أبلغ الشعر أكذبه وأبلغ السرد أفضحه

أبلغ الشعر أكذبه وأبلغ السرد أفضحه

هل هناك تشابه أدوار بين الجاحظ ونجيب محفوظ؟

يكاد الجاحظ يكون هو الاسم الوحيد الذي وقف في مواجهة النسق المتشعرن في ثقافتنا، ولقد ضاعت محاولة الجاحظ ولم تتمكن من كسر الشعرنة الثقافية عربيًا، ذلك لأن هذا النسق قد تمكن من الثقافة وسيطر على كل قيمها الذوقية والعقلية.

وكان مجيء المتنبي هو قمة التمثيل لذلك النسق المتشعرن ولشروطه، حيث تمثل المتنبي النسق وعبر عنه وصار صوته الأقوى، وتمثلناه نحن عبر حبنا للمتنبي، وحفظنا لشعره وترديدنا لكلماته، مثل حبنا وحفظنا للشعر الفحولي بعامة، وهذا علامة على حال من التماهي بيننا وبين المتنبي، والنموذج الفحولي عقليًا وذوقيًا، وهو ما يكشف سر الإعجاب الكبير بالمتنبي، وتصورنا له كأكبر شاعر، وكأهم ممثل ثقافي لنا. وصار نسق (الفحل المتشعرن) هو النسق الأخطر والأكبر في تاريخنا الثقافي كله، سياسيًا واجتماعيًا، مثلما هو كذلك عقليًا وذوقيًا. ولقد فصلت القول في ذلك في كتابي (النقد الثقافي)، وأشرت هناك إلى المتنبي بوصفه رمزًا للشعرنة، وإلى الجاحظ بوصفه يمثل محاولة ثقافية لكسر النسق.

واليوم ونحن في عالم نجيب محفوظ قراءة وتذكرًا ووقوفًا على تقليد ثقافي كبير وعملاق، فإننا لن نعجز عن أن نتبين الدور الكبير الذي تسلمه هذا الروائي العبقري في مواجهة النسق دون أن يخطط بوعي تام لهذا الدور، ولكنه وصل إليه بنوع من الحدس الدقيق الذي مكّنه من تكرار محاولة الجاحظ، مع نجاح أكبر مما كان من قبل، وكلا الكاتبين، الجاحظ ونجيب محفوظ، اختارا النثر وسيلة في التعبير، واختارا السرد أداة، مثلما وظّفا السخرية بأشد وأدق أنواعها، وكلاهما ساخران وسرديان وحكائيان، وهما معا اختارا التعبير عن المهمش والمهمل والمسكوت عنه، واختارا أسلوبًا كتابيًا سهلاً وتلقائيًا يمثل الطبقات الدنيا من الثقافة، وهي مفارقة جذرية لكل ما هو شعري فحولي وطبقي، وهي أيضًا محاولة لتبني نوع من المجاز المخالف والتورية الثقافية المختلفة، كما أن الاثنين جاءا من داخل الطبقة الشعبية وسلكا طريقيهما بجهدهما الخاص، ولم يكن الجاحظ شاعرًا مسلحا ولا متكسبا باسمه وفنه، ولقد عاش الجاحظ طويلاً، وكتب كثيرًا ومثله نجيب محفوظ.

السيد الفحل

إن أشد ما يلاحظ هنا هو أن تجربة الكتابة عند نجيب محفوظ هي عمل واقعي وتمثيل معيشي يومي، وكذلك كان الجاحظ الذي أخذ من عالم الجواري والخدم والناس الحقيقيين وعالم الأعراب مادة لكتابته، وقدمهم بأسلوب واقعي وتلقائي، وهذا نجيب محفوظ يكشف لنا في أحاديثه الكثيرة عن أسرار نصوصه، ما يشير إلى المادة اليومية الواقعية لمكونات هذه النصوص، فبطلة ثلاثيته تحمل اسم (أمينة) وهو اسم شقيقته، كما (الحسين) كمكان وذاكرة ومصدر محبة وأحداث هي ما ورثه عن أمه، التي كان من ديدنها زيارة الحسين كل يوم، وأمه كانت بسيطة، وأمية، وكان في قلبها حب كبير وحكايات كثيرة، مثلما كان لهم جار شامي كان رجلاً قاسيًا في تعامله مع أهل بيته، وتمثلت فيه شروط الفحولة الصارمة والقسوة الذكورية المطلقة، وهو فحل متشعرن - حسب الصورة الشعرية النسقية.

