البحث عن الخلاص في عالم أعمى

البحث عن الخلاص في عالم أعمى

أمين معلوف في روايته
الأخيرة (رحلة بالداسار):

يتابع أمين معلوف بدأب ومثابرة مسيرته الروائية المميزة
التي لاتزال تعمل منذ انطلاقتها على استقراء التاريخ واستنطاقه ومساءلته.

منذ (ليون الإفريقي) و (سمرقند) وحتى (حدائق النور) و (صخرة طانيوس) و(رحلة بالداسار) لا يكف معلوف عن تجديد أسئلته المتعلقة بمفهوم الهوية والوطن والقومية والثقافة والفكر. كل رواية من رواياته هي تأصيل متكرر لمعنى العلاقة بين الأنا ونفسها من جهة وبين الأنا والآخر من جهة أخرى. وليس من قبيل الصدفة تبعا لذلك أن يتحرك أبطاله جميعاً فوق جغرافيا الرحيل الدائم والنزوح المستمر من بلد إلى بلد, ومن ثقافة إلى ثقافة, كأنهم جميعا صرخة ممزقة يتنازعها التراب الصافي والتوق إلى النزوح والمغامرة. أو كأن أحداً منهم لا يستطيع اكتشاف نفسه إلا في ضوء الالتباس والتعدد وانقسام الذات أو انشطارها. لم يكن (ماني) بهذا المعنى سوى التعبير الأولي عن الضديات التي تلت والتي تجاوزت ثنائيتها فيما بعد لتدخل في هويات أكثر تشظياً وأشد تمثيلاً للكثرة والتعدد. كل بطل من أبطال معلوف هو (مفرد بصيغة الجمع), على حد أدونيس, أو تجليات جمعية للجسد المفرد.

لقد باتت هذه الفكرة بالذات هي السمة الغالبة على روايات أمين معلوف وعوالمه السردية. وإذا كان الكاتب في كل أعماله يستحضر التاريخ, وتاريخ القرون الوسطى في الأغلب الأعم, فذلك لكي يستحضر اللبنات الأولى لأسئلة الراهن الملحّة في عالم يصر بعض مفكريه بإلحاح على الأخذ بمقولة صراع الحضارات ودفعها إلى حدود التنابذ المطلق. هكذا تتخذ الكتابة عند معلوف صفة المشروع الفكري الكامل الذي يتعدى السرد الروائي العادي ليبحث في الماضي البعيد عن ظهير لمقولته البديلة التي تحل الحوار محل الصراع وتدعو العالم بأسره إلى فتح عينيه على حقيقة تواصله الدامغة. وحتى في عمله الروائي شبه الوثائقي (الحروب الصليبية كما يراها العرب) أراد معلوف بعناد واضح أن يلمّع صورة الجزر المشتركة التي ظلت تجمع بين أطراف الصراع الدموي في بداية الألفية الثانية وتشكّل بذوراً للتفاعل والأمل وسط محيط واسع من الدم المراق. وما حاول معلوف أن يوضحه مواربة عبر عوالم الرواية والأدب أوضحه بشكل سافر وصريح في كتابه الفكري (الهويات القاتلة) مثبتاً أن الهويات الخالصة والصافية ليست سوى ضرب من ضروب الوهم, ومتخذاً من تجربته الشخصية, ككاتب ذي هويتين, الدليل الحي والملموس على ما يرمي إليه.

