وإنسانيتها المتجـددة !! ما زالت الذات العاشورية متورطة فى فضاء الحلم الدنيوى الواعد باكتمال السعادة والهناء ، وإمكانية تحقيق قيم الحرية والكرامة والسلام والعدل، قيم السادة (الراوى والرحيم)، قيم القانون وشرائع الحق !!

لكنه العبث ومباغتة القدر المتربص دوما بلحظات الاكتمال، يقول الراوى فى الحرافيش، حينما اكتشف أمر سرقة عاشور الناجى لدار لبنان لحظة اكتمال السعى بذروته حيث السيادة والوجاهة والسطوة والهناء: «اغتيل الأمان بطعنة غادرة».إنه قضاء معاكس يعبث بنا، فيما تقول شهرزاد فى «ليالى ألف ليلة».

مقام الصبر

قبع شهريار فى مقام الصبر أسيرًا، لم يزل فى دوائر الوعى يطرح الأسئلة بحثًا عن إجابات الكبرياء لا وجود لها !!، وفى حين كانت شهرزاد تنتظر تحرره من شهوة السيطرة والقتل والدماء، وتدخر له يوما تمنحه حبًا، وتفتح له قلبها، وتحيا فى ظله، كان هو يغوص فى عمق الطريق بحثًا عن خلاصه الفعلى، وأملاً فى تحصيل اليقين!! وما كان سعيه وتجواله فى الليالى متفقدًا أحوال الرعية، إلا بحثًا دؤوبًا لنفس قلقة حائرة تطمح لمعاينة نور الحقيقة المطلقة الذى لا سبيل لمعاينته إلا بمزيد من الغوص فى فضاء الظلمة التى تجلى عمق الوجود الغامض، حيث يشكل العدم المحض صميم الوجود المحض، فكلاهما سلب للتحديد والتقييد الوجودى والمعرفى فى آن!! إذ تغدو الظلمة الخالصة فضاء برحًا للنور المحض الذى يورثنا العمى إذا ما حدقنا فيه، فلا يعرف إلا بالسلب المطلق، وهو ما أسماه القديس يوحنا الصليبى (الليلة المظلمة للروح)، ويقول عنه الصوفى جان فان ريوسبروك:

«إن هوة طريق الله غير السالك مظلمة تماما ومطلقة بلا صفة تماما حتى أنها تبتلع بداخلها كل الطرق الإلهية والأفعال وكل صفات الأشخاص الذين يقعون داخل الدائرة الغنية للوحدة الجوهرية، وذلك هو الصمت المظلم الذى يفقد فيه كل المحبين أنفسهم، ولكننا إذا أردنا أن نعد أنفسنا له، فإن علينا أن نجرد أنفسنا من كل شئ حتى أبداننا ذاتها، وعند ذلك نهرب قدمًا إلى البحر الهائج حيث لا يمكن لمخلوق أن يعيدنا مرة أخرى» !! (الموت والوجود/ جيمس كارس، ص 59).

لكن شهريار بعد أن هجر كل شئ، العرش والجاه والمرأة والولد، قادته قدماه إلى الخلاء، فوجد قوما يبكون وينتحبون، ولما رحلوا قبيل الفجر، تسلل شهريار إلى الصخرة التى كانوا يلتفون حولها ويبكون، وقد ضربها أحدهم بقبضته قبل أن يرحلوا، فدار حولها وهوى عليها بقبضته، فتكشف له مدخل، ورأى نورًا عذبا، وتنسم رائحة ذكية، فاقترب، وجذبته فتنة طاغية، ووجد نفسه فى مدينة ليست من صنع البشر، كأنها الفردوس جمالاً وبهاء وأناقة ونظافة ورائحة، سكانها من النساء الشابات فقط، وشبابهم ملائكى !! استسلم شهريار لحياة الفردوس، وتزوج ملكة البلاد الجميلة غضة الشباب، ومضى الوقت فى حب وتأمل، وعبادة، ناهيك عن اللهو والغناء ومتعة لا يدركها الزوال، ولا يحترقها الألم!! حياة الاكتمال الحقيقى دون نقص أو شائبة أو كدر!! لكنه المحظور يملى سطوته، ولعله الضجر والسأم من الراحة والمتعة الدائمين وعدم تقدير قيمة ما في اليد من نعمة وترف!! فتح شهريار الباب المحرم، فعاد مكرها لعالم النقص والزوال ثانية، ليبكى مع البكائين العائدين لدار العذاب !!

ترى هل سقط شهريار فى فخ الجنة، التى قال عنها البسطامى الشاطح :

«الجنة هى الحجاب الأكبر وكل من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه ، فهو محجوب».

كان الشيخ عبد الله البلخى يقول كلما ألمت الملمات أو هلت المسرات:

«أحمد الله فلا السرور يستخفنى، ولا الحزن يلمسنى... شد ما تأسرنا الأشياء».

وها هى قولة الختام يلقيها عبدالله العاقل الذى كان يوما يسمى عبد الله المجنون (جمصة البلطى، وعبد الله الحمال (القاتليْن) على شهريار كاشفا له جزءا من خبرته!!

إليك قول رجل مجرب قال:

«من غيرة الحق أن لم يجعل لأحد إليه طريقا، ولم يؤيس أحدا من الوصول إليه، وترك الخلق فى مفاوز التحير يركضون، وفى بحار الظن يغرقون، فمن ظن أنه واصل فاصله، ومن ظن أنه فاصل تاه، فلا وصول ولا مهرب منه، ولا بد منه». دائما ما يسقط رجال الطريق فى روايات محفوظ، فى أسر ذواتهم، فيضطرب المسار، ولا يكتمل السعى حيث الاحتراق فى نيران العشق الآسرة، جحيم الإله !! حينئذ لا تكتمل الدائرة الوجودية، ولا يتبقى إلا وهج الحيرة والقلق، وصوت البكاء الشجى فى البدء والانتهاء!!

يقول العطار الصوفى:

«نثر أعماق الخلق فى مهب الرياح... فى كل ذرة فى الطريق عقبة، وخلق كل ذرة طريق جديد إليه، فكيف يمكنك معرفة أى طريق ستسلك؟! حيرة فى حيرة، وكل أمر فيه لا بداية له ولا نهاية !!».


هالة أحمد فؤاد