تجربة الديمقراطيين الإسلاميين.. الأمل: د. سليمان إبراهيم العسكري

تجربة الديمقراطيين الإسلاميين.. الأمل: د. سليمان إبراهيم العسكري

في العصور الوسطى، كانت أوربا لاتزال تتوسَّد ظلامها ويبيع كهانها من رجال الدين، بسلطتهم البابويَّةِ والكَنسيَّة، صكوكًا لعامة المؤمنين بالمسيحية زاعمين أنها ستمنحهم الغفران من ذنوبهم وتعتقهم من جزاء آثامهم. لكنَّ راهبًا إصلاحيا عاش في القرن السادس عشر الميلادي، وكان أستاذًا للدراسات الإنجيلية بجامعة فتنبيرغ الألمانية، يُدعى مارتن لوثر (1483م - 1546م)، عارض تلك الصكوك المزيفة الخادعة للناس، وأعلن أن العفو الذي يصدره البابا لا يمكن أن يزيل أقل خطيئة، وقاد ثورة أدت في القرن التالي إلى حركة إصلاح ديني جارفة، امتدت قرنا، وشهدت حربًا شرسة استمرت ثلاثين سنة، بين أنصار البابا وأتباع لوثر. انتهت تلك الحرب بصلح مؤتمر ويستفاليا (في غرب ألمانيا)، عام 1648م، بمشاركة ممثلي حكومات العالم الأوربي، وهو الصلح الذي أسس لعلمنة الدولة في الغرب، التي لم تكن تعني هدم الكنيسة، ولا كانت تهدف إلى خرق تعاليم المسيحية، بل كانت تقصد إلى تنزيه الدين عن الخرافات ومنع التجارة به، وفصله عن شئون الدولة. وكان بداية الانتقال إلى عصر النهضة الأوربية، العلمي والثقافي، والعصا السحرية التي مكنت أوربا من السيطرة على العالم كله فيما بعد.

  • نهاية صكوك الغفران تعني تنزيه الدين عن الخرافات ومنع التجارة به، وفصله عن شئون الدولة، وهي التي دشنت الانتقال إلى عصر النهضة الأوربية، العلمي والثقافي
  • هؤلاء الذين جاءوا على بساط الدساتير - التي سمحت بانتخابهم ومنحتهم الحرية وحق الترشح مثلما منحت مناصريهم حق الانتخاب - قاموا بمحاولات لنقض تلك الدساتير، إما بالحذف أو بالإضافة أثناء أداء القسم!
  • الدول العربية تشترك - مثالاً - في دستور واحد، ذلك أنها وقعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعليه فإن الدساتير الوطنية، التي تؤسس لها تلك الديمقراطيات الحديثة، يجب ألا تتعارض مع هذا الدستور الأساس
  • إن جرائم الحرب ارتكبت نتيجة عدم قبول الآخر، ورفض التعايش مع المختلف، وتغليب المصالح الشخصية على الأهداف القومية والوطنية، وسعار الثروة والنفوذ الذي يصيب البشرية بالجنون فتسعى لاستعراض القوة على حساب الأخلاق الإنسانية

إنها مقدمة للتذكير بتجارب الآخرين، فاليوم، في عالمنا العربي، وبعد زلزال ثورات نقلت الأحزاب الإسلامية من مساحات الظل ومحابس التحريم إلى برلمانات عربية كبيرة، بواسطة صناديق الاقتراع، وبآليات ديمقراطية علمانية، يبدو أننا أحوج ما نكون إلى تذكّر مارتن لوثر، حتى لا يأتينا من يتاجر بصكوك غفران جديدة، باسم الدين الإسلامي، في حين أن ديننا الحنيف صنع ديمقراطيته الخاصة التي حكمت العالم بكل أطيافه ودياناته السماوية وعقائده الأرضية في أوج إزدهار الحضارة الإسلامية، قبل أن تتسلم أوربا الخارجة من ظلامها راية التحديث ومشعل التنوير.

البداية التي أزعجت المراقب لميلاد البرلمانات التي تأسست عقب فوز الأحزاب الإسلامية هو أن أعضاء هذه الأحزاب نفسها بدأوا مسيرتهم البرلمانية وكأنهم نسوا الوسيلة التي أوصلتهم إلى تلك البرلمانات، ألا وهي الديمقراطية الآتية لنا من علمانية الغرب.

