رحلة الشاعر في بحار الفكر

رحلة الشاعر في بحار الفكر

أوراق أدبية

يواصل ناقدنا الكبير حديثه عن الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور وهو يكشف عن رحلة تأثر فيها الشاعر بالفلسفة الوجودية, وأبحرت قصائده بعيداً في بحار الفكر.

النقلة يسيرة جداً بين الجمل الحكيمة بمجازاتها اللامجازية في قصائد ديوان (أقول لكم) والجمل النثرية التقريرية التي تخلو من المجازات الحية في مثل هذا المقطع من قصيدة (الظل والصليب) بالديوان نفسه:

أنا الذي أحيا بلا أبعاد
أنا الذي أحيا بلا آماد
أنا الذي أحيا بلا أمجاد
أنا الذي أحيا بلا ظل... بلا صليب
الظل لص يسرق السعادة
ومَن يعش بظله يمشي إلى الصليب, في نهاية الطريق
يصلبه حزنه, تسمل عيناه بلا بريق

وكانت هذه الأسطر وأمثالها صدمة كبيرة للقرّاء الذين لم يتعوّدوا هذا النوع من التكرار, مضفوراً بتلاعب ماكر في توزيع كلمات مقصودة بدلالاتها, وكان يمكن لهؤلاء القرّاء أن يتقبلوا التكرار في أسطر من مثل:

وجه حبيبي خيمة من نور
شعر حبيبي حقل حنطة
خدا حبيبي فلقتا رمان
جيد حبيبي مقلع من الرخام
نهدا حبيبي طائران توأمان أزغبان
حضن حبيبي واحة من الكروم والعطور
الكنز والجنة والسلام والأمان
قرب حبيبي

فموضوع الغزل يتجاوب مع التشبيهات المستخدمة, ومع استلهام (نشيد الإنشاد) في (العهد القديم) وحسيّة التشبيهات مناقضة للتجريد الذي تعرى به الأسطر من الصور التي تتجسّد بها مثيرات عاطفية دالة.

الظل والصليب

لقد كانت القصيدة بالمقطع الذي استشهدت به شعراً بالتأكيد, ولكنه شعر مختلف, سعى به صاحبه إلى اقتحام بحار الفكر, وصياغة فكره الشعري المتأثر بالوجودية من ناحية, وتقنيات شاعر مثل ت.إس.إليوت من ناحية مقابلة. أما التقنيات فهي مرتبطة بالتكرار الذي أدركه العارفون بشعر إليوت, فقد كان الشاعر يكرر لفظتي (الفكر) و(الموت) على نحو قريب من تقنية تكرار إليوت لكلمتي (الكلمة) و (العالم) في الحركة الخامسة من قصيدة (أربعاء الرماد) التي ترجمها ماهر شفيق فريد على النحو التالي:

إذا كانت الكلمة الضائعة قد ضاعت, إذا كانت الكلمة المبددة
قد تبددت
إذا كانت الكلمة غير المسموعة ولا المنطوقة
لم تنطق ولا سمعت
فستبقى رغم ذلك الكلمة غير المنطوقة, الكلمة غير المسموعة
الكلمة دون كلمة, الكلمة الكامنة
في العالم ومن أجل العالم

أما الفلسفة الوجودية فإن معرفتها فتحت الباب لأربابها إلى فهم دلالة (الظل) من حيث إشارته الرمزية إلى الذات الأخرى للإنسان, أو الآخر الذي ننطوي عليه. أقصد إلى وعينا الذاتي الذي يدفعنا إلى مجاوزة ذاتنا الضيقة وحضورنا المحدود, بحثا عن حضور أوسع, وقصدا إلى ممارسة فعل الوجود الخلاق. لكن هذه الذات الأخرى هي سر متاعب الإنسان, لأنها تدفعه إلى مفارقة ما ألفه من راحة أو استرخاء أو خدر واستسلام, وتدفعه إلى اختيار ما قد يفضي إلى الخطر, أو يقود إلى المحظور المقترن في القصيدة بجبال الملح والقصدير, شأننا في ذلك شأن أورست بطل مسرحية (الذباب) لكاتب الوجودية الأشهر جان بول سارتر, ذلك الذي كان عليه أن يختار كي يمارس فعل الحضور في الوجود, وأن يتقبل نتيجة اختياره التي تمثلت في (الإيرينيات) المسلطة عليه, لكنه يتقبل مصيره, مدركاً أنه الثمن الذي كان عليه دفعه ليمارس اختياره الحر, ويعيد العدل إلى مجراه, متقبلاً مصيره المروع, غير نادم مثل أخته إلكترا التي تراجعت, ونقضت حريتها التي تخلت عنها في النهاية, فلم تحقق إنسانيتها على نحو ما فعل أخوها الذي جاوز ذاته الضيقة, وحفر بفعله علامة بارزة لحضوره في الوجود, فالذي يختار يمشي إلى مصيره, أو يمشي إلى صليبه الذي ينتظره أو يصلبه منذ لحظة الاختيار.

