مقاربة سردية لموقف سياسي

مقاربة سردية لموقف سياسي

يظل إبداع نجيب محفوظ محكًا مسنونًا للمناهج النقدية والمواقف الفكرية في آن واحد، شأنه في ذلك شأن الأعمال الفنية الكبرى التي تخلدها القراءات المتوالية، وتعرض عليها مختلف الأجيال مفاهيمها ورؤيتها لطبيعة الأدب ومنجزاته الجمالية والثقافية.

امتد العمر بكاتبنا الراحل ليشهد تحولات جذرية في هذه المفاهيم، وتذرع بشيء من مكر أستاذه طه حسين عندما كان يريد أن يعبر عن اختلافه مع التيارات التي لا ترضيه فيدعي أنه لم يفهمها، هكذا قال طه حسين عن كتابات العقاد في عبقرياته، وهي العبارة ذاتها التي أُثرت عن نجيب محفوظ في تعليقه على أبحاث مجلة «فصول» للنقد الأدبي التي فتحت مطلع الثمانينيات، باب التحولات البنيوية وما بعدها في التحليل النقدي للإبداع، خاصة عند توظيفها لمنهج السرديات في نقد الرواية وتقنياتها الفنية.

وكان عقد السبعينيات قد شهد من قبل انفصامًا حادًا في الوجدان المصري والعربي تجاه محفوظ، عندما أعلن رأيه الصريح في مناصرة معاهدة السلام التي رفضها بشدة معظم المثقفين المصريين وانشقوا على السلطة السياسية، وتفاقمت موجات إدانة محفوظ عربيًا وتحريم كتبه، قبل أن تنحسر تدريجيًا عند تبخر أوهام السلام مع العدو الصهيوني، واتضحت صلابة الجبهة الوطنية في رفض التطبيع معه، وكانت فرحة حصول محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 بعد عقد كامل من السنوات العصيبة فرصة لمصالحة فكرية وإبداعية لتجاوز هذا الشرخ الوجداني، وأقيمت أول ندوة عربية في الرباط للحفاوة النقدية بمحفوظ إثر فوزه، ودعيت للمشاركة فيها، فتراءت في خاطري فرضية كنت قد اختزنتها من قراءاتي المتعددة لأبحاث «لوكاتس» الجمالية وتطبيقات «جولد مان» الذكية، وهي ضرورة التمييز بين الرأي والرؤية، فقد تكون آراء الأدباء التي يعبرون عنها مباشرة في كتاباتهم استجابة عقلية محسوبة لأوضاعهم الاجتماعية والثقافية، لكن رؤيتهم الحقيقية لا يمكن استخلاصها إلا بالتحليل التقني المتعمق لأعمالهم الإبداعية ذاتها. وعثرت على رواية محفوظ التي كتبها عن مصرع السادات «يوم قتل الزعيم» فأخذتها نموذجًا بليغًا لهذه المفارقة الكبري بين الرأي والرؤية، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما وجدت محفوظ في هذه الرواية ملتزمًا كليةً بموقف غالبية المثقفين المصريين في تعبيرهم عن ضمير الشعب الذي كان حينئذ رافضًا لسياسات السادات في السلام والانفتاح والأمركة. لكن سبيل إبراز هذه الرؤية نقديًا كان لابد أن يعتمد على منهج السرديات الذي أخذ يسود في النقد العالمي منذ الثمانينيات.

أعددت بحثًا لندوة الرباط عن «يوم قتل الزعيم» يتضمن قراءة سردية لرواية سياسية، مع ملاحظة أن القراءة السردية بطبيعتها جمالية، والعلاقة بين الجمالي والسياسي معقدة إلى درجة كبيرة، فلا يكفي أن نقول إن الخطاب الروائي السياسي يثير في العادة اهتمامًا غير جمالي في جوهره، لأن السياسة تعتمد على المتغيرات التي سرعان ما تنطفئ جذوتها، بينما العمل الإبداعي المستوفي لشروطه الفنية يستثير عند تلقيه اهتمامًا غير نفعي ولا موقوتا، بما يكمن فيه من عناصر شعرية، وعندئذ تتصل به دائرة الوعي الجمالي، بشكل يتجاوز معطياته المباشرة، لاستكشاف مكوّناته الناضرة التي تضمن له فعالية عالية وكفاءة أدبية مائزة.