فهؤلاء الذين جاءوا على بساط الدساتير - التي سمحت بانتخابهم ومنحتهم الحرية وحق الترشح مثلما منحت مناصريهم حق الانتخاب - قاموا بمحاولات لنقض تلك الدساتير، إما بالحذف أو الإضافة أثناء أداء القسم!

حدث ذلك في مجلس الأمة بدولة الكويت، ومجلس الشعب بمصر، وهو ما سبب لغطًا كبيرًا حول مشروعية عضوية النائب الذي خالف القسم المنصوص عليه في الدستور، فكأنه يتحدث في دولة بلا دستور. بل زاد بعضهم إلى حد محاولة تحويل قاعة الحوار والخلاف في الرأي إلى محراب المسجد برفع الأذان أثناء انعقاد الجلسة، وهو ما يمثل استهانة بالمكان الممثل للشعب الذي اختار عضوًا يتحدث عن هموم المواطن ويناقش احتياجاته الدنيوية - هو يعرف مكان العبادة ودورَها ويرتادها يوميًا - ولم ينتخب مؤذنًا ينادي إلى الصلاة أثناء جلسة برلمانية.

دستور واحد

يحدث ذلك ونحن نحتفل بمرور نصف قرن على العمل بدستور دولة الكويت، وهو مؤشر خطير إذا كان يعني السعي إلى تطويع الدساتير وفقًا لمرحلة يسود فيها فريق على آخر، مما يعني أن كل دورة انتخابية يمكن أن تؤسس إلى تغييرات وتبديلات وفقًا للأهواء وللمصالح الحزبية والطائفية وليس اتباعًا للحقوق والواجبات المقدسة في كل الدساتير العالمية.

إن الدول العربية تشترك مثالًا - في دستور واحد، ذلك أنها وقعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعليه فإن الدساتير الوطنية، التي تؤسس لها تلك الديمقراطيات الحديثة، يجب ألا تتعارض مع هذا الدستور الأساس.

لقد جاء توقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم العاشر من ديسمبر 1948م في ثلاثين مادة ليكفل حقوق جميع الناس، اعترافًا بالكرامة المتأصلة في أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة، كأساس للحرية والعدل والسلام في العالم، بعد أن كان تناسي تلك الحقوق وازدراؤها قد أشعلا حروبًا - آخرها الحربان العالميتان - آذت الضمير الإنساني وأهلكت إنتاج وحرث شعوب على مدى مئات من السنين.

ولم يوجد في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخوِّل لدولة طاغية أو يسمح لجماعة متطرفة أو يتيح لفرد ديكتاتور أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه.

لذلك تم الاتفاق على أن الجميع يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلًا وضميرًا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء، وأن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وأن لكل فرد - هو وأسرته - الحق في الحياة الآمنة، والتعلم، وتقلد الوظائف العامة في وطنه والعمل بشروط عادلة مرضية للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، وحرية التفكير والضمير والدين والاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية، وألا تنتهك إنسانيته، أو يهجر من وطنه، أو يحرم من أهليته القانونية كفرد، وأن يعيش الجميع سواسية أمام القانون، وأن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، وهذا ما وقعت ووافقت عليه الدول العربية المنتمية للمنظمة العالمية. والثابت تاريخيًا إن انتهاك هذه الحريات والحقوق والمواثيق، الإنسانية والدولية، يسمح بالتدخل العالمي حفاظًا عليها. وهو تدخل قد لا يعفي من مآسٍ إنسانية وكوارث بيئية وهزات اقتصادية، تمامًا مثل العلاج القاسي الذي يخلِّف أعراضًا جانبية.

حروب الفرقاء

وليست سلسلة الحروب اليوغوسلافية التي اجتاحت مختلف مناطق يوغوسلافيا السابقة بين عامي 1991م و1995م ببعيدة عن الأذهان. فقد تصاعدت حدة التوتر في يوغوسلافيا منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، في خضم الصعوبات الاقتصادية، وواجهت يوغوسلافيا نعرات القومية المتصاعدة بين الجماعات العرقية والدينية المختلفة.

