الإسلامية والروحية

الإسلامية والروحية

صدرت الطبعة الأولى من كتاب: «الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ» عام 1972 من الكويت، وما يعنيه هذا للكتاب أنه ألف بدافع نقدي خالص، فلم يكن مجاراة للتيارات الإسلامية (السياسية) أو حوارًا معها أو ردًا عليها، لأنها - حتى ذلك الوقت - لم تكن أخذت شكلاً يثير الاهتمام.

تلقيت بعد صدور الكتاب من نجيب محفوظ رسالة خطية (نشرت صورتها مجلة البيان التي تصدرها رابطة أدباء الكويت - مايو 1972) ومن أهم ما تضمنت من عبارات قوله: «ولعل الاضطراب الناشئ من قراءة أدبي أحيانًا مصدره أن قلبي يجمع بين التطلع لله والإيمان بالعلم والإيثار للاشتراكية، ومحاولة الجمع بين الله والاشتراكية مثار للظن بالإلحاد عند قوم، وبالمحافظة عند آخرين»، ثم تتضمن هذه الرسالة عبارات وردت بنصها - تقريبًا - في رواية «قلب الليل»، التي صدرت عام 1975. إن النقد الأدبي الذي لا يتحمس لتفسير المبدع لكتابته سيجد مشقة في تخطي هذه الإشارة. في سياق الرسالة أكثر من عبارة ترجح حالة من الرضا لصدور الكتاب بهذا العنوان المحدد المباشر، ولكن فريقًا من أهل الأيديولوجيا في الاتجاهين هاجم الكتاب بدعوى أنه يحاول أن يضع «عمامة» على رأس نجيب محفوظ، وهذا - فيما يراه الإسلاميون - باطل، أو بدعوى أن «استنطاق» الأعمال الأدبية - أي الاهتمام بالمعنى أو القضية - ليس من النقد الأدبي!! والكتاب بمحتواه ومنهجه لم يفكر مطلقًا في خلع لقب «صاحب الفضيلة الشيخ» على شيخ الرواية العربية، وإذا كانت بعض مناهج الحداثة تأبى الوقوف عند المعنى، فهذا يصح في حال إفراده وعزله عن مكونات التشكيل، وإلا فكيف نصل إلى معنى المعنى! وهل صدر مرسوم بإلغاء «القضية» وسحب الاعتراف بأدب المواقف؟ وإذا لم يكن... أفليس من حق الناقد - بل من واجبه - أن يعيد قراءة إبداع يرى أنه قد أغفلت في قراءاته السابقة جوانب وإشارات وصور ورموز وعبارات وسياقات لتحقيق مأرب منهجي أو سياسي؟!

لقد أضافت الطبعة الثانية، ثم الثالثة من الكتاب (وقد صدرت بعد نوبل) ما يكشف عن التصور الهيكلي للمنجز الحضاري البشري المستخلص من الإسلام والثورة الفرنسية، والثورة الماركسية في «قلب الليل» وبعدها بعامين (1977) صدرت «ملحمة الحرافيش» لتقيم تتابعها على مزيج من أساس الصراع وتجلياته في «أولاد حارتنا»، واستخلاص مقومات التقدم الإنساني في «قلب الليل»، دون تعليق اللوحات على أعمدة المأثور الديني الذي أحدث قلقًا كان من الممكن تجنبه.

في هذه المقالة، نحاول الاستمرار بإضاءة ما يمكن أن نطلق عليه اختصارًا: «الظاهرة الإسلامية» محددين بالأعمال، التي أعقبت «الحرافيش»، وهي أعمال لم تنل من اهتمام النقد بعض ما حظيت به الثلاثية، أو الخماسية، التي عرض فيها لعلاقة المثقف بالسياسة في عصر الثورة (اللص والكلاب - السمان والخريف - الشحاذ - ثرثرة فوق النيل - ميرامار)، وإذا كان تراجع الاهتمام النقدي قد عوّضه - رواجًا - الاهتمام الإعلامي الدعائي، وبخاصة بعد نوبل، فإن «القراءة الإسلامية» أهملت، إلا أن تكون رفضًا وتشككًا، إلا فيما ندر، ومن ثم توجب علينا أن نستكمل ما بدأناه، وبخاصة أن موقف الكاتب اقترن - في المراحل المتأخرة - بتنويعات في التشكيل الفني ذات دلالات عميقة في النظر إلى العقيدة الإسلامية في ضوء حياة المسلمين وما بينهما من مفارقة لا يتردد في تعليلها.

