ذكرى

ذكرى

في الشارع الخلفي الذي تعوّد الجلوس بأحد أركانه بعيداً عن أعين الفضوليين رشف فنجان الشاي بسرعة, كان مرتبكاً على غير عادته, مضى في طريقه مسرعاً لا يلوي على أي شيء, لم يعرف جيداً سر هذا الانقباض الذي كبس على أنفاسه فجأة.

صعد درج العمارة, وما إن همّ بولوج شقته حتى سمع صوتاً عميقاً يطرق باب وجدانه, تناهى إليه في جلبة, كان الصوت دفينا في أعماقه السحيقة, استدار ناحيته, داخلته قشعريرة لم يعرف مصدرها, تسارعت أنفاسه بسرعة, شعر بقلبه يتحرّك من مكانه, أحس بقلبه ينقبض ثم ينبسط, داخت به الذكريات البعيدة في حين كان لسانه عاجزاً, فقط... تأمل شعاع الشمس القادم من الأفق الغربي يتسلل من زجاج النافذة, سرى دفء راقص أوصاله الجامدة... شخصت أمامه, همست برقة:

- ألا تسمح لي بالدخول؟

عقدت المفاجأة لسانه, اصطنع ابتسامة خفيفة وصاح مندهشا:

- هذه أنت؟!

هل أزعجك حضوري إلى هذا الحد؟

كلا, تفضلي...

طلعت أنوار في مساء مشمس, خلعت معطفها الأسود ثم استلقت على أريكة جلدية في لون المعطف الأنيق, حبست نفسها تتأمل أفقاً مسدوداً, مال نحوها في ذهول, وتوجه إليها بنظرات مستفهمة:

- ماذا تشربين؟

أنسيت؟ شايا أخضر كالعادة.

انصرف إلى المطبخ, صدحت موسيقى حزينة, نغمات أنتيغونا تسابقت في الفضاء الضيق, شعر بظلها يحاصر بصره, رشفا الكوبين في صمت كأن النغمات هاته ذكرتهما بلحظات غائبة تعود إلى ماض يحسبانه سحيقاً, كالموت, أرادت أن تسيج الصمت بكلمات لم تبرح طرف لسانها, تطابقت الشفتان دون أن تقولا شيئا,,, تجشمت كل العناء قبل أن تقول له:

- أظنك مندهشا...

- طبعا...

- الحياة تصنع مصائرنا...

- لم أعد أذكر شيئا...

قابلها بابتسامة لا لون لها... حاول أن يبدو غير مكترث لوجودها, عادت تبدد النغمات المنطلقة وتقول:

- لم تسألني عن الكيفية التي حصلت بها على عنوانك...

- لا يهمني...

- شقيقتك..

- لم التق بها منذ خمس سنوات.

- ولكن...

- لا أريد أن أرى أحداً.

ندت عن ثغرها ابتسامة فاترة لكنها غامضة, هكذا, بعد عشر سنوات يلتقيان مرة أخرى, بسرعة مضت الأيام والأعوام, في تلك اللحظات, مر شريط الذكريات برأسه متداخلا, ذكريات الحب والألم والزنزانة والمعتقل وسوط الجلاد والمحكمة والقضية وأنين الرفاق مازالت طرية بما فيه الكفاية ليستعرضها بكل تفاصيلها المملة, .. ذكريات طرقت بابه الآن دونما استئذان ودون أن تترك له الفرصة كي يسترجع أنفاسه, ربما وجد الوقت الكافي حتى يفك الخيوط المتشابكة, قطعت حبل الصمت وهي تحضن بين أناملها فنجان الشاي الأخضر:

- لقد كان زواجي لحظة هروب... اطمئن..

- على ماذا؟

- انضممت إلى جيش المطلقات بطفلة جميلة جئت بها إلى هنا بعدما قررت أن أعمل...

- لكنك في غنى عن العمل.

- هذه مشيئة الأقدار.

حياته مضطربة كما لم تكن من قبل, تداعت الأحلام في مثل صرخة الموت, تهاوت المطامع في خضم الحياة, نظرت إلى عينيه مستكشفة, كانت دائماً تهرب بنظراتها بعيداً عن عينيه, رمقته يرفعهما إلى السقف من حين لآخر, عرفت أخيراً أنها الحيرة استبدت به, ربما لأن الأسئلة انطلقت كبيرة بحجم هذا اللقاء الذي لم يتصوّر أنه سيكون بهذا الشكل الغريب, أو لأنها أسئلة ظلت شاردة بشرود اللاعب في ميدان الكرة حين توقعه لياقته البدنية الضعيفة في فخ الشرود؟ عاد يحدثها درءا لمخاطر الصمت:

- كيف هو العمل؟

- رائع, المركز يناسبني كما أن الأجر مغر.