الترحال كرمز

تدخل (رحلة بالداسار) عمل معلوف الأخير, إذن في السياق نفسه وتكمل مسلسل الرحيل الذي استمرأه الكاتب منذ البداية ووجد فيه ضالته ومبتغاه. فالترحال بالنسبة له هو الرمز الأشد تعبيراً عن معنى الهوية المتغير والرجراج. فالإنسان ليس تراباً مغلقاً على نفسه بحسب الكاتب بل هو تراب يمشي وفق رؤية شاعر المحكية اللبناني إيليا أبو شديد. وإذا كانت هذه المقولة تنسحب على كل تراب في الأرض, فإنها تعبّر عن التراب المتوسطي على وجه الخصوص. هذا التراب الذي كان طيلة قرون طويلة مفتوحاً على الخارج ومشرعاً على رحابة المياه منذ عهد الفينيقيين, وربما قبلهم بكثير. وبالداسار إمبرياكو, بطل الرواية الأخيرة, ليس سوى تأكيد جديد على ما يجعل جانبي المتوسط ضفتين لبحيرة واحدة ولو كانت كل منهما تحتفظ لنفسها بالكثير من الخصوصيات.

فبالداسار اللبناني المقيم في جبيل هو سليل متأخر لأسرة إمبرياكو العريقة التي قدم بعض أبنائها إلى لبنان في إطار الحملات الصليبية الأولى ثم استقرّوا على شواطئه بفعل ظروف طارئة, تماماً كما كان يحدث بالمقلوب للكثير من الأسر اللبنانية. واللافت في الرواية, كما في روايات أخرى لمعلوف مثل (ليون الإفريقي) و (صخرة طانيوس) على وجه الخصوص, ذلك التركيز الشديد على دور التجارة الرئيسي ليس في رسم مجرى السياسة فحسب, بل في نشوء الدول واشتعال الحروب وقيام التحالفات وصولاً إلى تحديد معنى الهويات نفسها. ومعلوف المتحدر من أصول فينيقية ذات ميل تجاري حاسم لم يجد ما يقلل من وطأة العصبيات والأصوليات المتناحرة أكثر من الاستسلام للرياح التجارية والإصغاء إلى نداءاتها المتعاظمة في منطقة من العالم تغص بالأنبياء والقدّيسين.

لم يكن من قبيل الصدفة كذلك أن تدور أحداث الرواية الأخيرة في القرن السابع عشر, قرن الصراع المستشري بين الإمبراطوريات والحروب الأهلية والإثنية والدينية الضارية. ولم يكن الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي هو الوجه الوحيد لتلك الحروب الضروس, بل كانت الصراعات التي تدور داخل كل من المحورين أشد هولاً وضراوة من الصراع الأول. فهنا وهناك تذر قرنها رياح العقائد, وهنا وهناك ينقسم الإسلام على نفسه وتخرج من أحشائه عقائد وتفاسير وفرق باطنية دموية بالطريقة نفسها التي تنقسم فيها الكنيسة بين بابوية محافظة وبروتستانتية انقلابية, دون أن تكون اليهودية بدورها بمنأى عن تلك العواصف. ثمة إسقاط واضح من الماضي على الحاضر. والرواية عند معلوف تتحول من هذه الزاوية إلى رسالة مفتوحة لكل مَن يعنيهم الأمر وإلى بؤرة غنية بالدلالات مفادها أن العالم لا يتعلم كثيراً من ماضيه وأن الصراع بين الشرق والغرب ليس سوى تشويه زائف لمنطق الأمور. فالأنا حين تنغلق على نفسها بإحكام, وحين ترفض الإصغاء إلى ما سواها, لن تجد نفسها حينئذ في حرب مع الآخر البعيد وحده, بل مع كل مَن لا يشاطرها الرأي والمعتقد حتى لو كان هذا الآخر قابعاً في الغرفة المجاورة أو الاجتهاد المغاير.