متى تكون الرواية سياسية؟

وعندما أعيد قراءة هذه المقاربة السردية الآن يتجلى أمامي نموذج لما يقوم به الناقد العربي عادة من تركيب في منظوره النقدي، يتجاوز بكثير الفكرة الساذجة عن النقل عن الثقافة الأجنبية، إذ يمر بمصفاة الوعي القومي والحساسية الثقافية ليستقطر من الآخر عصارة منجزه العلمي ويمزجه بمكوناته الأصيلة ليتلاءم مع طبيعة المادة الإبداعية ويستجيب لأسئلتها الخاصة.

طرحت حينئذ سؤالاً عن ماهية الرواية السياسية لم يكن واردًا في أدبيات علوم السرد، أفدت في الإجابة عليه من تجربتي في بحث الأساليب الأدبية، حيث رأيت أنه يمكن الاعتماد على فكرة «المؤشر الأسلوبي» لتمييز الروايات السياسية عن غيرها. فكلما تعددت الإشارات المباشرة إلى المواقف والأحداث والشخصيات الماثلة في الواقع الخارجي عن النص، بأسمائها المعروفة تاريخيًا، صبغت العمل تدريجيًا بصبغة سياسية. لكن هذه الصبغة تصل إلى درجة التشبّع عندما تصبح إشارات السياسة الخارجية مسئولة داخل السياق الروائي عن مصائر الأشخاص ودلالاتها الأدبية، مما يجعلها مؤشرات نصية يتجلى فيها التطابق السببي بين منطق الحياة ومنطق العمل الروائي. وعندما تصل هذه المؤشرات إلى درجة محددة من الكثافة، دون أن تكسر قشرة العمل الفني بطابعها التخييلي، فإنها تزيد هذه القشرة صلابة وشفافية في الآن ذاته، حيث تتراءى عبرها علاقات عديدة، مباشرة ورامزة، بين سياق النص الداخلي وسياق الإطار الخارجي للواقع التاريخي.

وتطبيقًا لهذه الفكرة، نجد أن رواية «يوم قتل الزعيم» تتميز بطابعها السياسي الدامغ، فهي ابتداء من العنوان تعرض لشخص الحاكم، تدور في الزمن السياسي، في ذروة احتدامه، قبيل مصرع هذا الحاكم - السادات - الذي تخلع عليه بمفارقة مدهشة لقب الزعيم وتنفيه عنه في اللحظة ذاتها، لأن الزعيم الفعلي يأتي تعبيرًا عن إرادة جماعية حرة في اختياره، وحريصة على حمايته، مما يجعل من الصعب قتله، غير أنها تقدم هذا الموقف السياسي في جذره الاقتصادي المباشر الذي يمسّ حياة الناس العاديين وما أصابها من خلل، نتيجة الانفتاح الاستهلاكي الذي أدى إلى اهتزاز الأبنية القيمية وخلخلة العلاقات الإنسانية، تقدمه كعامل حاسم في توجيه حركة الحياة وتحديد مصائر الشخوص. وهي تؤثر أن تعرض لشخص الحاكم كعنصر إشاري عبر وعي الشخصيات الرئيسية في النص، عندما يصنعون تلقائيا مفارقة أخرى بارزة بمقارنته بالحاكم المضاد له والسابق عليه وهو عبدالناصر، الزعيم الصحيح، في مقابلات مستمرة تنتصب فوقها دلالة الحتمية السياسية للرواية، في لون من القص الصائب الخالد - على حد تعبير «فراي» الذي يعبر عن روح المجتمعات وأساطيرها الثابتة في جوهرها مهما تغيرت ملامحها الخارجية، على اعتبار أن لكل مجتمع إنساني شكلاً متميزًا من الثقافة اللغوية، تحتل فيه الحكايات والروايات مكانًا بارزًا.