السأم وكبرياء الحضور

ولابد أن تفضي معرفة الإنسان بمصيره, نتيجة فعل اختياره على هذا النحو, إلى معاناة السأم الذي يلازم توقع المعروف, والذي لا ينجي منه حتى الإحساس بكبرياء الحضور في الوجود الذي يغتني بفعل الاختيار. ولذلك ينهض إنسان هذا العصر الذي هو سيد الحياة, في فعل اختياره الحر, ملازما السأم الذي لا يفارق الحياة, ولكن الذي تفيض معاناته المعنى على نقائضه من الذين يموتون بالمجان, أولئك الذين لا يعرفون نقمة الاختيار التي تنطوي على نعمتها الخاصة, فسيموتون قبل الموت, وينهزمون حتى قبل خوض المعركة, مثل ذلك الملاح الذي ينتابه الهلع, فيطلب الرعاية من الآلهة التي لا تأبه به, وينكسر قبل المواجهة, فلا يعاني بهجة أن يعيش في مشارف المحظور, ويموت قبل أن يذوق لحظة الرعب البهيج والتوتر الخصيب.

ومَن يدرك هذا كله لابد أن يدرك قيمة هذه القصيدة العلامة, ويدرك سر غوصها في بحار الفكر تأسيساً لنوع غير مسبوق من الفكر الشعري. وكان ذلك التأسيس متجسّداً في بناء فني عنقودي, عماده الصوت الصارخ في القصيدة على هيئة ضمير المتكلم الذي يختفي وراء ما يشبه القناع, لكن دون تحديد لملامح القناع أو مسمّاه, ومن ثم الحفاظ على درجة التجريد التي تصل مصدر الصوت بإنسان العصر الذي يعيش زمان السأم, بلا أبعاد ولا آماد ولا أمجاد, لأنه يعيش بلا ظل ولا صليب. وتتشكّل حول هذا الصوت أربعة مقاطع, كل مقطع يمضي في اتجاه دلالي مغاير لغيره, لكنه يعود في تجاوب الدلالة الكلية ليتصل بغيره, كما لو كنا إزاء حركات متجاوبة في سيمفونية كلية الدلالة. ولا ينسى الشاعر الماكر الذي يعرف صنعته - كما وصفه لويس عوض بحق - أن يكسر رتابة التكرار وعري التجريد بأمرين. أولهما: خلق نموذج الملاح الذي ينتف شعر الذقن في جنون, ويدعو إله النقمة المجنون أن يلين قلبه, وينشده أبناءه وأهله الأدنين, ففي هذا النموذج من التعين والتشخيص ما يثير عين المخيلة وسمعها, ويوقف تدافع الأسطر التقريرية أو انزلاقها على الذهن. ومن ثم تأمل تفاصيل أحوال ذلك الملاح الذي يغدو معادلاً موضوعياً لإنسان يحيا بلا ظل وصليب, ومن ثم بلا آماد ولا أمجاد. وعندما ينطوي اختيار (الملاح) على معنى القيادة, في مخاتلة الرمز الذي يومئ إلى السياسي حتى في قلب الوجودي, يغدو التلميح السياسي دالاً على (ملاّح) آخر تفضي أعماله إلى غرق رعاياه في آلاف الليالي من زماننا الضرير, أو سجن المئات في المعتقلات التي كانت لا تزال مغلقة الأبواب على كثير من الأصدقاء والزملاء الذين تقبّلوا صليبهم بشجاعة, لأنهم اختاروا ظل الذات الأخرى للتحدي الصريح دون مواربة أو كناية.

