رسامو عالم نجيب محفوظ

رسامو عالم نجيب محفوظ

حين تدخلُ مقهى ريش، في وسط القاهرة، تستقبلك لوحة للفنان جورج البهجوري، جمع فيها وجوه أجيال من مبدعي مصر المجايلين له، والسابقين عليه؛ بين روائيين وشعراء، رسامين ومطربين، ممثلين ومضحكين. ستجد أم كلثوم وأحمد رامي، وتتعرف إلى كامل الشناوي وتوفيق الحكيم، وتتأمل صلاح عبد الصبور وطه حسين، وتتذكر يوسف إدريس ورشدي أباظة، وتعيش مع ريشة جورج البهجوري وكلمة حسن فؤاد وسخرية عادل إمام. وسط كل هؤلاء سيبدو لك وجه نجيب محفوظ مبتسمًا كعادته، كأنه يرتاح لهذا الزحام. والواقع أن هذا الرسم لنجيب محفوظ ليس جديدًا عليه، فوجوده وسط الزحام يشكل جزءًا من حضوره القوي في الذاكرة. ولن تجد لنجيب محفوظ صورة إلا بصحبة الحرافيش حينا، والحواريين حينا آخر، إنه يعيش - دائمًا - بين المستمعين له، والشاخصين إليه، والمعجبين بعالمه.

هذه الصورة الحية لنجيب محفوظ وسط الزحام، كان لها صداها حين رسمه الفنان المصري، لأن مفردات الصورة كانت جاهزة أمام الباليتة: إنه عالم المقهى التقليدي، والحارة الشعبية، والرجال الفتوات، والنساء اللائي يتمايلن مع سطوره فتتأرجح لهن ريشة الرسام مستجيبة للشهوة والفتوة، أو طائعة للدلال والجمال.

هكذا برع الفنان الراحل جمال كامل وهو يصور شخصيات نجيب محفوظ على صفحات مجلة صباح الخير التي صدرت في 1956، خالصة للفن الجديد، لتعيش بها شخصيات محفوظ بحسها الشعبي، وروحها المتقدة. وعلى عكس أغلفة المجلة الشابة التي وضع فيها الرسام وجوه بنات القاهرة الجديدة في الجامعة والعمل والنوادي، حية وبضة، راح يرسم شخصيات ساخرة في المتن مع تعليقات أكثر سخرية، وعلى عكس الكلمة التي يصف بها محفوظ شخصياته، موجزة ومحددة، رسم جمال كامل الشخصيات بريشة حرة، وخطوط لا نهائية، تأخذ رتوشها من المكان، وتتماهى معه، وتنفتح عليه، فكأنه يقوم بتأويله الخاص - والحقيقي - بأن هذه الشخصيات مثل خطوط تتماس وتتقاطع وتتقابل مع عالم نجيب محفوظ في قاهرته التي يعرفها وتألفه، بينما كان البورتريه الذي صوره جمال كامل لمحفوظ يستحضر شخصية الأديب في بساطتها وتواضعها.

وسط الزحام ـ أيضا ـ يأتي محفوظ في الزحام بريشة الرسام صلاح عناني مرتين، الأولى بين العمالقة، من أم كلثوم إلى جاهين، ومن بيرم التونسي إلى طه حسين، أما في المرة الثانية فيجلس متواضعا في زحامه الأثير، حيث تبدو ناصية اللوحة كناصية المقهى، ويتصدر محفوظ جدارية عناني، لينطلق من ورائه عالمٌ حي، وكأن العالم الفني كتابٌ عن الحارة والمقهى، غلافه نجيب محفوظ، وسطوره موزعة بين الشارع والشرفات. هو ذلك العالم الصاخب المَوَّار، الذي يختزله الكاتب في سطور وكلمات، لكن الرسامين حين ينقلونه تتحول الكلمات إلى لحم، والسطور إلى دم، بيسر معجز، وفضاء مزدحم، لأن أدبه مرآة للواقع، أو هو بصورة أدق: صورة لواقع روائي فذ، يجد قارئه معه مستويات من التأويل الفكري والمتعة البصرية.

لكن عناني وكامل لم يكونا وحدهما اللذين صورا محفوظا وعوالمه، شخصه وأبطاله، زمانه وأماكنه. فبين الجيلين اللذين يمثلانهما تنوعت صور محفوظ في مخيلة الرسامين، ولم يكتفِ أي رسام بصورة وحيدة للكاتب الكبير، تجمع بينه وبين أبطاله، أو تجسد وجهًا أو أكثر من وجوهه، مثل الصورة التي جعلها له الفنان صبري راغب وجمعت بين خفة مستمدة من ضحكة مجلجلة وصلابة عبرت عنها لمسات قصيرة، تسجل عباراتِه القوية، وتوثق مسيرته الصارمة وترصد وقع خطوات حياته الدقيقة كساعة سويسرية.