ظاهرة قديمة في الأعمال الجديدة

لن تتسع المساحة لغير الإجمال والإشارة، ولكن هذا القدر المستقطب يبقى مهمًا أيضًا من الوجهة النقدية الدالة، لأننا في وصف أو تحليل نص أدبي نبدي اهتمامًا بالفقرات، التي تدل على حيوية المعنى في هذا النص، وليس من مجال لفحص تواتر المعنى، واتساعه، وتشكلاته في نصوص أخرى، وهذا الاستغراق في النص المنفرد يؤدي خدمة جليلة، ولكن عدم العناية بالظاهرة الممتدة يفقدنا خدمة أجل، هذه الخدمة، التي تجاوز الموضع إلى الموقع، وترصد تطور الوسائل والوسائط سواء بفعل الزمن المتغير أم بتراكم تجربة الكاتب نفسه.

إن المحور الذي نعنى به يأخذ في حقبة الثمانينيات خاصة طابعًا يمكن أن نصفه بأنه أكثر مباشرة وتحددًا، وربما حدة أيضًا، في «الباقي من الزمن ساعة» (1982) و«رحلة ابن فطومة» (1983)، ولكن الظاهرة لا تنحصر فيهما، ولا تبدأ - فيما بعد «الحرافيش» - بهما، فقد صدرت «ليالي ألف ليلة» قبلهما، وبعد كل ما هو متداول من مسرحيات وحكايات شهرزاد وشهريار عقب انقضاء المدة، فإن هذه الرواية تميزت بأنها استوعبت عددًا غير قليل من حكايات الليالي (الأصل)، والتراث الحكائي العربي، وحافظت على الطابع العجائبي، ولكنها اختارت من أخلاق شخصياتها (البشرية والعفاريت) ومن أحداثها ما يستدعي ومضات من روايات سابقة للكاتب بما يؤكد وحدة رؤيته، ويأخذ من مشكلات عصر الكتابة ما يؤهل للتفسير والتحليل الواقعي عند تجاوز الجوانب العجائبية، فكأنما كتبت الرواية من صورتين تم تركيبهما، كما تركب مشاهد السينما، التي تعرض ما لا يمكن حدوثه. إن الشيخ عبدالله البلخي (الصوفي) أستاذ شهرزاد وجميع الشخصيات (البشرية) تقريبًا أقوى حضورًا وتأثيرًا من الشيخ الجنيد (اللص والكلاب) بمقولته المختصرة الجامعة «توضأ واقرأ». البلخي صوفي يعيش في مقام الحيرة، بين العبادة والندم، وينشر مفرداته في اتجاهات شتى، في سياق الأحداث التي تتعاقب حاملة أسماء شخصيات. سنجد السلطة لا همّ لها غير توطيد أركانها بوسائل الشرط وكبار المتنفذين، والمناخ العام. كما يعبر عنه صنعان الجمالي: «عجيبة هذه السلطنة، بناسها وعفاريتها ترفع شعار الله وتغوص في الدنس»، صنعان يصف زمن الكتابة وليس زمن الحدث في الرواية، وحين يشير إلى الشيعة والخوارج، إنهم في «ليالي ألف ليلة» ليسوا اليمين الإخواني، واليسار الماركسي أو ما أشبه، ففي الثمانينات كان اليسار بكل أطيافه في تراجع وهزال، وفتحت اللية لتنافس جديد بين الصوفية والأصولية، وقد رمز لهما بالشيعة والخوارج، وكيف أن السلطة لم يعد لها من هم غير مطاردتهما، وإلصاق أي جريمة بطرف منهما، حتى لقد اعترف بقتل شخص واحد خمسون من الخوارج!! إن هذه الرواية تعلل لنشأة التطرف، واعتناق مبدأ الجهاد وشرعية الاغتيال السياسي باسم الله، يقول عبدالله الحمال: على الوالي أن يقيم العدل من البداية، فلا تقتحم العفاريت علينا حياتنا!، وفي رأيه أن سبيل الله واضح، ولا يجوز أن يخالطه غضب أو كبرياء، وإلا انهار البناء من أساسه، ويعترف أهل السلطة بعجز منهجهم وانحرافه، حتى يقول أحدهم: الدعارة إثم سري، ونحن منهمكون في مطاردة الشيعة والخوارج. وهذا يشبه قولنا إن الأمن السياسي شاغل النظام حتى غاب الأمن الاجتماعي. ويعترف آخر بأن أهل السلطة فاسدون مجرمون - وهو منهم - ولكنه يحفظ النظام بما أنه واجب، وعلى الرغم من أن «الخوارج» يملأون صفحات الرواية بالقتل عقابًا على غياب العدل واستشراء الطمع، وجنون الشهوات، فإن مجلس البلخي ومريديه المنتشرين لا يكفون عن نشر أجوائهم المفعمة بالأشواق والمناجاة والتأمل، وتمضي الرواية وتنتهي دون أن تبشر بالثمرة (الجدلية) المشتهاة أو المتمناة، بل إن الحوار بين الطرفين يرفع الخوارج عن أندادهم درجات. في الحوار بين فاضل صنعان (الخوارج) وعلاء الدين (الشيعة)، يؤمن فاضل بأن البلخي أكثر من مجرد شيخ طاهر، ثم يقول: تلقيت على يديه تربية لا تزول آثارها، ولكني آثرت البقاء على الفناء. بمعنى يشرحه بأنه فضل أن يكون من «جنود» الله، لا من «دراويشه»، ويمضي فاضل مصورًا ضيق مجال الاختيار: المنطلق من الإيمان دائمًا وأبدًا: الطريق واحد في الأول، ثم ينقسم بلا مفر إلى اتجاهين، أحدهما يؤدي إلى الحب والفناء، والآخر إلى الجهاد، أما أهل الفناء فيخلصون أنفسهم، وأما أهل الجهاد فيخلصون العباد.

