عبقرية استشراف المستقبل

عبقرية استشراف المستقبل

تعارفنا أنا ونجيب محفوظ خلال الوقت الذي أمضيته في القاهرة بين عامي 1945 و 1949. وكنا نلتقي في أحد المقاهي التي يرتادها، وترجمت له في وقت مبكر قصة من مجموعته الأولى «همس الجنون» ذاتها، لتبث من البرنامج الإنجليزي بإذاعة القاهرة.

في حوالي عام 1947، قرأت روايته «زقاق المدق»، وأحسست في التو أنه لم يُكتب شيء مثلها باللغة العربية. وأتذكر الذهاب إلى سهرات طه حسين الأسبوعية مع لويس عوض والإتيان على ذكر هذا الكتاب، لأجد أنه ما من أحد هناك قد سمع بنجيب محفوظ أو بالرواية. وقد ذكَّرتني فاطمة موسى، وهي إحدى ناقدات مصر البارزات - ووالدة الروائية أهداف سويف - ذكّرتني أخيرًا كيف أنني عندما كانت إحدى طالباتي في جامعة فؤاد الأول تحدثت بحماس عن نجيب محفوظ وعن «زقاق المدق» خلال الدرس. وعلى الرغم من أنني كانت لديَّ تحفظات معينة على هذه الرواية، فقد بدأت في ترجمتها، وانتهيت من ترجمة ثلثها تقريباً قبل أن أتوقف، حيث ساورني الشعور بأنني لن أجد ناشراً لها أبداً. غير أن المستعرب الكندي تريفور لو جاسيك Trevor Le Gassick ترجم هذا الكتاب، ونشر ترجمته في بيروت.

إنني أعرف أن نجيب محفوظ قد علّق الآمال على أنني، كما ترجمت بعض قصصه القصيرة، سأقوم في وقت لاحق بترجمة إحدى رواياته، حيث إنه كان يعرف إلى أي مدى بعيد بلغ إعجابي بكتاباته. وكنا نلتقي في أحد المقاهي التي يرتادها، وغالبا ما كنا نناقش أعماله. لم أتخيل قط أنني أخاطب أديباً سيحرز في المستقبل جائزة نوبل في الأدب، فكنت أنتقد رواياته، مشدَّداً، على سبيل المثال، على أن رواية مثل «اللص والكلاب» تفتقر إلى تلك الدرجة من الجنس والعنف كليهما، التي من شأن القراء بالإنجليزية أن يتوقعوها من رواية بمثل هذه الحبكة. إنني أعتقد بأنه خزي محزن، فيما يتعلق بصناعة النشر البريطانية، أنه لو لم يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب عام 1988 لما وجد ناشراً ينتمي إلى تيار النشر الرئيسي لأعماله في الترجمة إلى الانجليزية.

عقد مجحف.. ولكن

في إحدى زياراتي المتتابعة للقاهرة، عندما كنت أقيم في مكان آخر من العالم العربي في ثمانينيات القرن العشرين، علمت أن نجيب محفوظ وقَّع عقداً مع مارك لينز Mark Linz مدير دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فيما يتعلق بحقوق ترجمة أعماله إلى اللغة الإنجليزية. وفي المرة التالية التي التقيت خلالها بنجيب في المقهى سألته عن هذا، وأعربت عن الأمل في أن يكون قد توصل إلى اتفاق جيد مع (دار النشر)، فأبلغني بأنه، في حقيقة الأمر، قد عهد إليها بحقوق ترجمة أعماله من دون أي مدفوعات مسبقة، وأنه قد أدرج كذلك في العقد حقوق الترجمة إلى كل اللغات الأخرى. فصعقت حيال ما سمعته، وأفصحت عما أشعر به. سألني بابتسامة: «وكم من كتبي قمت أنت بنشرها؟ على الأقل بهذه الطريقة سيترجم بعض أعمالي وينشر بالإنجليزية ولغات أخرى». ولم يكن لديَّ رد على هذا، وقد تجلت حكمته في التوصل إلى اتفاق بشأن الحقوق باللغات الأجنبية، عندما فاز، على غير انتظار، بجائزة نوبل، وهو ما يرجع في المقام الأول إلى ظهور تسع من رواياته في ترجمات من خلال دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بينما ظهر عمل أو عملان آخران له في سلسلة «مؤلفون عرب» التي أطلقتها مع الناشر البريطاني «هاينمان إديوكيشنال».

