مفاتيح لدخول الحارة.. يوسف القعيد

مفاتيح لدخول الحارة.. يوسف القعيد

اعتراف شخصي، قبل شهادتي عنه: عندما دونت اسمه وكتبت تاريخ ميلاده. وبتأثير العادة فقط امتدت يدي لتدوين تاريخ وفاته. فوجئت برجفة أصابت يدي. أثرت على حركة القلم. اكتشفت أن يوم الوفاة الذي عشته بالطول والعرض. قد تاه من الذاكرة. هل كان ذلك عملية رفض آلية لحقيقة أنه مات؟ وعدم تصور القدرة على التعامل - مع الآن - مع قاهرة من دونه ومصر من غيره. إنها المرة الأولى التي أخط فيها يوم وفاته. بعد يوم ميلاده مباشرة. دخلت إلى محاولة التدوين دون وعي مسبق. لعب العقل الباطن دورًا كبيرًا فيها، لكنني تهت. وتركت الورق أيامًا. ولولا إلحاح موعد تسليم هذه الكتابة. لانصرفت عنها نهائيًا. سألت نفسي: وهل بقي ما لم يكتب عن نجيب محفوظ سواء في حياته الحافلة، أم بعد رحيله؟ على الرغم من قصر المسافة، التي تفصلنا عن الرحيل؟ خاصة عندما يكون المطلوب شهادتي الشخصية عنه: روائيًا وإنسانًا. والشهادة فخ، لأنها تغري كاتبها بالكتابة عن نفسه. ومن الذي يمكنه مقاومة هذا الإغراء الفريد، الذي تمثله الكتابة عن النفس؟ ولأن الكتابة عندي هي الحرية غير المحدودة، قررت الكتابة، حسبما يقودني قلمي، على أن أمتلك شجاعة المحو، وهي أقوى من شجاعة الكتابة. فلا يبقى إلا ما كتبته عنه. وكتابتي موجهة لمن لم يتمكنوا من الاقتراب من الرجل، وإن كنت أشك في هذا كثيرًا. فالرجل كان كتابًا مفتوحًا، ويدًا ممدودة. لم يصف نفسه بالتواضع بقدر ما مارسه كل لحظة في حياته. إن ما أكتبه محاولة لوضع اليد على مفاتيح شخصيته، التي تجلّت لي في لحظات من لقاءات حميمة، بعضها قرأته، والبعض سمعته منه، في عبارات مركزة.

أنا

ذلك أن الاعتماد على النفس خير معلن عن معانيها، فالرجل لم يستند لأي قوة أو حزب أو شلة أو جماعة مصالح. قلمه سلاحه - ربما كان الوحيد - صحيح أنه كان وفدي الهوى، ولكنه لم يضع قدمه في حزب الوفد، لا القديم ولا الطليعة الوفدية ولا الجديد. لم يقل أمامي أبدًا إن الأديب حزب قائم بذاته، كان مغسولاً من هذه النرجسية التي نخرت مواهب كثيرة، ولكن الرجل كان يعرف طريقه، لم يضع قدميه في سفارة أجنبية على مدى حياته. ليس معنى هذا أن الذهاب إلى سفارة جريمة، ولكنه كان صاحب خط سير لا يغيره مهما كانت الظروف، ويوم نوبل قدم لي من خلال «بلاغة الصمت» أكبر دليل على الثبات على خط سيره، لم تغيره ولا حتى نوبل، كان يوم خميس، الثاني عشر من أكتوبر 1988، وكان لديه برنامج ثابت. وتوقعت أن يغيره، ولكنه نفذه بحذافيره. في الخامسة والنصف توجه إلى كازينو قصر النيل. وظل هناك حتى اجتمعت شلة الحرافش - أو ما كان باقيًا منها - في ذلك الوقت واتجهوا إلى حيث يسهرون، مع أن مجيء نوبل التي تأتي في العمر كله مرة واحدة كفيل بأن يوفر له ألف مبرر ليغير برنامج حياته ولو مرة واحدة، ولكنه لم يفعل. لديه قدرة فريدة على التفرقة بين الثوابت والمتغيرات.

عبقرية المجهود

لم تصل إليه قيم الفهلوة المصرية، في إنجاز مشروعه، الذي يقوم على مبدأ أن الكتابة الجدية، لابد لها من قراءة أكثر جودة. عندما سمع عن رواية «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، ولم تكن قد ترجمت إلى العربية بعد، حاول تعلم الفرنسية لكي يتمكن من قراءتها، ومن قبل وصل بإنجليزيته لحدود الإتقان حتى يتمكن من قراءة عوليس. ويقول بهدوء: بروست أكثر إنسانية ودفئًا من جويس. القراءة كانت اختيارًا.. أكثر منها تجميعًا لقوائم طويلة، من كل كاتب كبير يكفي قراءة عمل واحد. كل هذا جرى بتخطيط صارم ودقيق، ومن يقرأ البرنامج الذي وضعه بطل روايته «حضرة المحترم» لنفسه - مع الفارق بين البطل الموظف والمؤلف الروائي - يكتشف أنه أمام كاتب يرفض العشوائية في أمور الحياة والقراءة والكتابة. عندما كان يتأهب لقراءة عمل كبير، كان يقول: عندي شغل. وفي فترات الاستعداد لكتابة رواية جديدة يردد: عندي شغل. وكلمة الشغل تشير إلى عبقرية المجهود.