وفيما جمع راغب الوجهين في لوحة واحدة، قدم الفنان مصطفى حسين صورة نجيب محفوظ مرتين؛ الأولى يبدو فيها الرصين، المكتبي، الذي يواجه الناظر إليه كآمر وناه معًا، يملأ الحيز بجسده المتماهي مع الخلفية ككتلة واحدة تسد البصر، إنها صورة الفائز المكرم المتوّج، فيما تقدم الصورة الثانية الوجه الفكه، والطابع المتواضع، حيث يجلس مستندًا إلى طاولة معدنية في مقهاه الشعبي بصحبة فنجان من القهوة، وجسد نحيل، ونظارة سوداء لم تخف «الحَسَنَة» التي ميزت وجهه على مدى عقود طويلة.

هذه «الحَسَنة» الزائدة كحبة طرية تتدحرج حتى تستقر نهاية الخد وكأنها على وشك الخروج من مدار كوكب ابتسامته، كانت محور الرسوم التي خصها به الكثيرون من الفنانين: جمال قطب، وجمال كامل، وحلمي التوني، وبهجت عثمان، حتى الغلاف الذي يزين هذا العدد من «العربي» للفنان محمد حجي.

تحولات واستجابات

إذا كان ذلك حال الرسام مع الأديب، فكيف يجد الرسام نفسه مع مستويات من الرسوم التشخيصية، في محاولة الإجابة بريشته عن السؤال الأبدي، هل يصور ويشخص أبطال نجيب محفوظ، أم يؤوّلهم ويحولهم إلى رموز فنية جديدة؟

إنه السؤال الذي أجاب عنه الحفار الكبير الحسين فوزي حين قام بما يعد ترجمة بصرية لعالمه. ففي عام 1959 رسم فصول رواية «أولاد حارتنا» المنشورة في 100 لوحة بجريدة «الأهرام» عاش معها القراء نحو العام. أما الفنان جمال قطب فقد أصبح اسمه لصيقا بعالم نجيب محفوظ، حين رسم أغلفة رواياته وقصصه القصيرة من بداياته الأولى وحتى أعماله الأخيرة في أكثر من خمسين عملاً، سواء تلك الصادرة عن دار النشر أو المنشورة في مجلة الدوحة.

ونرى كيف تطورت ريشة جمال قطب مع التطور الفكري والفلسفي لكتابات نجيب محفوظ، بدءًا من الواقع والتاريخ «رادوبيس» والفانتازيا كما في روايات محفوظ الأولى، إلى التناولات الفكرية والنفسية «السراب» والرمزية «زقاق المدق»، وصولا إلى عالم العبث واللامعقول كما في «تحت المظلة». بل واستعار جمال قطب ابتسامة نجيب محفوظ في أكثر من بورتريه، وهو يجلس محاطا بأبطال رواياته.

لم يكن أبطال نجيب محفوظ بهؤلاء البسطاء كما يبدون أمامنا، لأن داخلهم عكس خارجهم مليء بالتقلبات، وإذا كانت اللغة القصيرة الموجزة والملغزة تقدم الفضاء الروحي الذي تسبح فيه أحلامهم، فإن الأحداث التي يمرون بها ويساهمون فيها تعكس عنف الدراما التي يضعهم محفوظ في أتونها. وبين هذا وذاك ستجد وجهي الشخصية في الأدب، مثل سي السيد، فكيف يعبر عنها الفن، وليس أمامه سوى أن يرسم لوحة ستاتيكية، ذات وجه واحد، وموقف وحيد؟

رحلة المرايا

هنا تبدأ رحلة الفنان سيف وانلي مع «المرايا» التي عكست لنا وجوه شخصيات عاشت نصف قرن من الأحداث الأكثر تغييرًا في تاريخ مصر (ما قبل 1919 وصولا إلى 1967). فقد لخص وانلي شعر محفوظ الروائي خطوطا بسيطة صريحة ومساحات لونية كريمة تبوح بغزارة المعنى، لكنه اختار في الوقت نفسه ألوانا تعبر عن «جوانيات» الشخصية، بتقلبها حينا، وتناقضها حينا آخر، وانفتاحها على التجدد أحيانا أخرى. لقد قرأ سيف وانلي شخصيات نجيب محفوظ ولكنه رسم كائنات تجمع بين عالم الكاتب وفضاء الرسام. وكأنه كان يستمد الإلهام من نبعين، أحدهما مزدحم جارف مثل حارة في قاهرة محفوظ وثانيهما صاف وخلاب كبحر في إسكندرية وانلي.