ذريعة مرعبة

إن مقولة نهاية العالم التي تدور أحداث الرواية بموازاتها وقبلها بقليل لم تكن سوى الذريعة التي حاول من خلالها أمين معلوف أن ينفذ إلى ما يريد استخلاصه من عبر ونتائج. فتحت سقف تلك الفكرة المرعبة يتحول الصراع بين البشر إلى صراع عبثي شبيه بصراع الملاحين داخل سفينة تغرق, كما يتحول الجدال الدموي بين الشيع والمذاهب إلى شيء شبيه بجدال أهل بيزنطة حول جنس الملائكة داخل أسوار يدكّها الرعب من كل جانب. كان لابد من ذريعة مناسبة لكي يخرج بالداسار من مدينة جبيل اللبنانية متجوّلاً في العديد من مدن المتوسط وصولاً إلى محطات أخرى تقع خارج حدود هذا البحر. وقد وفّر معلوف الذريعة عبر بحث بالداسار عن كتاب نادر منسوب لمؤلف عربي مسلم هو أبو ماهر المازندراني ويسمى (كتاب المئة). والكتاب الذي أهداه لبالداسار أحد المسنين في جبيل يتضمن إضافة إلى أسماء الله الحسنى التي تبلغ التسعة والتسعين, الاسم المستور لله تعالى أو الاسم المئة الذي يستطيع العارف به أن يرد أي خطر داهم وأن يدفع الأذى عن نفسه وعن العالم, إذ إن روايات عدة تتحدث عن معرفة نوح عليه السلام بهذا الاسم, الأمر الذي أتاح له النجاة من الطوفان. لكن بالداسار الذي حصل بأعجوبة على الكتاب لم يعرف كيف يحافظ عليه, فباعه في لحظة تشوش ذهني إلى الفارس الفرنسي مارمونيتل الذي قدم إلى جبيل لهذه الغاية ثم غادر مسرعاً باتجاه القسطنطينية. لم يكن بالداسار, وفق الرواية, واثقاً تمام الثقة من الشائعات التي سرت بين الناس سريان النار في الهشيم حول زوال العالم في السنة التي تلي بداية الأحداث والتي أطلق عليها اسم (سنة الوحش) والمتطابقة مع العام 1666 لميلاد المسيح. غير أن الشك الذي ظل يعتمل في داخله إضافة إلى إلحاح ابن شقيقته المثقف والمؤمن يدفعانه إلى القيام بالرحلة مصطحباً خادمه حاتم وابني شقيقته الشابين, حبيب وجابر, ومارثا التي جمعته معها قصة حب مؤثرة قبل أن تتزوج من رجل فظ ومغامر يسمى (سياف) والذي ما يلبث أن يسافر إلى جهة مجهولة تاركاً وراءه زوجة وحيدة تنتظره دون طائل.

هكذا تنبني الرواية, الرحلة حول محورين اثنين: الكتاب المفقود والحب المفقود. كل منهما كان بحوزة بالداسار ولكنه أضاعه في غفلة من الزمن ودون انتباه, وكلاهما معاً يرمزان إلى السعادة أو الخلاص اللذين يومئان كالبرق في عراء العالم ثم يتلاشيان تاركين وراءهما سحابة من الندم والحسرة ورغبة عبثية في استعادتهما من جديد. والفكرة على أهميتها ليست جديدة تماماً. ففي إحدى قصص (كليلة ودمنة) ثمة قصة لافتة تدور عن ذلك (الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها). وكتاب المئة لا يمكن إلا أن يذكرنا بكتاب الرمل الذي تحدث عنه بورخيس والذي يضم المعارف جميعهاً بلا بداية ولا نهاية, كما يذكرنا البحث عنه بالبحث عن كتاب أرسطو الضائع في رواية (اسم الوردة) للكاتب الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو. ومع ذلك فالفكرة نفسها لا تذكّر بهذه الأعمال الأدبية الثلاثة فحسب, بل تذكر في الوقت ذاته بالرؤية الدينية التي تربط الكلمة بأصل الخلق وجوهر وجوده. ففي البدء كانت الكلمة, بحسب العهدين القديم والجديد, وفي القرآن الكريم يستطيع الذي عنده علم الكتاب أن يأتي سليمان النبي بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه. وليس ضرباً من العبث أن يدفع أمين معلوف ببطله المسيحي إلى البحث عن كتاب منسوب إلى مؤلف مسلم, هو أبو ماهر المازندراني. وكما تتوزع فكرة نهاية العالم بالتساوي بين الديانات الثلاث تتوزع فكرة خلاصه بالطريقة نفسها بين هذه الديانات. فالفرق الباطنية السرية التي تنتظر المخلص في زاوية من زوايا مدينة حلب يقابلها في أزمير ظهور ساباتاي اليهودي الذي يزعم بدوره أنه المسيح المخلص كما تقابلها ظواهر أخرى مماثلة في الغرب المسيحي.

