قراءة أخرى: الشكل ثم الشكل...!

قراءة أخرى: الشكل ثم الشكل...!

عاشرت نص نجيب محفوظ طويلاً، وبالغت في العناية به، قبل أن أتحوّل عنه للاطلاع على الرواية الإسبانية، ورواية أمريكا اللاتينية معتبرًا أن روائع الأدب الغربي - الفرنسي خاصة - التي ملأت ذهني ومخيالي لا تعدو أن تكون من قبل التمارين المدرسية...!

وبقي محفوظ كبيرًا رائعًآ مقارنة بالأنماط والأجناس، وجميع التحولات، التي عرفها نوع الرواية على مر العصور، بل لعل القيمة الكبرى النابعة من أدبه - والموصولة بالشكل في أحلى مظاهره، كامنة في عمق التعريب الشكلي الذي أحدثه الرجل منذ فترة الثلاثينيات حتى نهاية القرن العشرين.

محفوظ هو أب الحارة المصرية العتيقة، فهو يصوّرها في نضج منقطع النظير، ومحفوظ هو أب النموذج النابع من الطبقة الوسطى، التي عليها مرتكز الأمر كله في المجتمعات المدنية المتوازنة، القادر على توليد جنس الرواية، ومحفوظ هو أب الرواية الاجتماعية الواقعية.

تلك قارات اكتشفها الرجل، ولا نعرف له منازعًا فيها! لكننا نود الإلحاح ههنا على أن مرتكز الثقل في «النص المحفوظي» لا يعدو أن يكون قدرته على صياغة أشكال متباينة، وإحداث تحولات غير مسبوقة أدت به إلى اختزال عصور متوالية من الروايات التاريخية، والواقعية الاجتماعية، والعبثية، والذهنية، والتجريبية!

اطلعتُ على النص المحفوظي في طور «الواقعية الاجتماعية»، ثم استرجعت الروايات التاريخية، قبل أن أواكبه في كل ما كتب، حتى غدوت أعتبره فعلا أبًا للنص الروائي العربي الحديث. وولّد ذلك معرفة بمحفوظ، والقاهرة، والرواية، بل جعلني أتعلق بهذا الجنس من أجناس الكتابة، وأجعل منه مرتكز الاهتمام في حياتي بكاملها، إذ بدا قادرًا على الفتنة، جميل مثل صندوق أمهاتنا في الزمن القديم، يحوي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر! لذلك أوقفت دراساتي على جنس الرواية، كما سعيت إلى بناء مشروع في كتابة الرواية قائم على ادّعاءات شتى وثوابت كثيرة ليس هذا بمجال الخوض فيها.

فما أهمية النص المحفوظي في سياق تاريخ الرواية العربية؟ لا أشك في أن تلك المفاصل، التي أحدثها الرجل في أوقات بعينها، تنبئنا بكثير من خصائص النص الذي استنبطه، وعلى الرغم من أن رواياته تبدو منسجمة من أطوار بعينها مرّ بها الشعب المصري، والشعوب العربية، فإن الواقع سرعان ما ينبئنا بأنها قد خطت لها سبيلاً مغايرًا، همها استحداث الجديد، وبناء صرح لا يزول مع الزمان، تبعًا لتقديرات محفوظية صرف غير منفصلة عن تصوره للرواية.

والرواية جنس لعوب، لا يستقرّ على حال، لذلك سرعان ما تنصب الأحابيل لغير الدّرب حتى يقع في استفراغ جهده وخياله ورهافة حسه وقدراته في خدمة الأغراض، بينما يلبث أصحاب المشاريع متنطعين، لا يستقرون على حال! وهل محفوظ إلا واحد من هؤلاء الذين يجابهون مخاتلة الرواية بمخاتلة أزهى وأبقى!

انبثق نجيب محفوظ من تاريخ الحضارة المصرية القديمة، في لغة محدودة الثراء، وعبر شكل تقليدي صرف، ثم تجاوز هذا الشكل نحو لغة أشد غنى وأشكال أكثر بساطة في معالجتها للواقع الخارجي. وهل الرواية إلا وليدة حوافها مؤثرة فيها في الوقت نفسه- قبل أن يتخطى هذا كله مستعيرًآ «العبثية» و«الذهنية» و«التجريبية» خاصة.

ونحسب أنه قد أغناها جميعًا، كما استنبط شكلاً جديدًا خاصًا به. وفي هذا منتهى ما يرنو إليه الروائي، بالرغم من أننا لا نعتبر «جائزة نوبل» - على جلالة قدرها - الشاهد الأكبر على تميّز النص المحفوظي واختلافه.