إن نجيب محفوظ الذي درج على أن يفتح فكريًا الطريق إلى احتمالات عدة أمام المستقبل، لم ير - في هذا الموضوع - غير الدراويش والمجاهدين. ومع إعجابه «الفني» بأجواء التصوّف ورموزه، فإنه لم يعط درجة من الوضوح للتصوف العملي، ولعل هذا الانحسار المخيف لإمكانات الانفراج عللته الأحداث في اليأس من الإصلاح بتعاقب متنفذين فاسدين، لم يتركوا مجالاً غير البحث عن خلاص النفس الفردية بالعزلة واجتياز العقبات الست، التي تنتهي إلى إغلاق باب الأمل، وفتح باب الاستعداد للموت!!

في «ليالي ألف ليلة» مقولات إسلامية، ومبادئ، وتحديات غاية في القوة والأهمية، ولكن الاختصار لا يتسع لها، وإن حقت الإشارة إلى بعض منها، كما نجد في هذا الحوار القصير بين البلخي (المفوض أبدًا) وتلميذه الذي يأخذ بالمقدمات والنتائج: قال الشيخ: يا صديقي لا عيب فيك إلا أنك تغالي في تسليمك للعقل.

- إنه زينة الإنسان.

- من العقل أن نعرف حدود العقل.

فقال عبدالقادر:

- من المؤمنين مَن يرون أنه بلا حدود.