الوقت

المبدع نوعان: واحد صاحب مشروع، والثاني يبدع حسب الظروف، وصاحب المشروع ينظر إلى الوقت باعتباره أكبر ثروة، ولا مفر من التنظيم الدقيق. إن ذلك التصور ينطلق من كون الوقت أكبر ثروة بالنسبة للإنسان عمومًا، وللكاتب بشكل خاص. نجيب محفوظ، كما أطلق عليه «محمد عفيفي» مبكرًا جدًا، في ستينيات القرن الماضي: الرجل الساعة. كان مثل السكة الحديد في زمان مضى كنت تضبط عليها ساعتك. كان يوسف إدريس يقول عنه على سبيل النكتة: إن نجيب لو كتب و«نظر مصطفى إلي...» وإن انتهى وقت الكتابة يتوقف قبل أن يتم الجملة، ويؤجل المتبقي من الجملة. حتى يحين موعد الكتابة في الغد. يا ويل الروائي، عندما يقول قاص رأيه فيه.

إن هذا التنظيم الصارم مكّن الرجل من تقديم هذا العالم الروائي المزدحم بشخصيات بدت لنا مثل البشر الذين نقابلهم في الواقع. للكتابة وقت، وللراحة وقت، وللوظيفة وقت، وللفسحة وقت، وقبل كل هذا وبعده للقراءة وقت. والتنظيم وحده هو القادر على حفظ المياه الإقليمية بين وقت ووقت.

المعرفة

الرواية فن التفاصيل الصغيرة، لذلك من الأفضل للروائي الذي يكتب كتابة واقعية، ألا يكتب إلا عما يعرفه شخصيًا. من الصعب استعارة تجارب الآخرين ومن المستحيل القراءة عن الواقع الذي يكتب عنه الروائي، ليس معنى هذا أنه لا مفر من المرور بالتجارب التي يصورها الروائي. ولكن تفضل المعرفة. والمعرفة تبدأ من المكان والزمان، وتنتهي عند النفوس التي ستتحرك في هذا الفضاء. قال ذات مرة «عندما أكتب لا أعبأ بشيء»، أي شيء، وهذه الكلمة توشك أن تشكّل دستور حياته كلها حتى لو لم يقلها، فقد كانت أساس عملية الكتابة عنده، كان يمارسها أكثر ما يعلنها. الكتابة أيضًا ممارسة، والانقطاع عنها لفترات قد تطول، يجعل أدوات الروائي تصدأ، لذلك كان يكتب كل سنة. صحيح أنه توقف لفترات لأسباب قهرية، لكن استمرار الكتابة كان مسألة مهمة بالنسبة له. وحاول أن تراجع السنوات العشر الذهبية في إبداعه الروائي، 1959 - 1969، لتكتشف أن الكتابة ممارسة أكثر منها إمكانية.

الروائي

كان يدرك أن معاناة الكتابة مسألة تخص الروائي وحده، بمعنى عدم الكلام عن النص خلال كتابته. أتذكر أنه عندما انتهى من كتابة «المرايا». قال لنا إنه لم يكن لديه موضوع جديد يكتبه هذا العام،. فجمع عددا من الشخصيات، التي عرفها، وقدمها من خلال رواية اسمها «المرايا» وبدأ شلال الأسئلة - من جانبنا طبعًا - عرفنا منه أنه غيّر في أسماء الشخصيات وملامحها. كان حريصًا على ألا يصرح باسم الشخص الواقعي المقصود من الشخصية، التي قدمها في روايته، وكل ما قيل منسوبًا إليه في حياته، وسيكثر القول بعد مماته، من أنه يقصد سيد قطب بفلان في الرواية، هو مجرد اجتهادات حتى وإن نسبت له. كرر هذا القول بعد أن كتب روايته: حديث الصباح والمساء، ثم قاله لثالث مرة بعد أن أنجز أصداء السيرة الذاتية. لم يكن يتكلم عن عمل يكتبه، ولا يتكلم إلا بعد الانتهاء من الكتابة، وحتى إن تكلم فهو لا يشرح ولا يحلل، لكنه يرد على تساؤلات بأقل الكلمات الممكنة. كان الرجل يستمع أكثر مما يتكلم، كان يقول: من نعم الله على الروائي أن يتكلم قليلاً، وأن يستمع كثيرًا.

المتلفت لا يصل

لم تكن عبارة، كانت أقرب لشعار عمره. لهذا السبب لم يدخل في معركة مع أحد. حتى ما قيل من أنه دخل في معركة مع العقاد على صفحات مجلة «الرسالة» في أربعينيات القرن الماضي حول السيادة للشعر أم للرواية. قال لي - أكثر من مرة - إنها ليست معركة ولا يحزنون، وعند العودة للمقالين، تكتشف أنهما منشوران في عدد واحد من «رسالة» أحمد حسن الزيات. ناقدان أدميا قلبه، لأنهما تطرقا في الكتابة عنه لأمور خاصة وشخصية، ولم يفكر في الرد عليهما. ولم يصرح برأيه فيما كتب عنه إلا في لقاءات محدودة الحضور، وفي حلم من أحلام فترة نقاهته الأخيرة. يشكو من ناقد، رآه في الحلم، سألت نفسي أيهما الذي يقصده؟ ونويت أن أسأله. لكن الموت كان أسبق إليه من سؤالي.لا تقع في حب واقعك الذي تكتب عنه ولا زمانك الذي تتناوله. لابد من وجود مسألة لفصلك عمّا تكتب عنه. إن المتابعة الدقيقة أمر آخر، غير أن يصبح الإنسان جزءًا من هذا الواقع. وهو الذي لم يتكلم كثيرًا عن هذا الاستقلال المستحيل بالنسبة للكاتب في زماننا، قدم المثال النادر له، بالسلوك اليومي والكتابة المستمرة.


يوسف القعيد 





النزهة التي كان يقوم بها نجيب محفوظ في الصباح المبكر على شاطئ النيل كل يوم