ومن هذا المنظور الأخير, تكتسب دلالة السخرية بعدا مضافاً في مقطع:

قلتم لي
لا تدسس أنفك فيما يعني جارك
لكني أسألكم أن تعطوني أنفي
وجهي في مرآتي مجدوع الأنف

وهي سخرية تكسر الرتابة, وتلقى بمراوغتها حجراً يكسر احتمال ركود الاستجابات القرائية, فتستفز المتلقي إلى فهم الدلالة المكنية المبنية على المفارقة.

فعل القمع

وإذا كان (جدع الأنف) يثير معنى القمع الواقع على الكائن, حين يرغب في ممارسة فعل حضوره الخلاّق, سواء بالمعنى الوجودي أو المعنى السياسي الاجتماعي, فإن معنى القمع لا يكتمل إلا بوصله بزمن الحق الضائع الذي تلتبس فيه المعرفة وتختلط الأفعال, فلا يعرف مقتول من قاتله ومتى قتله, ويفقد البشر إنسانيتهم التي تمايزهم عن صنوف الحيوان, فتتطاير رءوس الناس على جثث الحيوانات ورءوس الحيوانات على جثث الناس. ولا يبقى لكل مَن حاول أن يقترب من ظله إلا أن يتحسس رأسه, وهو يمضي في فعل اختياره.

وأحسب أن قصيدة (أقول لكم) الطويلة التي أطلق صلاح عبدالصبور اسمها على الديوان هي الامتداد الطبيعي لقصيدة (الظل والصليب) بأكثر من معنى. أولها أن صوت المتكلم واحد, وهو ضمير المتكلم المباشر الذي يبين عن حضوره في الحالين. وثانيهما أن (أقول لكم) امتداد برمز الصليب المسيحي إلى أصل مجاله الرمزي, حيث كلمات المسيح التي كان يبدؤها بعبارة: (الحق أقول لكم). وثالثها اختيار الظل باختيار دور القدّيس المستعد لافتداء مَن حوله بدمه, وذلك في نوع من الإرهاص بولادة (الحلاج) اللاحقة, الولادة التي يؤكدها تكرار المقطع:

إليّ, إليّ, يا غرباء, يا فقراء, يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء...

وهو مقطع يرد الاجتماعي على الوجودي فيما يشبه ردّ العجز على الصدر, إذا جاز استخدام مصطلح البلاغة العربية القديمة. ورابعها الدرامية التي تجمع ما بين القصيدتين في المنطقة التي تتجاوب فيها الأصوات المتباينة والمتعارضة حتى داخل (الأنا) الواحدة.

شاعر مثقل بالحزن

وتبدأ (أقول لكم) بما يشبه التقديم الدرامي للبطل, في مونولوج يجيب عن السؤال المضمر: مَن الذي يتحدث? والذي يتحدث شاعر مثقل الوعي بالحزن والكآبة.

المهم أن الذي يتحدث في هذا السياق شاعر مفكر, الحكمة هي ما يقدمه للأصحاب وللتاريخ, خلاصة سعيه في الأرض, ورحلته وراء المعنى, وهو شاعر يعي تراثه, ومكانته في سليلة الأسلاف, ويدفع عن نفسه احتمال تهمة التقصير بطمعه في كرم المستمعين الذين يرجوهم قبول عذره:

.... ما كنت أبا الطيب
ولم أوهب كهذا الفارس العملاق أن أقتنص المعنى
ولست أنا الحكيم رهين محبسه... بلا أرب
لأني لو قعدت بمحبسي لمتّ من سغب
ولست أنا الأمير يعيش في قصر بحضن النيل
يناغيه مغنّيه
وملعقة من الذهب الصريح تطل من فيه
ولكني تعذّبت لكي أعرف معنى الحرف
ومعنى الحرف إذ يجمع جنب الحرف