رواية أجيال مرة أخرى

في رواية «الباقي من الزمن ساعة» - وقد ظهرت في العام نفسه 1982 - تتداخل صفات الرواية التسجيلية، والسياسية، والتاريخية، والرمزية. إن سنية المهدي تكتسب مستوى الرمز لمصر بالعودة إلى جدها المهدي الذي اعتنق الإسلام، قال أقباط أسرته، إن هذا التحول بسبب امرأة جميلة رغب في الزواج بها، وقال هو إن النبي دعاه إلى الإسلام في رؤيا اطمأن إليها، وإلى كونها تحرص على اللون الأخضر في دهانات بيتها وأثاثاته على السواء، بل إن وصف البيت بغرفه والحديقة المتسعة حوله ملائم لجغرافيا مصر، على أنها كانت قد ورثت عن والدها الانتماء إلى حزب الوفد، والاطمئنان إلى عظمة زعيمه مصطفى النحاس حتى بعد «الثورة» والتسليم بزعامة عبدالناصر. يجري زمن الرواية بين معاهدتين: معاهدة 1936، التي عقدها النحاس مع بريطانيا، ومعاهدة كامب ديفيد، التي عقدها السادات مع إسرائيل. عكست شخصيات الرواية ألوان الطيف السياسي في مصر إبان هذه المسافة، التي تزيد على أربعين عامًا، كما هو معهود في هذا المستوى من الروايات المحفوظية، التي تضع حركة المجتمع في بؤرة الاهتمام، فإنها تحرص على «تمثيل» كل الاتجاهات السياسية ذات الأثر. لقد انتمى محمد - الابن الوحيد لسنية المهدي وحامد برهان - بين ابنتين: كوثر، ومنيرة - انتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين (شعبة حلوان) منذ كان طالبًا بكلية الحقوق، بدأت علاقته بحب الاستطلاع، وبدافع التوتر السياسي العام في البلد أواخر الأربعينيات، وانتهت إلى أن دخل السجن عقب مصرع النقراشي، وبقي به أشهرًا عدة، ثم زج به مرة أخرى زمن عبدالناصر، وخرج من السجن بعين واحدة وساق مكسورة!! وفي كلتا المرتين، لم تكن إدانته محددة، وإنما هو الانضمام إلى جماعة الإخوان!!

محمد إخواني صريح على الرغم من عشقه القديم للوفد بتأثير المناخ الأسري، وقد تهلل عقب انتشار أسماء الذين قاموا بالانقلاب على الملك، فأكثرهم من الجماعة، وهذا يعني - فيما يتصور - أن دولة الإسلام قادمة لا محالة، ولكن التنازع على السلطة ما لبث أن فرض شقاقًا، فراعًا لا يحتمل غير غالب ومغلوب، فكان نصيبه فقد عين وساق!! لقد اختار الكاتب شخصية محمد، باسمه المباشر، على هذا النحو الذي يكشف عن مواضع الخلل فيه، أو النقص في معنى اكتماله، بمجرد النظر، أي مباشرة أيضًا - ولكن الكاتب لم يشفع هذا الخلل العضوي (الظاهر) بأي انحراف أو نقص نفسي أو شعوري. كان ناجحًا في عمله وموضع ثقة، وتزوج من فتاة - بدرجة ما متفرنجة - حفظت عهده، وصبرت إبان محنته، وتقبلته بعد مصابه كما تقبلته قبله. وفي جيل أبناء سنية المهدي، وحامد برهان المعاصر للثورة، لم يتسع المجال للتلوين السياسي، ولكن جيل الأحفاد مارس هذا التنوع منذ النكسة (1967)، وحتى آخر الرواية، وكان نصيب محمد أن تتمرد ابنته سهام على إسلام أبيها، وترسو حيرتها من خلال الحب على شاطئ العلمانية والإلحاد الصريح، في حين ظل ابنه شفيق ابنا لعصره: يغني بصوت جميل، يجتهد في المدرسة ثم الكلية، يعيش حالات من العشق يداوي بها الحرمان المفروض، يتعلق بأبيه إلى أقصى حد وعند اللزوم يرى معه أنه لا حل غير الحل الإسلامي. لحظات نادرة مازج نفس محمد شيء من الشماتة في السلطة أو في المجتمع الذي لم يعدل ولم ينتصف له، مثل يوم النكسة، وموت عبدالناصر، غير أنه لم يتراجع نصف خطوة في الحفاظ على سلام الأسرة الكبيرة والصغيرة ووحدتها، والرفق بأختيه (كوثر ومنيرة) على الرغم من أنه لم يجد بينهم مَن يتحمس للحل الإسلامي غير ابنه شفيق الذي يبدو مشاهدًا من الخارج وليس «منظمًا» مثل أبيه.

لقد صدرت الروايتان: «ليالي ألف ليلة»، و«الباقي من الزمن ساعة» في العام نفسه، على التتابع.

والزمن ركن من أركان العنوان، والنسبية بين الليالي والسعة، هل تعكس إحساسًا معينًا في مثول السلطة والدروشة والأصولية والإخوان... في حياتنا؟!