ثم اشتعلت تلك الصراعات الإثنية بمرارة بسبب التمييز العرقي والديني بين شعوب يوغوسلافيا السابقة، ومعظمها بين الصرب (وإلى حد أقل، الجبل الأسود) من جانب، والكروات والبوشناق (وبدرجة أقل، السلوفينيين) من جانب آخر، مثلما تأججت حرب أخرى بين البوشناق والكروات في البوسنة والهرسك، لتنتهي الحرب باعتراف دولي كامل بالدول المقسمة الجديدة، التي لا يزال يهددها الاضطراب الاقتصادي الهائل، واصبحت يوغسلافيا الدولة المهابة ذات الاقتصاد والإنتاج المتقدمين - حتى على مستوى إنتاج السلاح - دولًا ضعيفة متخاصمة تنتظر من يتصدق عليها ويساعدها.

هذه الصراعات الدموية - التي نسيتها أوربا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية - شملت جرائم الحرب والتطهير العرقي ولذلك تأسست المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (Icty) من قبل الأمم المتحدة لملاحقة هذه الجرائم.

ووفقا لإحصاءات «المركز الدولي للعدالة الانتقالية»، أدت الحروب اليوغوسلافية إلى وفاة 140 ألف شخص، فضلاً عن حجم الدمار المادي والنفسي لمن خبروا هذه التجربة المُرَّة. كما كان للتدخل الدولي - وهو ما كشف عنه النقاب لاحقًا - مآسيه التي تضاف إلى كم معاناة لاتزال تنوء بها المجتمعات التي خاضت جيوشها تلك الحرب الخاسرة.

وخلال تلك الحرب العرقية والدينية الأوربية كانت تحتدم في أفريقيا حرب أهلية أخرى شهدتها رواندا؛ طرفاها الجيش الرواندي والجبهة الوطنية الرواندية بين عامي 1990م و1993م, خلفت - مثل جميع الحروب الدامية - انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان وقد تجاوز عدد القتلى بين الطرفين بالملايين.. إنها حرب القبائل!

فقبيلتا رواندا - الهوتو المزارعون والتوتسي الرعاة - تصارعتا بسبب ما حصل عليه التوتسي من امتيازات - رغم قلة العدد - في الثروة التي جلبتها لهم تربية قطعان الأبقار.

كانت السكنى الموحدة قد طمست - بفضل ما بين أبناء القبيلتين من تزاوج وتصاهر - ما لدى العرقين من انقسامات، ولكن بدلاً من التوحد، أصبحت هناك نظرة التفرقة بين الحاكم والمحكوم، بتراتباتها التي أدت إلى نشوب الصراع، خاصة أن مملكة بلجيكا التي استعمرت رواندا أغلب القرن العشرين كانت تنظر إلى قبيلتي التوتسي والهوتو على أنهما قبيلتان مختلفتان، بل واستحدثت بطاقات هوية أعادت تقسيم الروانديين تبعًا لانتمائهم القبلي!

وكان التدخل الدولي، أوربيًا حيث وضعت بلجيكا في مقابل فرنسا، وأفريقيًا بين جارات رواندا، وبخاصة أوغندا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وبدأت هجرات جديدة تضاف إلى نزوح 160 ألف شخص غادروا رواندا خلال أعمال العنف التي شهدها البلد بعد الاستقلال، وقامت بلجيكا في البداية بتقديم مساعدات إلى الحكومة الرواندية ولكنها توقفت بسبب القوانين المحلية البلجيكية التي تمنع القوات البلجيكية من الاشتراك في حرب اهلية، ثم قدمت فرنسا دعمًا عسكريًا وماديًا كبيرًا إلى رواندا بعد أن احتلت مكان بلجيكا كأكبر داعم غربي، وقامت الطائرات الفرنسية بالكشف عن مواقع المتمردين مما سهل على الجيش الرواندي سحقهم!

وانتهت حرب الإبادة الجماعية في يوليو عام 1994م، بعد أن خلفت مئات الآلاف من الناجين من الموت ولكنهم يعيشون مرضى بالصدمات النفسية، وبعد أن حولت البنية التحتية إلى أنقاض، وبعد تجريم أكثر من مائة ألف ممن أدينوا في جرائم الإبادة وإيداعهم السجون.

قبول الآخر

إن الجرائم التي يتحدث عنها هذان المثالان ارتكبت نتيجة عدم قبول الآخر ورفض التعايش مع المختلف، وتغليب المصالح الشخصية على الأهداف القومية والوطنية، وسعار الثروة والنفوذ الذي يصيب البشرية بالجنون فتسعى لاستعراض القوة على حساب الأخلاق الإنسانية.