تعادل الإيقاع الروائي

ولكي نكشف عن البنية الدرامية للرواية لا نستطيع الاعتماد على تحليل المضمون أو الوظائف السردية، بل لا بد من العثور على العناصر المهيمنة في النص، وقد برز منها عنصر مهم عند تحليل العنوان وهو «المفارقة» أخذ يتأكد في جميع الخطوات التحليلية، كما برز عنصر آخر يتعادل معه ويرد عليه وهو «الإيقاع» الذي يفرض وجوده على القارئ منذ الوهلة الأولى كذلك، بحيث تقوم الضفيرة الفنية المؤلفة من جدل هذين العنصرين بتغطية شبكة العلاقات الروائية في النص، وتفسر إلى حد كبير بنيته الدرامية وجهازه الجمالي المؤثر.

وإذا كان إيقاع الرواية يعني في المقام الأول سرعة أحداثها فإن هذا يقتضي بالضرورة مقارنة طرفين حتى يمكن أن نحكم بالسرعة، فنحن لا نستطيع أن نقول إن سرعة السيارة ثمانون كيلومترًا، إلا إذا فهمنا أنها تقطع هذه المسافة في ساعة زمنية واحدة، وإلا، فإن السلحفاة قد تقطعها في عام مثلا، ولا تصبح سرعتها مثل السيارة. ومعنى هذا أن الإيقاع يتطلب أولاً مقارنة زمنين أو طرفين، هما فيما يبدو - كما يقول «جينيت» - زمن الحكاية أو المدة التي تستغرقها الأحداث عادة في الحياة - وزمن قصّتها الذي تستغرقه في مساحة النص الأدبي. وربما كانت نقطة التعادل التي يعلن عنها المشهد الحواري هي ميزان قياس الأحداث وإيقاعها، حيث يتوازى زمن الحدث وزمن سرده كما يتجسد عبر النص، لا طبقًا للوقت الذي تستغرقه الكتابة فهو نسبي يختلف باختلاف العادات، ولا للوقت الذي تشغله القراءة، لأنه متفاوت مطاط هو الآخر، ولكنه يتجلى في عدد الصفحات التي تشغلها القطع الحوارية باعتبارها نقطة التقاء الزمان بالمكان. في لحظة متكافئة بين النص والواقع يسهل قيامها.

إلى جانب اشتمال الإيقاع على توازيات أخرى ترتبط بالعناصر المكونة للسرد. وأول ما يثير الانتباه عند بحث الإيقاع في رواية «يوم قتل الزعيم» أنها ليست تقليدية تقص الأحداث بطريقة متسلسلة لا يصيبها سوى التقطيع في شريط الزمن، بل تعمد إلى توظيف منظور الشخصيات في مستوى متطور من تيار الوعي، ما يجعل قياس الزمن فيها شديد التعقيد، حيث تتراكم المواقف واللحظات من منظور شخصيات أخرى في وحدات متوازية، الأمر الذي يؤدي إلى استثمار الزمن في عدة مستويات تنفذ إلى عمق الأحداث وتضاعف إيقاعها.

يتراوح الرواة بين ثلاث شخصيات، إذ يبدأ «محتشمي زايد» - وهو الجد - في طرح عالمه الخاص والمتغيرات التي تلاحقت عليه وعلاقته المميزة بحفيده ويشغل حديثه في المتوسط أربع صفحات، ثم يعقبه هذا الحفيد «علوان فواز محتشمي» ويشغل حديثه أيضًا أربع صفحات في تقديم دنياه وقصة حبه وإشكالاته، ثم يأتي دور «رندة سليمان مبارك» خطيبته الصابرة لتعرض وجهة نظرها في الموقف نفسه قبل أن تعود الدورة مرة أخرى للجد ثم للحفيد والخطيبة بانتظام سبع مرات كاملة حتى تستقر في نهاية المطاف عند تعقيب مقتضب للجد. أي أن وحدات القص المكوّنة لإيقاع الرواية الكتابي تبلغ 22 وحدة تتوزع بين الشخصيات على الوجه التالي:

- محتشمي زايد 8 وحدات تشغل من مساحة النص 27 صفحة منها الوحدتان الأولى والأخيرة.

- علوان فواز محشتمي 7 وحدات تشغل 28 صفحة.

- رندة سليمان مبارك 7 وحدات تشغل 26 صفحة.