والمثير أن سيف وانلي كان يدرك مثل كثيرين أن شخصيات المرايا إنما فيها من الواقع أكثر مما فيها من الخيال، وإذا كان القارئ يحاول أن يصل إلى الاسم الحقيقي للشخصية التي يحكي عنها محفوظ، فإن وانلي كان يفعل العكس بأن يبتكر شخصيته الأثيرة، لأنه لم يكن من مصوري الزينة، وإنما كان من رسامي الصفوة.

ففي «المرايا» يُفتتح التصوير بأول لوحة تبين رأس الدكتور إبراهيم عقل المائل في الرسم، وهو ميلٌ يفصح عن «الهوى» ويفضح العقل الذي مال معه فكره، واتهامه بتشويه الدين من خلال رسالته الجامعية التي نالها في السوربون، وربما هذا ما تشير إليه طأطأة رأسه أمام الجماهير أيضا. هكذا يعكس وانلي في إيماءة عابرة أفكارًا كاملة. أما النجوم الثلاثة التي تزين خلفية صورة أحمد قدري فهي تشير إلى عالم صاخب يوازي الشهرة في السينما والسكر في الحلوى، وهما ما يذكرهما الكاتب صراحة كمتلازمتين للشخصية. إن النجوم في الخلفية تعبر عن ماضٍ لامع، في حين تجسد تقطيبة الجبين في مقدمة الصورة الحزن المقيم الذي آل إليه، بعد أن تنازعت الشخصية قصص مفزعة. والعجيب أنك حين تتأمل شخصيات نجيب - وانلي تجد فيها صورة اليوم، وإن كنا نأمل ألا نراها مجددًا في الغد، هكذا هي شخصية «شرارة النحال» عامل التليفون الذي تسلل بواسطة وظيفته إلى داخل «الوفد»، ليرشح من يشاء من أعضاء، ويزور ما يشاء من انتخابات، بوصوليته الرقيعة، إنه قادم من المجهول بطربوشه المائل، وشفتيه المخضبتين باللون الأحمر، وربطة عنقه التي ترسم دوره وانتقاله من عالم الياقات الزرقاء إلى دنيا الياقات البيضاء. إنها مثل كل الصور، وكأنها شخصيات تتأمل نفسها في المرآة، تتأنق لتخفي كذبها، وتتألق لتخبئ ما بقلبها.

لكن مفردات المكان لا تغيب عن مرايا محفوظ وصور وانلي، شباك في حارة هنا، ومصباح في غرفة هناك، وجريدة بينهما. بين طاولة في مطعم أو مقهى تتخلل السطور والصور. واجتهد وانلي بذكاء ونجاح سخيين في أن يضع أمامنا صور بورتريهات أبطال محفوظ لتفصح عن باقي الجسد، في هيكله وربعته، في مرضه وثقله، في قصره وطوله، لأن تلك صفات كانت تعني الكثير في النص الروائي. فملامح الشراسة وضخامة الجسد تترجم الشرور والعدوانية. أما إذا رسم فتاة الأحلام؛ فيرسمها لتبدو كفراشة حرة كما في كلمات محفوظ: أجمل الفتيات، وأطولهن، وأحظاهن بنضج الجسد الأنثوي، تلون بخفة الوجنتين والشفتين، وتضيق الفستان حتى ينطق، وتتبختر في مشيتها.

كان رجاء النقاش وهو في رئاسة تحرير مجلة «الهلال» قد خصص عددا كاملا عن نجيب محفوظ (سنة 1970)، وحين ترأس تحرير مجلة «الإذاعة والتلفزيون» عام 1971 اختار رسوم سيف وانلي لتصاحب فصول «المرايا» التي تنشر مسلسلة أسبوعيا. وإذا كان النقاش قد اختار بذكاء رسوم سيف وانلي ليقدم بها محفوظ إلى قراء «الإذاعة والتلفزيون» فإن الكاتبة سناء البيسي التي أسست مجلة «نصف الدنيا» قد اختارت الفنان محمد حجي ليرسم «أحلام فترة النقاهة» في نقلة ذات مغزى تعبر عن المرحلة التي انتقل إليها الأديب نفسه. فالفانتازيا التي يعيش فيها حلم نجيب محفوظ السردي كانت بحاجة إلى فنان يجعلها من لحم ودم. وكان اختيار حجي مناسبا لأنه جسد في رحلته التشكيلية الكلمات قبل أن يشخص الوجوه. ليأتي تعبيره عن أحلام فترة النقاهة تشكيلا للحالة، ومن هنا بعثر في الحلم الواحد أيقونات ذات مغزى تردنا إلى عالم تفسير الأحلام، وكأنه كان يحلم بالنيابة عنا وعن الكاتب معا، مثلما برع في سكب فضاء باذخ تسبح فيه مفردات الحلم، ليعبر عن غرقنا في النوم الموحي. إنها نقلة أخرى في تجسيد أبطال ومعاني نجيب محفوظ، أخذت من واقع الأبطال شيئا، ومن سوريالية الأحلام شيئا، ومن ريشة التفسير الحجي أشياء.