وفي وسط أتون عالم اقتصادي، يعزف على موسيقى غنائم الحرب، ستجد الأسلحة مكانها قادمة من مكان واحد، لكنها موزعة بين أيدي الفرق المتصارعة، والجيوش المتناحرة، فالمؤسسات الاقتصادية تستغل هذه الخلافات لتؤجج الصراعات التي تفضي إلى حروب تستهلك مزيدًا من السلاح، لإتخام ثروات أغنياء الحرب، ولكنها في الوقت نفسه تثخن جسد المجتمعات الإنسانية بجراح لاتكاد تندمل.

صحيح أن الشعوب تضغط على حكوماتها لتجنب الحروب، أو الانسحاب منها مثلما نجد اليوم أصواتا داخل المجتمع الأمريكي تحث صانع القرار على عدم خوض حرب ضد إيران لكن هذه الأصوات العقلانية، التي تتدثر بغطاء حقوق الإنسان وحرياته، قد تضيع في زحام أصوات أخرى أعلى ضجيجًا، تدعو لهدم الآخر من أجل مصالح آنية زائلة.

إن الغرب الذي يدعو البعض لمقاطعته ومحاربته، باسم الإسلام زورًا وبهتانًا، نلجأ إليه آناء الليل وأطراف النهار، نرسل إليه أبناءنا ليتعلموا في جامعاته، ويسافر إليه إخواننا ليمارسوا مهنهم في أسواق عمله، وتغدو إليه وتروح الأسر الموسرة للتنزه والتسوق، ونستهلك هنا في منازلنا ومكاتبنا وشوارعنا منتجاته ومبتكراته، ونستفيد من علومه، والأولى بنا، بدلاً من العمل على مقاطعته أن نسعى لمناهضته، والتنافس معه في مجالات العلوم التي ترقى بالإنسان وتيسر له حياته، وتؤمن له أمنه وحقوقه ورفاهيته.

بل إن الديمقراطية التي نهاجم الغرب بسببها، هي التي أتت بالأحزاب الإسلامية، ولعلنا نتساءل: إذا كنا نرفض هذا الشكل الديمقراطي المؤسس على الدساتير المكتوبة، والمواثيق الموقعة، والأعراف السائدة، فهل هناك بديل؟

وهل لدى الأحزاب التي تمكنت من الجلوس على مقاعد البرلمانات العربية حتى الآن (تونس، مصر، الكويت ...) بواسطة دساتير - يعتبرونها من صنع الغرب المسيحي هل لديهم ما يمكنهم من تقديم فكر ديمقراطي إسلامي، لا يتعارض مع مصالح الدول العربية والإسلامية المتشابكة مع العالم، مسيحييه وبوذييه وهندوسه وملحديه، ولا يتعارض مع القوانين والاتفاقيات الملتزم بها العالم بين دوله العظمى والصغرى، السيدة والمسودة؟

إن وجدت مثل هذه الأفكار القادرة على هذا التحول فالطريق سيكون سالكًا، أمام هذه الأحزاب المنتصرة حاليًا لكي تؤسس لمرحلة طويلة تقودها هي في طريق نهضة عربية وإسلامية جديدة، ينتظرها ويتمناها كل عربي ومسلم.

الحالة الباكستانية

إن شعار الإسلام يساء استخدامه من عصر إلى آخر لتحقيق مآرب سياسية ومصالح إقتصادية، وهو أمر يجعلنا نتأمل تجارب أخرى حولنا يمكن أن نفيد من تجنب محاكاتها، بعد ما ثبت فشلها، رغم استخدامها الشعارات الإسلامية.

ففي الحالة الباكستانية، ومنذ نشوء الدولة باسم الإسلام، حيث يمسك الجيش بزمام الأمن الداخلي والإقليمي، يتم استخدام الجماعات الإسلامية - على اختلاف توجهاتها - بصورة تخدم سياسات متقلبة تسمح أحيانا بما تحرمه في أحيان أخرى.

وقد أدى ذلك المشهد إلى نشوء "طالبان باكستانية" في عام 2007م، وأن يتدخل الجيش وحرس الحدود في كل مكان تتمرد فيه هذه الجماعات على السياسات المقبولة حينها، وأن يحدث التدخل الخارجي بذريعة مقاومة الإرهاب فتحلق طائرات أمريكية بدون طيار تقتل المناوئين فتصيبهم مثلما تصيب الأبرياء، وأن يوسع الإنتحاريون مجال عملهم في شبكات محلية تستهدف المقاطعات الحدودية في الشمال الغربي، ثم تهاجم جماعات إسلامية أخرى أكثر تطرفًا مدن إسلام آباد ولاهور وصولاً إلى كراتشي.