وبما أننا مقتنعون بأن العمل الروائي لا يعدو أن يكون من قبيل البحث عن الشكل، فإننا نؤكد أن سعي محفوظ نحو تغيير شكل رواياته بسرعة، هو الذي مكنه فعلاً من أن يكون أبًا للرواية العربية الحديثة، بالرغم من أننا نجزم بأن هذا الجنس الروائي وليد أشكال عربية قديمة، مثلما هو وليد الشكل الغربي الكلاسيكي المعروف.

الرواية بنية سردية بالأساس، لذلك يمكن أن نستعرض بسرعة شخصيات أبرز روايات محفوظ، وتراتب وحداتها، وأساليب الحكي فيها لنقف على فكرة كبرى دائرة في فلك ارتياد مدارات الاختلاف.

فلقد بحث الرجل عن توطيد الاختلاف في مستويين:

1 - اختلافه عن الآخرين من كتّاب القصة السابقين..

2 - اختلافه الدائم عن السابق من أدبه.

واختزل المنظومة السردية العالمية، بتحولاتها كلها، زمانًا ومكانًا، في ما يقارب الخمسين سنة من العمل الفعلي غير المنفصل عن استفهامات الرواية وأسئلة السينما. لذلك يسهل اليوم على متابع فن نجيب محفوظ أن يشاهد شريطًا مصريًا لمدة خمس دقائق، ليؤكد: هذا لمحفوظ أو هذا لغيره!!

ولنا أن نقتفي أبرز وجوه التمايز الشكلي في المستويات الموالية:

- اختلاف سمات البطل الروائي، وتحوله التدريجي إلى «بطل مهزوم» أو «بطل مضاد» أو «لا بطل».

- تداخل بنية الروايات، وهجر الرجل لمنظومة التراتب الخطي.

فلقد أيقنت أن نجيب محفوظ صاحب «السكرية»، و«قصر الشوق» و«بين القصرين»، هو صاحب «رادوبيس» و«كفاح طيبة»، وهو صاحب «القاهرة 30» و«الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، ومارست هذه الآثار سطوتها على ذائقتي، ومازالت تفعل فعلها في الوجدان والعقل.

هكذا تقبّلت نجيب محفوظ دفعة واحدة، لأنني طويت أدبه ضمن حيز واحد، حيز الروائي الذي يصبو إلى الاختلاف. ولم أكن أدري حينها أنني أستجيب لاقتضاء نقدي عميق جدًا غايته تقبّل النص الأدبي دفعة واحدة، والعمل على البعد - قدر الإمكان - عن السمات الغرضية، والجنوح إلى التقبل الشكلي المحض!لهذا ملت إلى إجمال اختلاف سمات الشخصية الرئيسية، وتداخل بنية الروايات، وإفراد الأشياء بمنزلة خاصة، وتعدد زوايا النظر بالنسبة إلى الحدث الواحد، واكتفيت بالاستناد إليها باعتبارها من أبرز الملامح الشكلية التي يمكن أن يخرج بها الدارس من أدب الرجل.

ولهذا أجدني اليوم، على أثر هذا الدرس المزدوج ذي المراجع النقدية الإبداعية، أتشبث بالفكرة القائلة إن العمل الأدبي برمته لا يعدو أن يكون لهاثًا خلف الشكل، أو قل لا يعدو أن يكون لهاثًا وراء الإمساك بشكل جديد، أو بما نتصور فيه الجدة والابتكار!

على هذا إئتلف الشعاعان، وتأكد عندي أن العناصر الآيبة من أعماق الذائقة يمكن أن تتجاور مع الاستنتاجات الأخرى الصادرة عن التأمل العقلي، على أن يركنا معًا إلى خانة الشكل المحض. لهذا لم تفاجئني روايات إسبانيا وأمريكا اللاتينية فيما بعد، بالرغم من أنها أقنعتني بالنظر نحو وجهة جديدة غير النص المحفوظي. وصرفتني نهائيًا عن النموذج الفرنسي بعد أن أقنعتني بأنه مجرد نموذج مدرسي كلاسيكي قائم على قطيعة عميقة بين نموذج الشرق القديم، المتمثل خاصة في ألف ليلة وليلة، والنموذج المستحدث عند الفرنسيين خاصة!

لهذا أجدني اليوم مندفعًا نحو إعادة تمثل تجربتي الشخصية بالاستناد إلى هذه المستخلصات، النابع بعضها من محفوظ ونصه الثري القائم على التوق إلى الاختلاف والنابع بعضها الآخر مما ترسب عندي من معاشرة الرواية العالمية، خاصة منها القادمة من آفاق غير معهودة!