والسخرية التي تتضمنها الأبيات لا تخلو من مفارقة الرفض الضمني لكون (الشاعر) رهين محبسه في عزلة عن الناس, وبلا عمل يعمله في الحياة, فالعمل حماية من الحاجة, ووسيلة الحكيم الفقير لأن يؤكد حضوره, وحتى لو لم يولد بملعقة من الذهب في فمه, وعاش مرفّها في قصر بحضن النيل مثل أحمد شوقي, يغنيه مطربه محمد عبدالوهاب, فإن عذاب هذا الشاعر في معرفة معنى الحرف, وجمع الحرف إلى جوار الحرف, شفيعه في اكتساب شارات الشاعر, وتأكيد حقه في الانتساب إلى تراثه الممتد وحفظ اسمه في واعية أيام الأبد المرهوب, ما ظل قادراً على تدوير ما يمتد في الدنيا إلى كلمات, وبسط ما يلتف في نفسه إلى أسطر, وتنغيم الزمن الموحش موسيقى ألفاظ, والتعبير عن وحشة موسيقى السماء بقلبه الموحش.

الشعر... ميلاد بلا حسبان

ولا تنفصل خطوات تنغيم الزمن الموحش, في فعل الولادة الجديدة, عن الحب الذي هو مثل الشعر ميلاد بلا حسبان,يرفرف في فضاء الكون, تعنو له جبهة الإنسان لأنه السلوى:

لأيام بلا طعم وأشباح بلا صورة
وأمنية مجنحة بجوف النفس مكسورة

والحب تحقيق للحضور, واكتمال للوجود بواسطة الآخر, وهو يشبه الحرية من حيث هو تحد للعدم, ونفي للعبث, وانتصار على الموت الذي هو الوجه الملازم للعبث, فممارسة الحرية تحقيق للحضور, وإثبات للوجود, فالحياة ليست خطوات مقدورة, ولا زهدا عاجزا كالفرار, وإنما هي فعل الحضور الخلاق الذي نصنعه على أعيننا, مدركين أن الكون ما كان وما نعلم أنه سيكون بأيدينا, في مدى إرادتنا الحرة, ما ظلت هذه الإرادة علامة كائن حر, يرفض الموت حتف الأنف, يمشي ثقيلاً فوق ظهر الأرض:

ويحفر بطن ساقيه وجه الثرى الجدب
وينهض رغم ما ينداح في الأعراق والقلب
من الأحزان والأشواق والآمال والحب

هكذا, يغدو الفعل والقول جناحين عليين, وجهين للحضور الخلاّق الذي لا تنفصل فيه الحرية عن الموت, ولا الظل عن الصليب, ولا الاختيار عن تمعن الفعل المقترن به, في التراجيديا الإنسانية التي لا تدين للعقل وحده بمعناها, خصوصاً حين يتكشّف المعنى كما الحدس أو الإشراق في رحلة معرفة الكون. أقصد إلى تلك الرحلة التي قد تغويها ضلالات العقل كما أغوت الساحرة سيرسيه بحارة يوليسيس, تلك الضلالات التي وصفها صلاح عبدالصبور في هامش إحدى صفحات (أقول لكم) بأنها (أباطيل فلسفة أفلاطون وماركس وأرسطو وأصحاب نظرية الحلول والسوفسطائيين وفيثاغورس). وكان يعني عظام الموتى التي تستحضرها الظلمة, لكي تهمس إلى الشاعر بالأوهام:

وقالت لي: بأن النهر ليس النهر, والإنسان لا الإنسان
وأن حفيف هذا النجم موسيقى
وأن حقيقة الدنيا ثوت في كهف
وأن حقيقة الدنيا هي النلسين... فوق الكف
وأن الله قد خلق الأنام ونام
وأن الله في مفتاح باب البيت
ولا تسأل غريقا كُبّ في بحر على وجهه
لينفخ بطنه عشباً وأصدافاً وأمواهاً