العين الأخرى

وإذا عدنا إلى رسوم «المرايا» نجدها قد أعيد نشرها مجمعة مع ترجمة روجر آلن للنص، الذي صدر عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة، التي أخذت حقوق نشر أعماله إلى جميع اللغات. وقد رأى الناشر الجديد لأعمال محفوظ المترجمة أن الرسوم التقليدية لجمال قطب والتي ميزت عالم نجيب محفوظ قد تسيء إلى الروايات، حيث إنها تشبه أغلفة الروايات الرخيصة أو الشعبية في الغرب، لذا تم اعتماد تصميمات جديدة للأغلفة المترجمة، إما من دون رسوم، أو أن تكون مصحوبة بصور فوتوغرافية، أو أن تنشر مع صورة الكاتب نفسه، أو رسوم بخطوط عفوية وتلقائية بلون أسود تشبه رسومًا تحضيرية «اسكتشات»، تذكرك بشخبطة أطفال الحارة الذين استلهمهم الفنان جورج البهجوري نفسه في أعمال زيتية لاحقة.والواقع أن التأويل الأجنبي لعالم محفوظ كان يستمد جذوره من تلقي القارئ البصري للسرديات في العصر الحديث. فكثيرًا من الروايات اليوم لا تفسر بصريا الرواية، تاركة الخيال جامحًا بخيله إلى آخر المضمار، يقوده القارئ أو الناقد حيث يشاء، لكن ذلك لم يكن مناسبا وأنت تقدم عالم محفوظ إلى القارئ العربي قبل عقود. وما يؤكد قولنا أن التأويل العربي المعاصر لروايات نجيب محفوظ قد اختلف، ما بدا واضحا في الطبعة الأحدث لأعمال محفوظ لدى ناشره الجديد «دار الشروق» ورسامها الأمهر الفنان حلمي التوني.

فقد غابت التفسيرات المباشرة للشخوص، وسبح اسم نجيب محفوظ عاليا، ليكون أهم ما في الغلاف، وتنوعت الأرضية بلون تدرجت باليتته مع كل عنوان، واستند ركن الغلاف إلى أيقونة أو أكثر من مفردات حلمي التوني الشعبية البهيجة وما أكثرها وهي تتماس مع عالم محفوظ القاهري والشعبي. ولعل تلك الأغلفة وهي تقدم قراءة جديدة لروايات محفوظ، ولعبا على عناوينها، وتنويعا في كشف شخوصها، تضيف مع رسوم التوني لتسع من نساء محفوظ يراها قارئ «العربي» لأول مرة في هذا العدد بعدًا جديدًا لرسامي عالم نجيب محفوظ.
-------------------------------------
فكرة السيرة الذاتية تراودني من حين لآخر. أحيانًا تراودني كسيرة ذاتية بحتة وأخرى ترادوني كسيرة ذاتية روائية. ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير ومغامرة جنونية وبخاصة أنني عايشت فترة انتقال طويلة تخلخلت فيها القيم وغلب الزيف وانقسم فيها كل فرد إلى اثنين، أحدهما اجتماعي تلفزيوني، والآخر ينفث حياة أخرى في الظلام.

 

أشرف أبو اليزيد 





وجوه أجيال من مبدعي مصر، روائيين وشعراء ورسامين ومطربين وبينهم وجه نجيب محفوظ يبدو مبتسما كعادته





نجيب محفوظ الفتوة بريشة صديقه الفنان بهجت عثمان





.. ومتأملا بريشة مصطفى حسين





.. ومتأملا بريشة مصطفى حسين





ومنضبطا كالساعة بريشة حلمي التوني





شخصيات من حارة نجيب محفوظ بريشة جمال قطب





شخصيات من حارة نجيب محفوظ بريشة جمال قطب





شخصيات من رواية «المرايا» كما تخيلها الفنان سيف وانلي





شخصيات من رواية «المرايا» كما تخيلها الفنان سيف وانلي





شخصيات من رواية «المرايا» كما تخيلها الفنان سيف وانلي





شخصيات من رواية «المرايا» كما تخيلها الفنان سيف وانلي





 





 





 





مجموعة المؤلفات الكاملة لنجيب محفوظ التي أصدرتها الجامعة الأمريكية في القاهرة