ويلاحظ على هذا النظام السردي المتوازن جدًا في إيقاعه أنه يتسم بالتركيز الدرامي والاقتصاد في الكتابة، ويدور حول محورين يتعلقان بالشخصيات هما: العمر، حيث يقوم الجد بتمثيل الجيل القديم الموازي لجيل محفوظ، ويقوم حفيده وخطيبته بتمثيل الجيل الثالث وعمرهما يعادل سنوات عمر الجد وحده. ومن اللافت للنظر اختزال جيل الوسط في الخارطة الاجتماعية للأم والأب، بما يشير إلى إهدار تجربتهما في المشروع الاشتراكي المحيط وتهميشهما بالاستغراق في العمل دون نجاح في تقديم الضمانات الاقتصادية لأولادهما. أما المحور الثاني فهو الجنس، وقد يبدو أن مستوى التعادل قد اختلّ لصالح الذكور، فهم اثنان مقابل امرأة واحدة، لكن لو أخذنا في الاعتبار الشخوص الثانوية من ناحية، وطبيعة المشكلة المحورية في الرواية، وهي المسئولية الاجتماعية والاقتصادية على المستوى العملي المباشر وصراعها مع عواطف الحب والاستقرار من ناحية ثانية، نلاحظ ارتباط عدد الأصوات الروائية بالأدوار الوظيفية في الرواية. وهنا يستمر محفوظ في خلق توازياته المدهشة في الشخوص بين الجد العلماني من ناحية والصهر المتدين من ناحية أخرى، كما يقدم رمزًا للاستغلال السلطوي عند أنور علام - الموازي لأنور آخر، وأخته «جولستان هانم» التي تسعى لاختطاف المستقبل وإحباط مشاريع الشباب في الحب والحياة المتكافئة.

وعندما نقيس الإيقاع الروائي بين طرفي الزمن والكتابة نجد أن مساحة المشاهد الحوارية في هذا النص تبلغ تقريبًا 50صفحة، بينما يبلغ السرد 30 صفحة، أي أن نسبة المشاهد إلى غيرها تبلغ 5 : 3 مما قد يوحي بغلبة جانب الحضور في الرواية وإيثارها لحركة الحوار وفعل القول، لكن لو أخذنا في الاعتبار أن عدد كلمات الحوار أقل من الصفحة السردية لوصلنا إلى إدراك مدى الدقة التي بلغها محفوظ في التعادل الإيقاعي.

الانصباب السياسي

تتراءى الدلالة السياسية للرواية على مستويين، أحدهما يتمثل في رحيق مركز يعتصر مباشرة من مادة الخطاب الروائي ذاتها، والثاني يستخلص جملة حركة الشخصيات ومصائرها ودلالة المواقف برمتها في جدلية متسقة مع المستوى الأول، كي تمضي في اتجاه نوع من التآزر يسمى «الانصباب» ويعني تضافر المؤشرات والعناصر لتشكيل رؤية تمثل خلفية أيديولوجية غير مشروخة ولا مبعثرة، لا تتعرض للتشتت بفعل التقنيات الموظفة، بل تتجمع كلها في حركة متوالية متنامية وهي تتكاثف في هذه الرواية مثل قطع السحاب المتراكمة لصنع الأفق الخريفي الجاثم، وتصل إلى ذروتها في شهادة «مقهى ريش» الفاجعة المتكافئة مع فواجع النهايات الدرامية لقصص الحب والزواج، مما يكشف عن تناغم البنية الدلالية في مستويات الخطاب الروائي.مثلا: عندما يقدم علوان نفسه في علاقته المتجمدة بخطيبته رندة يقول: «أعلنت الخطبة في عهد الناصرية، وواجهنا الحقيقة في عصر الانفتاح، غرقنا في دوامة عالم مجنون»، أما خطيبته فتقول: «آه لو أمكنه أن يكون مهندسًا، كان «زمنّا» من أبطال الانفتاح لا من ضحاياه، وضحيــة أيضًا لـ 5 يونيو واختفاء البطل المنهزم، حائر لا موقف له» ويعود علوان لبلورة هذه الشذرات السياسية في انهماره قائلا: «كان يوجد حوار وضحك وحماس الدراسة، وسطوة البطولة.. احنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب. والحب كان باقة من الورد في قرطاس من الأمل، فقدنا زعيمنا ومطربنا الأول، ويخرجنا من الهزيمة بطل مضاد فيفسد علينا لذة النصر، نصر مقابل هزيمتين» هذه هي محصلة معادلة جيل الشباب في عهد الانفتاح الساداتي، ويبدو منها امتلاء النسيج الوجداني بأصداء البطولة المحبطة، وتحول موسيقى الأمل إلى لحن جنائزي أسيف، يتم ذلك عبر لون من التناص في جملة واحدة من أغنية عبدالحليم حافظ. تشير إلى الزعامة الأولى بما كان لها من شرعية ثورية وإرادة منتزعة بقوة من حناجر المطربين لا من صناديق الانتخاب الشفافة، أما عندما جاء السادات فقد تحول النصر إلى مرارة الانكسار بالسلام في مفارقة فادحة.