السعي إلى الناس

وكانت تلك هي المرة الأولى التي يقرن فيها صلاح عبدالصبور (فلسفة... ماركس) بالأباطيل, ولا يتردد في السخرية من التفسير المادي الذي يرد حقيقة الدنيا (إلى الفلسفة) أو يرى أن الله في مفتاح باب البيت, ضمن سخريته من آراء السوفسطائيين التي منها - على سبيل المثال - أن الإنسان لا يعبر النهر مرتين أو أفلاطون الذي استخدم مثال الكهف الشهير في شرح ميتافيزيقاه. ومن الدال أنه لم يتعرض بسخريته إلى (الوجودية) التي انطوى عليها خطاب (أقول لكم) كأنها العلة الأولى, ولم يتعرض بالسخرية التي بدت قرينة لحظة الإشراق التي تتجلى فيها حقيقة الكون على نحو مباغت, فيرى الإنسان الله في قلبه, ويسمع موسيقى الأفلاك. لكنها لحظة لا تتحقق إلا بالخلاص من الفلسفة الميتة, ورمي كتبها للنيران, وفتح شبابيك القلب لأنفاس الندى الفوّاح, والسعي مع الناس, وبين الناس, في السوق, وامتزاج رائحة الجسد بتراب الأرض. حينئذ, تومض في الزحام عيون, وتتولد الحقيقة حية في فعل الاختيار الذي لن يكتمل تفسيره إلا بظهور شخصية الحلاج الذي خلع خرقة الصوفية, ومضى إلى الأسواق يدعو الناس إلى إصلاح دنياهم, مؤكداً كلمات (القدّيس) في (أقول لكم) - ذلك الشاعر الذي أدرك أن الإنسان لا يموت إلا إذا مات في أعماقه الإنسان, وأن الإنسان الحق هو مَن ينطلق بجناحي القول والفعل, مؤمناً أن الله أورثه بساط الأرض, محبّاً الوجود كله حب المالك لما يملك:

ألا ما أجمل الإنسان حين يجوس في أرضه
يقلّب جدبها في الحضب جذلانا
وحين يشق بالمحراث مملكته
أخاديداً ووديانا.

هذه الحقيقة التي تجلّت مع الفجر, في الولادة الجديدة, هي بشارة العهد الآتي التي تولّدت في الجسد المحموم بنبض مثل قلب الشمس فملأت شعاب القلب بالحكمة, وجعلت الشاعر قدّيساً رسالته أن يجعل منا قدّيسين مثله, نؤمن ببشارته, وندعو إليها كما دعانا هو إليها. وهي بشارة تمزج المعنى الموجب لفعل الاختيار الوجودي, في تحدّيه عبث الوجود, وتحمله سآمته وكآبته, بالمعنى الموجب للصوفية التي أنتجت - فيما بعد - أمثال الحلاج, وجها من أوجه القدّيس الذي دعانا لأن نلتصق بظلنا, ونكون جديرين بصليبنا, كي نقهر السأم والعبث والعدم والموت.

لكن هل كان ذلك يعني تخلّي الشاعر (القدّيس?) عن قضية (الناس) في (بلاده?. بالقطع لا. لقد تخلى عن المنظور الماركسي إلى هؤلاء الناس, ونفر من التزمت الاعتقادي الذي يلازم التحزّب الشيوعي, وانتقل إلى منظور أكثر رحابة في إنسانيته, على الأقل من وجهة نظر قصائده, وقرر تكريس حياته كلها للشعر الذي لم يخلص له في حياته سواه, ولم يخرج من مسعاه الاجتماعي إلا به, فاقترب من التصوّف قربه من الوجودية, وصاغ لنفسه مزيجاً منهما يفتح له المزيد من أبواب الشعر التي أصبحت مشرّعة على معضلات الحضور الإنساني في الوجود. وكان ذلك التزاماً بقضايا الإنسان من حيث هو إنسان, أي من حيث هو اختيار لفعل وقول يرتقيان بالإنسان من مستوى الضروري إلى مستوى الحرية, ويدفعانه إلى أن يفرض المعنى حيث يغيب المعنى, ويكون إلى جانب الإنسان في كل ما يعلي من شأن الإنسان. وكان ذلك بالقدر نفسه التزاماً بالصدق مع النفس ومع الغير, وذلك بالمعنى الذي كانت به (الظل والصليب) و (أقول لكم) - في بعض أبعادهما - حملة على عدم صدق الإنسان مع النفس, وخوفه من مواجهة داخله, حتى لا يصبح إنساناً خاوياً.