ثم تأتي الرواية الأخيرة في هذا المحور (الإسلامي) فنلتقي بقنديل محمد العنابي، وقنديل هو الاسم الرمزي لجبريل (الوحي) في «أولاد حارتنا»، هو ملازم للنور والكشف، ولا يكون الكشف إلا عن طريق السؤال، كما أن النور الكاشف هو الذي يذكي التساؤلات، حيث تتسع المساحة المرئية فتغري بالمقارنة. هكذا كان قنديل الرواية ظاهرها القيام برحلة تستوحي اسما وحركة رحلة ابن بطوطة، وحقيقتها طرح التساؤلات القلقة المثيرة عن عظمة الإسلام وتخلف المسلمين، وهو سؤال مطروح ولا يزال، بل لعله الآن ومستقبلاً أشد إلحاحًا.

أسئلة الأزمة

بدأت تساؤلات قنديل المحددة بهذا المسار منذ كان طالب علم يتعهده الشيخ مغاغة الجبيلي. ومن المهم أن نتعرف على أول حوار أثير في الموضوع، والرواية كلها مروية بضمير المتكلم: «ويوما - لا أذكر في أي فترة من العمر -سألته:

- إذا كان الإسلام كما تقول فلماذا تزدحم الطرقات بالفقراء والجهلاء؟

فأجابني بأسى:

- الإسلام اليوم قابع في الجوامع لا يتعداها إلى الخارج!

ويفيض في الحديث فيلهب الأوضاع بنيرانه، حتى الوالي لا يسلم من شرره، وقلت له:

- إذن إبليس هو الذي يهيمن علينا لا الوحي.

فقال برضا:

- أهنئك على قولك، إنه أكبر من سنك.

- والعمل يا سيدنا الشيخ؟

فقال بهدوء:

- أنت ذكي، وكل آت قريب».

إن عدم تحديد العمر الذي جرى فيه الحوار، يدعم جانب الفطرة، وأنه سؤال بدهي، وأن المفارقة (الفاضحة) بين مبادئ الإسلام وحديث أهله عن سموها وبين دلائل الحال وشواهد التاريخ لا تحتاج إلى خبرة خاصة أو علم رفيع، وإذا كان الشيخ مغاغة قد سبق إلى الرحلة ووصف البلاد، التي زارها خارج ديار الإسلام، وامتدح روح التجديد فيها، فإن رحلة قنديل ستمر في الخط نفسه، وتنتهي إلى الأحكام، التي شهد بها الشيخ بما يؤكد أنه ليس من اليسير التخلص من تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وإذا كان الشيخ يلهب الأوضاع بنيرانه، حتى الوالي لا يسلم من شرره، فإن الراوي وضع بين أيدينا المفتاح الذي يغلق أو يفتح الطريق إلى التقدم.

لقد قام برحلته تحت وطأة الشعور بالخيانة أو المهانة، ولكنه ارتفع بالمطلوب شأن رجال العلم: «أريد أن أعرف، وأن أرجع إلى وطني المريض بالدواء الشافي».

كان في تصوّره أن الرحلة بين البلدان، التي حددها تستغرق عامًا، ولكنه قضى نحو نصف قرن، زار فيها: دار المشرق، ثم دار الحيرة، من بعدها دار الحلبة، من بعدها دار الأمان، وأخيرًا: دار الغروب، التي تسلم إلى: البداية، وليس إلى النهاية، كما نتوقع عادة، باستثناء دار الغروب، سنجد في الدور الأربع ملامح من حضارات ونظم سائدة توحي بخصوصيتها دون أن تسعى إلى التطابق، وإذ يعتقد قنديل محمد العنابي بتفرّد عقيدته الإسلامية وتساميها فوق هذه النظم (البشرية) من منطلق إيماني جاهز، فإنما تتوالد الأسئلة بقوة الدليل العملي حين يشاهد نقصًا: لماذا يوجد عندنا مثله مع أننا مسلمون؟ فإذا شاهد نظامًا وأمنًا ورقيًا تساءل: لماذا لا يوجد عندنا مثله مع أننا مسلمون؟! إن الرواية بهذا تطرح أسئلة أزمة المجتمعات الإسلامية، تاريـخًا وحاضرًا، وترشد إلى طريق استخلاص الجواب دون أن تحدده، على أن جميع الديار تتعصب لعقيدتها، وتخوض الحرب دفاعًا عنها، وهو القدر المشترك بين الجميع.