فما الذي ألف بين هذا وذاك يا ترى؟

أعتقد أن الإجابة واضحة بسيطة، فالنص المحفوظي قد أتى على أهم الاستفهامات، التي عالجتها الرواية العالمية السابقة، فتدرج من النموذج التقليدي حتى النماذج الأكثر جدة، همّه في ذلك أن يعمل على صياغة سؤال الشكل، إن أدرك بغريزة الكاتب الأصيل أن المسألة في أعماقها لا تعدو أن تكون مسألة تشكّل، بالرغم من أن إغراق المتقبلين، والدارسين غير المتخصصين - من عرب وغربيين على حد سواء - في تأكيد طرافة المعاني والمواضيع المعالجة، واختزالها في الحارة الشعيية، والأحياء التقليدية المحيطة بضريح الحسين، والسيدة زينب، وثورة عرابي وأثر سعد زغلول في الأجيال المتعاقبة، فضلاً على بعض القضايا الوجودية الكبرى مثل الحياة والموت، والتصوّف، والإحساس بعبثية الوجود.

ولئن وجب أن يقرّ بأن المعنى يمكن أن يلوّن الدلالة، فإننا نجزم من خلال الاحتكاك بأدب محفوظ، وباعتماد التجربة الشخصية غير المنفصلة عن مستجدات الرواية، بأن الرجل ونصه يمكن أن يُختزلا - دون ضيم - في تلك المسائل الشكلية، التي نجح في إثارتها تباعًا خلال حياته الإبداعية الثرية القائمة على التقلب والتبدل، والتي تُفضي حلقاتها تباعًا، بعضها إلى البعض الآخر!

وبديهي أن نؤكد أننا لا نُحمل دلالة التبدل هنا أي ملامح تهجينية، إنما نروم إفعامها بمعانٍ إيجابية غير منفصلة من حرفية الرجل وذكائه الغريزي، ووجاهة خياراته الفنية والغرضية والدلالية.

بهذه الطريقة، يمكن أن نتجاوز محفوظ نفسه للتعامل مع تاريخ الرواية، بعد أن مكّننا النظر الشكلي من العثور على الكليات والإغضاء عن الجزئيات. فالطور المحفوظي قد مكّن الرواية العربية من حوار ثري مع مستجدات القص العالمي، فانعطف على ما يمكن أن يمثل إضافة إلى الرصيد الإنساني العام في هذا المجال، وفتح الفضاء فسيحًا أمام الأقلام الناشئة لارتياد مجالات جديدة من الفعل الروائي القادر على الإسهام في تطوير السياق العام.

ثم بهذه الطريقة أيضًا، يمكن أن نتجاوز الإفراد نحو الجمع، فيغدو تاريخ الرواية نهرًا تسهم فيه التجارب المفردة وتدعمه بما تضيف إليه من فعل تحديثي شخصي. هكذا تكتمل العناصر بالنسبة إليّ، وأتمكن من التفكير في الأبعد والأقرب، انطلاقًا من تجربة نجيب محفوظ هذه، التي عاشرتها طويلاً، وبالغت في العناية بها في السر والعلن، وعلى المستويين الشخصي والعام، بعد تلك الجزر والقارات البعيدة التي اكتشفها، ولا منازع له فيها. فلقد غدا محفوظ، هذا الذي أحدث تحوّلات غير مسبوقة في تاريخ السرد العربي، رحمًا لتوليد تجارب روائية جديدة يمكن أن نلمح فيها إلى الغيطاني، والقعيد وصبري موسى والطيب صالح وحسن نصر، وغيرهم من الكتّاب، من هذا الجيل ومن الجيل الذي يليه.

لقد أثبتنا أعلاه أن الرواية جنس لعوب، ونثبت هنا أنها جنس حر، بل جنس قائم على الحرية في الممارسة الشكلية والأغراض، لذلك تبدو منسجمة تمام الانسجام مع هذا التخفف العام من قيود النوع والجنس، حتى لكأن كل عمل جديد يصبح محاورة للجنس وتجاوزًا له، حتى لكأن جدلاً طريفًا ينشأ بين النوع والنص المشفر، تثار من خلاله الاستفهامات التي تحف بهما معًا.

هكذا يمكن أن نستعرض الطور الثاني من ملحمة محفوظ خاصة، حيت تخطّى القواعد، وتمكن من خياراته، وأقبل على عمله بإتقان الحرفي وخيال الفنان، فأسهم في ابتداع نصوص أجمل وأبقى قادرة على التحليق خارج السرب، قادرة على التحليق خارج سرب نجيب محفوظ ذاته!.


صلاح الدين بوجاه 




محفوظ في حفل بجريدة الاهرام بين الأديب توفيق الحكيم وسيدة الغناء العربي ام كلثوم