هذه هي عوالم الثلاثية، وهي عوالم واقعية ولم تكن متخيلة، وكانت تمثل الواقعية الاجتماعية والثقافية، وهي واقعة ظرفية تكونت على مدى زمن الثقافة كله، ولم يجر نقدها، بل إن الخطاب الشعري تمثلها عبر صورة الفحل الشعري، وصارت نموذجًا تحتذيه الصيغ الثقافية كلها من الطاغية السياسي إلى المعلم والأب والفتوات في الحارة والمجتمع.ثم جاء محفوظ لينسج من صورة المرأة المسالمة المستسلمة في مقابل الفحل الطاغي قيمة سردية، وصنع للطاغية نموذج (سي السيد) وهو المرادف السردي للنموذج الفحل المتشعرن، وجعل أمينة هي الدلالة الثقافية على الكائن الإنساني الضحية، وإن كانت في النص هي الزوجة والأم، إنها في الثقافة تمثل المرأة ككل من جهة، وتمثل الشعبي والهامشي والإنساني، الذي ظل مقموعًا في السيرورة الثقافية كلها، ولقد أتقن محفوظ تمثيل شخصياته في وصفه للواقعة الثقافية أولاً، ثم في نقدها عبر كشفها وتعريتها.

في الشعرنة وفي الثقافة الشعرية كان المجاز الشعري يغطي العيوب ويحسن النواقص، فالسلطان الطاغية يصبح شعريًا أعدل الناس، والسلطان المستبد الذي يلعب ببيت مال المسلمين أصبح أندى العالمين بطون راح، وصار الكذاب كريمًا، وصار الكذب نفسه فنًا جماليًا راقيًا تتواطأ عليه الطبقات كلها، ولقد قالوا (أعذب الشعر أكذبه)، في تبرير ثقافي نسقي للغة الترويج الإعلامي الكاذب، وتسويق صورة الفحل المطلق، ولذا لعب المجاز الشعري لعبة خطرة في تغطية الجرائم، ومن ثم إدانتها وتعميمها وتحويلها إلى ذوق عام، وإلى جمالية ثقافية محتذاة، ومن هناك صار نسق الشعرنة.

نقيض الشعر

ثم لما جاءت تجربة الكتابة الروائية كاسرة هيمنة السنق الشعري، وجاء محفوظ ليكون أبرز ممثلي هذا الخطاب، لما جاءت جاء معها نوع مختلف من المجاز هو المجاز السردي (نقيض الشعري) وهو مجاز لا يغطي، ولكنه يعري، وهو مجاز لا يجمل بالفنيات، ولكنه يكشف بالنقص والإفصاح عن الواقع، وهو مجاز غير خيالي ولكنه نقدي وتلقائي، وعبر تلقائيته النقدية، فإنه يشخص الداء، ولا يسمي الورم شحمًا، ولكنه يعلن عن العلة ويمنحها اسمًا، ومن هنا جاءت أسماء مثل سي السيد وأمينة لتكون صفات ثقافية وسمات نسقية وليست مجازات تجميلية، وبنو أنف الناقة هنا هم الآثمون، وليسوا المجملين شعريًا وبلاغيًا في خطاب كان أبلغه أكذبه، أما خطاب السرد فإن أبلغه هو أفضحه، بما إنه يكشف الغطاء ويفتح العيون.

وإذا قلنا إن الخطاب ليس خياليًا فإن المقصود هنا هو ما نراه في نصوص محفوظ من أخذها للنماذج اليومية الحية والتفاعلية، مع عصرها في بوتقة اللغة السردية لتكون صورة لما هو حادث فعلاً، وبالتالي فهي تصور خطابي يقوم على الملاحظة والنقد، ومع بساطة نجيب محفوظ في شخصه وفي لغته فإن هذه البساطة تشبه البساطة السطحية للبحر، ومهما بدا البحر بسيطًا وتلقائيًا ومائيًا، فإن الغواص يدرك خطورة هذه البساطة، ويعلم ما تنطوي عليه من أعماق سحيقة قاتلة لمن يجهلها، كما أنها تحتاج إلى مقدرة فذة لكشف مخافيها، وهذا هو نجيب محفوظ الذي حول الواقعة اليومية إلى نص ناقد ونافذ في تعريته، وفي كشفه، ومن ثم في كسره للنسق الثقافي الفحولي، وفي فضح الشعرنة النسقية.


عبدالله محمد الغذامي