ظواهر مستشرية

عبر تلك الرحلة الغريبة يقدم لنا أمين معلوف فسيفساء متنوعة من الظواهر والأحداث السياسية والاجتماعية والدينية ويميط اللثام عن أحشاء القرن السابع عشر التي قطعت أوصالها الحروب الدينية والقومية والاقتصادية ونخرها الفساد حتى العظام. فمن خلال بحث مارثا المضني عن فرمان سلطاني يجعل زوجها الغائب بحكم المتوفى ويجيز لها الزواج من بالداسار نكتشف الفساد المستشري في جسد الإمبراطورية العثمانية المترامية من رأس الهرم إلى قاعدته, ليس فقط على مستوى العسكر العثماني (الانكشاري) بل على مستوى الوزراء والمستشارين والقضاة وصولاً إلى بلاط السلطان. كل شيء مباح بوجود المال ومحظور بغيابه, حتى مجدف أخرق كساباتاي اليهودي يمكن له أن يحصل من كبير القضاة على اعتراف بدعوته وشعوذاته لقاء مبلغ معلوم. لكن الرشوة والفساد والجشع والخيانة ليست في الرواية ظواهر خاصة بالمشرق وحده, بل ظواهر مستشرية في كل محطات الرحلة التي تقود بالداسار إلى كيوس وجنوه وطنجة ولندن. كأن العالم بأسره كان يقف في ذلك القرن على حافة هاويته, ولم تكن سنة الوحش تبعاً لذلك سوى المعادل الرمزي الجديد للسنة السابقة على طوفان نوح.

كان من الطبيعي اذن ألا يؤدي عثور بالداسار على كتابه المنشود في لندن إلى عثوره على مفتاح الخلاص. فالعطب, وفق معلوف, ليس موجوداً في التاريخ نفسه, بل في دواخلنا بالذات. والخلاص لا يأتي من الكتب, بل من الأحشاء المظلمة التي نستطيع نحن البشر أن نسلّط عليها ضوء البصيرة. لذلك فإن بالداسار الذي وجد الكتاب بعد رحلة مضنية كان يشعر بأن غمامة من السواد تعشي عينيه كلما شرع في القراءة, ذلك لأن المشكلة كامنة في عين القلب لا في الكلمات. والمكتبات والمنازل التي احترقت في أزقّة القسطنطينية لم تكن تعبيراً عن القوة الخارقة لكتاب المائة بقدر ما كانت انعكاساً لجرثومة الفساد والشر التي تعشش في نفوس البشر وأفكارهم. في ذلك العالم المطحون برحى القسوة والاستبداد, وغياب العقل لابد أن يكون اللامعقول هو سيد الموقف. هكذا تعود مارثا إلى حضن سياف وتنتصر لجلاّدها القديم على حساب حبّها المزمن, تماماً كما ينتصر المستضعفون لجلاّديهم الكثر على حساب الحق والعدالة والحرية. والرحلة بدورها لم تنته حيث بدأت على ساحل جبيل, بل إن بالداسار يعود مع كتابه إلى حضن رحمه الأصلي في بلاد الغرب تاركاً لنفسه, فيما بعد, أن يفك الحروف الطلاسم أو يضعها في عهدة الأجيال اللاحقة التي لابد أن تحسن القراءة!

 

شوقي بزيع