تعد قصة نجيب محفوظ مع جائزة نوبل قصة مثيرة للاهتمام، فخلال إحدى زياراتي للقاهرة، أثناء سنوات إقامتي في فرنسا أو إسبانيا، تلقيت اتصالاً هاتفياً من صديق لي مفاده أن زوجة السفير الفرنسي لدى تونس، وهي سيدة سويدية، موجودة في القاهرة، وترغب في مقابلتي. والتقينا في مكان يعد اختياره بعيد الاحتمال وهو فندق كليوباترا، وهناك أبلغتني بأن لجنة الجائزة تبحث إمكانية فوز كاتب عربي بها. وكانت معها قائمة بأسماء المرشحين المحتملين، ومن بينهم الشاعر السوري أدونيس، كاتب القصة القصيرة المصري يوسف إدريس، الكاتب السوداني الطيب صالح ونجيب محفوظ. وسألتني أولاً عما إذا كنت أشعر بأن هناك أي كاتب آخر من العالم العربي يستحق النظر في إمكانية فوزه بالجائزة، وإزاء الشعور بأن القائمة مكتملة ناقشناً مطولاً المزايا النسبية لهؤلاء المرشحين المحتملين. لم يكن بالإمكان وصف أدونيس بأنه شاعر يحظى شعره بالانتشار بين عامة الناس، فضلاً عن الحقيقة القائلة إن شعره كان بعيداً عن مدارك الكثير من القراء. أما يوسف إدريس فإنه على الرغم من التقدير الكبير الذي يحظى به باعتباره النصير الرائد للقصة القصيرة في العالم العربي، إلا أنه لا تتوافر له مواد كافية مترجمة إما إلى الانجليزية أو الفرنسية، وهما اللغتان اللتان يعرفهما أعضاء اللجنة. ولم تكن للطيب صالح في ذلك الوقت أعمال متاحة في الإنجليزية أو الفرنسية إلا روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» وروايته القصيرة «عرس الزين» وثلاث قصص قصيرة أو أربع، وقد استبعده هذا النتاج المحدود من إمكان فوزه بالجائزة، ولما كنت مترجمه إلى الإنجليزية فإنني كان حرياً بي، بالطبع، أن أبتهج لو أنه حصل عليها. وفي غمار مناقشة مزايا المرشحين المختلفين، بدا جلياً أن نجيب محفوظ هو المرشح المفضل، ليس بسبب النوعية الرفيعة لكتاباته فحسب، وإنما كذلك بسبب العدد غير المألوف من الروايات ومجموعات القصص القصيرة الذي أبدعه. وعلى الرغم من أن اهتمامي قد ثار بفعل النظر في إمكان منح الجائزة لكاتب عربي، فإنني لم أشغل نفسي أكثر من هذا بلقاء السيدة السويدية، ودهشت على نحو ما ذُكر أن محفوظ نفسه قد دهش عندما تم إبلاغه لأول مرة بأنه تقرر منحه الجائزة.

تفرد المؤلف.. تفرد المترجم

عندما كنت أقيم في بيروت بين عامي 1970 و 1974، تم الاتصال بي للانضمام إلى الفريق الذي يعكف على ترجمة روايات نجيب محفوظ إلى اللغة الإنجليزية لتنشرها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث ساد الشعور بأن معظم المترجمين ليست لديهم معرفة جيدة بالقدر الكافي بكل من اللغتين العربية والإنجليزية، وانه لهذا السبب ينبغي أن يعهد لواحد ممن تعد العربية لغتهم الأم بإنجاز ترجمة أولية، ثم تسلم الترجمة إلى شخص أو أكثر للقيام بـ «صقل» النص الأولي. وقد رفضت أن أكون عضواً في هذا الفريق، وأعربت عن اعتقادي بأنه تماماً كما أنه لا يمكن عادة لكتاب أن يكون من تأليف لجنة أو العديد من الأشخاص فكذلك الترجمة ينبغي أن تسند إلى شخص واحد. ومن شأن إلقاء نظرة، على سبيل المثال، على صفحة العنوان في رواية نجيب محفوظ «ميرامار» أن توضح أن ما لا يقل عن أربعة أشخاص قد ساهموا في ترجمتها، وهو ما لا يعني القول إن النتيجة النهائية ليست مقبولة بصورة تامة. وبينما لم يكن مشروع دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة لترجمة أعمال نجيب محفوظ، في رأيي، الطريقة المثلى للترجمة، إلا أنه أنتج بالفعل عدداً من الترجمات لرواياته، وبفضل الحقيقة القائلة إنه كان هناك كيان يُعتد به من حيث الحجم من أعماله متوافر باللغة الإنجليزية، فاز بجائزة نوبل.