إن الخلاف الذي زرع بذرة هذا الشقاق الدموي المسلح بدأ بين المسلمين في دولة نشأت من رحم المعاناة، بعد استقلالها والهند عن الإحتلال البريطاني، وانفصال كل منهما في دولة مستقلة بتخطيط بريطانيا.

ففي العام 1974م، أقصى التطرف السني أبناء الشيعة الأحمديين - التي اعتبرتها الدولة غير مسلمة - ومعهم المسيحيون.

ثم عاد المتطرفون ليضربوا مراكز العبادة الشعبية الإسلامية، المكرسة للأولياء من الصوفيين، وقد تكرر ذلك في بيشاور، مثلما حدث لضريح عمر باب في يونيو 2010م، والبنجاب في ضريح داتا غنج بخش بمدينة لاهور في يوليو من العام نفسه، وهو ما أوقع 45 قتيلا، وتكررت هجمات مماثلة وقع ضحيتها أبرياء آخرون، منها حاكم البنجاب سلمان تسير مطلع العام الماضي، وشهباز بهاتي، الوزير المسيحي الوحيد في الحكومة الفيدرالية، وكانت التهمة التي ألصقها الجناة بهما هو دعوة كليهما إلى مراجعة قانون يعاقب على الكفر بسبب استغلاله لشيء غير الدين.

ولعل السؤال الذي يُطرح اليوم في الباكستان، ولعلنا نطرحه بشكل أوسع، هل يقضي هذا التطرف - باسم الإسلام السياسي - بما يزرعه من خوف، وما يمارسه من عنف، على المساحات الهامشية الممنوحة للحريات التي تؤمنها الديمقراطيات الدستورية، وتؤكدها المواثيق الدولية؟ وهل تتحول باكستان إلى دولتين، سنية وشيعية، كما تحولت بعد انفصالها عن الهند إلى دولتي باكستان وبنغلاديش؟

ونحن في خضم هذا الزلزال الشعبي الذي يهز أركان البلدان العربية، بحاجة قصوى إلى التمعن في تجارب غيرنا، على الأقل تجارب يوغسلافيا، والباكستان، وأفغانستان، مثلما نحن بحاجة إلى استلهام روح الإسلام المتسامحة مع الآخر، التي تؤمن المخالفين على حياتهم، وتسمح لهم بممارسة عقائدهم وطقوسهم. إن الإسلام حين دخل الصين لم يقض على البوذية رغم ملايين من اعتنقوه دون سيف يُشهر. كما أن الإسلام الأندلسي في شبه الجزيرة الأيبيرية كان جنة اليهود الذين أخرجوا منها بعد سقوط آخر ممالك الإسلام هناك في غرناطة.

الإسلام هو الذي سمح لعلمائه ومفكريه ومترجميه على اختلاف مشاربهم وعقائدهم ودياناتهم أن يمارسوا حياة العلم في حواضره الآسيوية والإفريقية والأوربية، فصنعوا معًا الحضارة التي تأسست عليها نهضة أوربا بعد نهاية عصور الظلام. لقد أعتقت أوربا ذاتها بعد انفتاحها على العلم الإسلامي الأندلسي فخلعت عباءة التدين المزيف، ونقضت صكوك الغفران، وأمنت حياة أبنائها لديمقراطية الدساتير، وعلمنة السياسة، وليس من حق أحد أن يعيدنا إلى تلك العصور باختراع صكوك جديدة، تغفر لمن يشاء وتدين من يختار. نعم للديمقراطية التي تحترم الإنسان، ولا لصكوك الغفران التي تحرم الإنسانية من منجزها التاريخي والحضاري.

فالديمقراطية أمَّنتْ الحرية للإنسان في الغرب، وأزالت صراع الطوائف والمذاهب، وفتحت طرق الحوار، للتفاهم بين الأمم والقوميات، ولم يبق من صراع دموي إلا في دول الإسلام، التي ندعو أن يأخذ مسلمو الديمقراطية فيها اليوم بيد دول الإسلام هذه وإنهاء صراعاتها، وفتح الطريق السلمي أمامها للتطور والبناء والتقدم.

 

سليمان إبراهيم العسكري