في دار المشرق يهيمن العري والفراغ، وإذ تفزعه مظاهر البؤس في هذا البلد الوثني، يلتمس له العذر في وثنيته ذاتها، «ولكن أي عذر أعتذر به عن أمثال هذه المظاهر في بلدي الإسلامي؟ وقلت في نفسي: انظر وسجل واعترف بالحقيقة المرة». ويراقب بحزن كيف شمخت قصور فاخرة لسادة محدودي العدد وملك بين قوم من العبيد الحفاة؟ ثم حين يستعيد ذاكرته يقول: «إثمنا - نحن دار الوحي - أفظع من سائر الخلق»!! ويمتد الحوار بين قنديل وحكيم المشرق، فيعلي قنديل من شأن أخوة البشر من أب وأم واحدة. ولكن الحكيم يسأل عن مدى تطبيق الشعار: هل يوجد لتلك الأخوّة المزعومة أثر في المعاملة بين الناس؟ وحين يغضب قنديل لكلمة شعار، يقول إنه دين وليس شعارًا، يجيبه الحكيم ساخرًا: ديننا لا يدّعي ما لا يستطيع تطبيقه!!

ديار أم حضارات؟

في ديار المشرق، قضايا ترجع إلى أصول العقيدة، ومن جملتها مفهوم الحلال والحرام، والمأذون به والمرفوض، وأن هذا ليس - بالطبع - وإنما بالعرف، فحين يقول قنديل لـ«عروسة» التي تزوجها (وهي مثل كل نساء البسطاء مجردة تمامًا): دعيني أستر جمال جسدك، فقالت بانزعاج: لا تجعل مني أضحوكة!! ويتكرر الموقف من الأساس ذاته حين يحاول قنديل تعليم ابنه الطفل بعض مبادئ الإسلام، فتقول عروسة بجدية: إنك تنشئه على الكفر وتعده لحياة تعيسة في بلده!! لقد طاردته التهمة، وضبط متلبسًا بتنشئة ابنه الأكبر على الكفر، فوجب التفريق بينه وبين زوجته عروسة (واسمها يحمل خلاصة شخصيتها) وطرده من ديار المشرق دون أسرته. وهكذا أخذ طريقه إلى ديار الحيرة، وهي على عكس ديار المشرق محكومة بملك معبود، مما حمل قنديل على السخرية من بشر يعبدون بشرًا «ولكن رويدك، ألا يتصرف الوالي في وطنك كأنه إله؟»، ويقول أيضًا: «ما من سيئة عثرت بها في رحلتي إلا وذكرتني ببلادي الحزينة»، ويستمد تجاربه في وطنه حين يشاهد رءوسًا مقطوعة معلقة أمام قصر الملك المعبود، فيقال له إن هؤلاء متمردون نالوا جزاء جرمهم، فيقول: «وأنا على يقين من أنهم شهداء للعدل والحرية قياسًا على ما يقع عادة في بلاد الوحي»، ويستدعي من الذاكرة شخصية شيخه مغاغة الجبيلي فيسأله على البعد: أيهما أسوأ يا مولاي: من يدّعي الألوهية عن جهل، أم من يطوع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية؟

وكما اتهم في دار المشرق بتهمة دينية، فقد لفقت له تهمة السخرية من دين عبادة الملك ووجب إبعاده، والتفريق بينه وبين عروسة - مرة أخرى - وكان لقيها بعد أهوال وعجائب. وأخيرًا انتهى قنديل إلى أن ما يجمع بين دار الوحي (الإسلامية) ودار المشرق (عبادة القمر وحرية الجسد) ودار الحيرة هو: جرائم العقائد والسياسة!!