وعندما يبدأ هذا الجيل في التسلّي بحصر أعدائه تقول الفتاة:

- غول الانفتاح واللصوص الأماثل.. فيرد عليها خطيبها: هل ينفعنا قتل مليون؟

فتقول ضاحكة: «قد ينفعنا قتل واحد فقط»، وهو ما يحدث في نهاية الرواية ويتجلى في عنوانها. أما شهادة «مقهى ريش» فهي البؤرة التي تتركز عندها نقطة تجمّع الإشارات السياسية، يقول علوان لنفسه ولجيله: «مقهى ريش منقذ من الضجر والوحدة، هنا معبد تقدم فيه القرابين إلى البطل الراحل الذي أصبح رمزًا للآمال الضائعة، آمال الفقراء والمعزولين. هنا أيضًا تنقض شلالات السخط على بطل النصر والسلام، النصر يتكشف عن لعبة، والسلام عن تسليم، على مسمع من السياح الإسرائيليين أسمع وأهنأ بشيء من العزاء، كم أمة تعيش جنبًا إلى جنب في هذه الأمة».

هذا حديث الحفيد لنفسه وهو في ذروة مأساته، عندما يقدم رؤية الشطر الأكبر من جيله الرافض لتعدد الاستجابات، والذي يدين الحياة من حوله بشكل قاطع ودامغ، منطلقًا من حركة الأشياء والأشخاص الحسية، حيث يندغم المصير الشخصي في الصيرورة القومية، ويصبح فشله في الحب ودموية الزواج نموذجًا للعبة التسليم وخيبة المشروع القومي.

من هنا تصبح إشارات مقهى ريش ربطا عضويًا بين الرواية وشوارع العاصمة وبيوتها، فالمقهى رمز للضمير المصري وهو يسخر من الزعيم الزائف بقوله «ما هو إلا ممثل فاشل، صديقي بيجين، صديقي كيسنجر.. الزي زي هتلر والفعل شارل شابلن، لا خلاص إلا بالخلاص من «كامب ديفيد»، العودة إلى العرب والحرب»، ثم تكون نهاية الزعيم الفاجعة تجسيدًا للمفارقة الكبرى بين رأي نجيب محفوظ في كتاباته الصحفية ،ورؤيته التي تشف عنها بجلاء أعماله الدرامية، خاصة هذه الرواية نموذجًا لصدق الفن ودهائه.

ومهما كان منظورنا لهذا الموقف السياسي بعد أكثر من عقدين من الزمان فإن التحليل السردي التقني هو الذي كشف عن قدرة الإبداع على الإصابة في تجسيد ضمائر الشعوب وتقديم أساطيرها الكبرى في جوهرها الخالد على مر الأيام.
-------------------------------
الحق أني وجدت نفسي على باب المسرح. والظاهر أن انفعالاتي الأخيرة وجدت في الحوار خير معبّر عنها. لذلك طغى الحوار على السرد والوصف في القصص ابتداء من «أولاد حارتنا» حتى كاد يستأثر بها في «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» وبعض القصص القصيرة. وكانت المسرحيات الخمس القصيرة هي النتيجة الطبيعية لذلك. ولكن المسرح حياة قائمة بذاتها، لها تربيتها الخاصة وذوقها الخاص وحاستها الجماهيرية المحددة. فليس المسرح تعبيرًا بالحوار.

ولذلك لا أعتقد أنني تحولت إلى المسرح.

صلاح فضل 




نجيب محفوظ وعلى صدره قلادة النيل في الاحتفال الذي اقيم من اجله في القصر الجمهوري بمصر





 





امتد العمر بنجيب محفوظ ليشاهد تحولات كبيرة في التاريخ وفي حركة المجتمع العربي