أولاد حارتنا

كنت مسئولاً عن توصية المترجم فيليب ستيوارت Philip Stewart بترجمة رواية «أولاد حارتنا» المثيرة للجدل. وكان يرغب في العثور على عمل يمكنه أن يترجمه، فيما أظن، للحصول على درجة الماجستير من جامعة أكسفورد، وقد أبلغته أنه إذا قام بترجمة الرواية، فإنني سأدرجها في سلسلة «مؤلفون عرب»، حيث نُشرت تحت عنوان «أبناء جبلاوي». ولم أدرك أن الرواية التي أوصيت بترجمتها ستصبح، في وقت لاحق، موضوعاً لضجة هائلة، وستؤدي إلى محاولة لاغتيال المؤلف. وفي السابق، عندما كانت الرواية تُنشر في صورة حلقات في صحيفة «الأهرام»، تعرضت الصحيفة إلى الضغط لمنع نشر باقي الكتاب، الذي ذهبت دوائر دينية إلى أنه يتضمن تجديفاً. وفي الوقت نفسه، طلبت السلطات من المؤلف أن يفسَّر ما يدور الكتاب حوله ومن الذين تمثلهم الشخصيات المختلفة المقيمة بالحارة في حقيقة الأمر. وقد تصادف أنني كنت في إحدى زياراتي الدورية للقاهرة، في ذلك الوقت، وأبلغني نجيب محفوظ بالورطة التي وجد نفسه فيها، فقلت إن عليه أن يتمسك بموقفه، وأن يذكر أنه ليس من شأن المؤلف أن يبدأ بتفسير أعماله، وأن عليه أن يرفض الرد على أي سؤال قد يعرضه للخطر مع الدوائر المعنية في الأزهر. غير أنه أصبح معروفاً للكافة أن «الأهرام» أوقفت نشر الرواية، وأن الكتاب لم يعد متاحاً في مصر (وذلك على الرغم من أن نسخة من طبعة صادرة في بيروت يمكن على الدوام شراؤها من إحدى المكتبات الأرفع مستوى الموجودة في قلب القاهرة. وقد حُظرت الطبعة المترجمة إلى الإنجليزية كذلك في مصر، وبلغ الأمر ذروته في عام 1994، بعد ما يزيد عن ثلاثين عاماً من نشر الكتاب في حلقات بصحيفة «الأهرام» عندما قام أحد المتطرفين، اعتقاداً منه بأن الكتاب يتضمن تجديفاً (على الرغم من أنه قد قيل إنه لم يقرأه قط) بمهاجمة الكاتب وإصابته بجراح بليغة من خلال طعنه في رقبته.

عقب فوز محفوظ بجائزة نوبل، وحينما تقرر اصدار طبعة موحدة الإخراج الفني لمعظم أعماله، دُعي فيليب ستيورات لإدراج ترجمته في الترجمات الرسمية التي تقدمها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة ودار دوبلداي للنشر في أمريكا، ولكنه بعد أن رأى أن مترجمي الكتاب الآخرين قد تعرضوا للهجوم عليهم، قرَّر السماح لمترجم آخر بإنجاز ترجمة رسمية جديدة إلى الإنجليزية لهذه الرواية المثيرة للنزاع. وقد عُرضت هذه المهمة عليَّ، لكنني رفضت القيام بها، وعندئذ عُرضت على المترجم الأمريكي بيتر ثرو Peter Theroux شقيق كاتب أدب الرحلات المعروف بول ثرو. وقد نُشرت ترجمته تحت عنوان «أبناء الحارة» في نيويورك في 1996، وكذلك مع طبعة دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة المؤلفة من عشرين مجلداً في عيد ميلاد المؤلف التسعين في 2001.
---------------------------------
لو صح أن كتاباتي تحولت إلى ما يشبه الفوازير والأحاجي بعد النكسة فلربما كان تفسير ذلك أن حياتي - وربما حياة الآخرين - تحولت إلى ما يشبه الفوازير والأحاجي في أعقاب النكسة!

ولا يمكن أن أقول إن المرحلة الراهنة تتطلب كتابة صفتها كيت وكيت، لكني أنتظر حتى توجد الكتابة الحقيقية حاملة صفاتها الذاتية المناسبة للمرحلة، وقد تكون واضحة كنور الشمس. وقد تكون غامضة كالليل البهيم، ولكنها ستكون هي هي - دون غيرها - التي ستخدم المرحلة التي نمر بها!


دنيس جونسون ديفز 




جونسون ديفز في واحد من لقاءاته مع نجيب محفوظ داخل بيته عقب فوزه بجائزة نوبل