تحوّلات الشاعر

أما لماذا حدث التحوّل عن المنظور الماركسي? فإن صلاح عبدالصبور الناثر يشرح ذلك في أكثر من موضع, أحدها حواره مع نبيل فرج الذي يقول فيه:

(التقيت في أوائل الشباب بالفكر الماركسي, واعتقدت مع كثيرين من أبناء جيلي أن الماركسية هي شباب العالم, ففي مجتمع طبقي كمصر قبل ثورة يوليو, وفي ظل لعبة برلمانية يفسدها تدخل القصر الملكي والاستعمار, يفكر المرء في الحلول الثورية للمجتمع ومشاكله. وقد قادني الاقتراب من الفكر الماركسي إلى تغير نظرتي للأدب والفن, فهما ليس نشاطاً إنسانياً رفيعاً فحسب, بل هما صورة فوقية للبناء الأساسي للمجتمع, ولهما رسالة اجتماعية عاجلة, لا تستهدف التطهير الأخلاقي للإنسان, ولكنها تستهدف تغيير المجتمع, ونقض أسس المجتمع القديم.

ولكن في عام 1956 أصيبت نفسي بزلزالين, كان أولهما هو تقرير خروشوف المقدم للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي, وثانيهما أحداث المجر التي تواكبت مع العدوان الثلاثي على مصر.

أذكر حين قرأنا تقرير خروشوف لأول مرة, منقولاً عن وكالة أنباء إيطالية, وأخذ زملاؤنا يشكّكون في صحة التقرير, ويقولون: إنه دسيسة استعمارية غربية, وما لبثت وكالة تاس السوفييتية أن أعلنته وأذاعته بعد أيام. كنا عندئذ ننظر إلى الاتحاد السوفييتي كجنة الإنسان على الأرض, وإلى ستالين كنبي جديد ذي شوارب كثة وإرادة حديدية ومحبة دافقة للإنسان, فإذا بالاتحاد السوفييتي في ظل ستالين دولة بوليسية كسائر الدول البوليسية, وإذا بستالين ديكتاتور شرس كسائر الديكتاتوريين, وإذا بالقيمة الرئيسية التي أحببنا الاتحاد السوفييتي وستالين من أجلها, وهي قيمة الإنسان, قيمة منتهكة مسحوقة.

وبعد شهور قليلة كانت أحداث المجر, وكان الجيش الأحمر يزحف إلى بودابست, وكانت مقتلة من سمّوا بالمرتدين, بعدما فتك الشعب المجري بالشيوعيين. وقيل عندئذ إن التمرّد كان استجابة لمؤامرة استعمارية. ولكن المؤامرة الاستعمارية قد تصنع انقلاباً عسكرياً, ولكنها لا تستطيع أن تحرّك حركة شعبية واسعة كحركة المجر. ولابد أنه كانت هناك أرض مهيأة من السخط والغضب والاحتجاج لدى الجماهير المجرية.

(لست أريد هنا أن أحاكم أو ألوم, ولكني أريد أن أتحدث عن وقع كل هذا على نفسي, إن الضفة الأخرى من النهر إذن مليئة بالظلم والقسوة. ليست الرأسمالية وحدها هي النظام اللإنساني, ولكن هناك لا إنسانية أيضاً في تطبيق النظام الشيوعي)...

تخطيت الأبعاد الاجتماعية التي تميز بها ديوانك الأول (الناس في بلادي), واتجه اهتمامك من الواقع الخارجي إلى النفس المفرطة والميتافيزيقا... فما الأسباب الموضوعية لهذا التحوّل؟

فقال:

- لم أتحوّل إلى الميتافيزيقا ولكني تحوّلت إلى الباطن, إلى التأمل. كانت أحزاني وإحباطاتي في فترة ما من حياتي لا يكاد يتسع لها الشعر, كنت أقول لنفسي: (لو كان البحر مداداً لهذه الأحزان, (لنفد البحر دون أن تنفد هذه الأحزان). وكان مما يؤلمني هذا الجو من النفاق واللامبالاة الذي نعيش فيه, وكأننا فقدنا أثمن ما نملك, وهو الحاسّة الأخلاقية.

كان العالم من حولنا مليئاً بالكذب والقسوة والتفاهة التي تلبس قناع التحذلق والجدية, وكنت أسأل: (أهذا هو العالم الذي كنت أحلم به وأنا صبي, والذي خرجت من أجله في المظاهرات السياسية وأنا في الرابعة عشرة من عمري, والذي اعتقلت من أجله وأنا في الثامنة عشرة في عام 1949, أهذا هو العالم الذي أعددنا له المسرح بصراخنا ودموعنا وكلماتنا وشهدائنا؟!)

 

جابر عصفور