بعد سجن استمر عشرين عامًا، انتهى إلى دار الحلبة، التي تعكس طبائع الحضارة الغربية، وهي توصف بأنها دار الحرية، مترامية، عظيمة النشاط، بديعة العمران، مسرفة في كل مظاهر الثراء، متطرفة في الإقرار بحرية الأفراد والجماعات، وفي شوارعها يجد مسجدًا، وأذانًا، وشيخًا، له زوجة عصرية وابنة طبيبة مهذبة (اسمها سامية، وهذا في مقابل اسم عروسة)، ولا شأن للدولة بالأديان، ولهذا تقبلت رئيسًا وثنيًا، ومظاهرة تدافع عن الشذوذ، وينزعج قنديل من إسلام أهل الحلبة حتى يقول لشيخ المسجد:

- «لو بعث نبينا اليوم لأنكر هذا الجانب في إسلامكم.

فتساءل بدوره:

- ولو بعث عليه الصلاة والسلام أما كان ينكر إسلامكم كله؟!

آه.. صدق الرجل وأذلني بتساؤله».

في دار الحلبة، اختفى منصب الحكيم العارف بكل شيء وحلت في موقعه مراكز العلم، التي تملك المعرفة، هنا تبرز قضايا الاستبداد وحرية المعرفة، والاحتكام إلى العلم، وحق الثورة على الظلم. وإذ يصادف حكيمًا يعيش هناك (اسمه مرهم الحلبي) يهاجم الأنظمة الأخرى بما فيها دار الإسلام، التي لا يأخذ من مبادئها المعطلة غير مبدأ «الجهاد». «وراح يفسره تفسيرًا عدوانيًا، فتصديت لتصحيح نظريته، ولكنه لوّح بيده باستهانة وقال: لديكم مبدأ عظيم ولكنكم لا تملكون الشجاعة الكافية للاعتراف به!».

كانت الحماة قالت لقنديل: الإسلام يذوي على أيديكم وأنتم تنظرون. أما سامية (بعد أن تزوجها قنديل)، فقالت: الفرق بين إسلامنا وإسلامكم أن إسلامنا لم يقفل باب الاجتهاد، وإسلام بلا اجتهاد يعني إسلامًا بلا عقل. وأشار الإمام إلى غياب الأساس الأخلاقي في دار الإسلام حيث الحاكم المستبد، ورجال الدين الذين يطوعون الدين لخدمته، والشعب المرهق بالفقر لا يفكر إلا في لقمته. في دار الأمان، دار العدالة الشاملة كما يصفها حرّاسها، نلمح طبائع النظام السوفييتي زمن تألقه: الانضباط، الصرامة، العمل، الجماعية، التجهم، المساواة، وحين يعرف أن رئيس دار الأمان منتخب من الصفوة، وأنه يستأثر بمنصبه مدى حياته، ولا يعزلونه إلا إذا انحرف، يذكره هذا بنظام الخلافة في دار الإسلام، حيث يهيمن الخليفة على كل شيء. في دار الأمان خاصة يتبين له قدر ما يعانيه الناس في دار الإسلام من تفاوت فاحش، وأنها الدار التي تعلن هدفًا وتحقق آخر عكس الديار الأخرى التي تحقق ما تعلن.

في دار الغروب نعرف أنها خاتمة المطاف الإنساني، وأن قنديل العنابي في مرحلة برزخية، وهذه الدار تعيش حال حياد أو تعادل، تتكشف عن رؤية تمهّد لصاحبها أن يدخل دار الجبل حيث يؤدي الحساب على ما اكتسب في رحلاته، وهذا بدوره يسلمه إلى بداية جديدة بدخول دار الجبل، دار الكمال، التي ترحب بداخليها، هي ختام الرواية وحافز إعادة قراءتها في ضوء هذا البيان الأخير.

إن هذا التراتب بما أثار من مقارنات وتداعيات، أثارت أسئلة حول واقع حياة المسلمين وأسباب تخلفهم، مع دعاواهم الكبيرة وأعمالهم الهازلة والهزيلة يجعل من هذه الرواية إسهامًا مباشرًا في تحليل أزمة التخلف دون أن يطرح حلولاً أو يقترح، وإن كان قد نثر في أثنائها لوحات إرشادية كثيرة جدًا لا تخفى أمام القراءة المتأملة.

 

محمد حسن عبدالله 




من حق الناقد ان يعيد قراءة نجيب محفوظ ويعيد تفسير ادبه من جديد





 





 





 





 





قبل وفاته بفترة قصيرة كان قد اطفأ الشمعة الخامسة والتسعين من سنوات عمره