- أراك واثقة من نفسك.

- كثيراً ما كنت أضعف أمامك.

- حقا؟

رشفت فنجان الشاي الأخضر بعنف ثم وضعته فوق المنضدة الزجاجية بعصبية, فيما اتجه نحو النافذة المغلفة, الشموع حوله ضوؤها يتراقص, تقدم نحوها, أطفأها الواحدة تلو الأخرى, مازال النغم الحزين يلاحق سمعه, فتح النافذة, عانقته ريح خفيفة لفحت وجهه الشاحب, أحس بغصة في حلقه, لماذا يا ترى تحاصره الذكريات بكل جميل وبكل قبيح أيضاً؟ الشفق الأحمر مشتعل في الأفق بعدما ابتعدت الشمس خلف خيوط الليل, أصرّ في هذه اللحظات على المضي في طريقه دون أي منغص, هاهي الذكريات تشمخ أمامه بكل تفاصيلها المتزاحمة في عقله.... يبدو في المرآة كمن يرفض العيش في قفص من ثلج... الأنوار في آخر المطاف أرسلت خيوطاً من الأمل قد تعكس إرادة واهية على إتمام لعبة مكشوفة منذ البداية, أما هي فأطبقت برأسها ترنو إلى الأرض, سال دمع ساخن على خدها المتورّد, الذكرى حرقتها مثل قطعة قماش بالية ألقيت في مجمر, صب من زجاجة الكونياك في كأسه وتجرعها دفعة واحدة, تلك عادة تحكمت فيه منذ غادر أسوار الجحيم, جال بعينيه بين الأرجاء طويلاً, شوق دفين تحرّك في نفسه, هزّ كيانه, في لحظات قليلة, اختلطت عليه السبل, لا يعرف الآن هل يتقدم أم يتراجع؟ تأمل السقف مرة أخرى, صدر الليل مازال مشتعلاً بالأسئلة الكبرى, صدرت عنه زفرات عميقة, لم يقل شيئاً, هي أحست أنه لا يريد أن يتكلم أو حتى أن ينظر إليها بمقلتيه الحائرتين... همســت في تردد:

- لم أكن أعرف أنك كنت مسجونا.

- لا يهمني إن كنت صادقة أم لا...

- قالوا لي إنك سافرت إلى أوربا, في ماذا كان سيفيدني الانتظار إذن؟

- لقد كنت مخطوفا

- لم أكن أعرف...

- أخذني مجهولون معصوب العينين في كيس قمح...

صمت برهة ثم استطرد قائلاً:

- كانوا يسألونني والسياط تهوي على ظهري عن رفاقي وعن الحزب وعن الكتب التي أقرؤها.

كان ينفث دخان سيجارته بعنف, لما غادر السجن في آخر مرة, أحسّ بأنه ولد مرة أخرى, لم يستطع أن يرنو إلى الشمس المشرقة ولم يستطع جسده أن يتحمّل الأشعة الصفراء القادمة من كبد السماء, الفناء احتضن الطيف الآتي من الأعماق, مازالت رائحة جدران السجن طرية تسيح في الذاكرة الخائفة, طاف بعينيه بين الحاضرين, لم يكترث للقاضي, انتبه إلى أنها لم تكن هناك, الأسئلة مرة أخرى ألحّت عليه, أصحاب البذلات السوداء ملأت أصواتهم القاعة وقد جاءوا يؤيدون المعتقلين في محنتهم, سأله القاضي:

- ما طبيعة علاقتك بالمنظمة السرية؟

- لا أعرف عمّ تتحدثون سيدي القاضي.

وقف النائب العام صائحاً:

- هؤلاء سيدي القاضي, حضرات المستشارين يثيرون الفوضى باسم أفكار يرفضها جميع الناس وتخالف أحكام ديننا الحنيف.

أحد المعتقلين صاح قائلاً:

- أنتم إذن تحاكمون أفكارنا.

ومع ذلك ظل يرقب حضورها, ما بال الجوارح هكذا انتفضت لما استنفدت السيجارة نفسها, التفت إليها وقال:

- لقد بدأت صفحة جديدة.

- أهي امرأة جديدة؟

- أجل...

- لاشك أنها جميلة؟

أحسّ بالشوق يهرب منه, كانت تلك اللحظات مجرد صفر على اليمين, طفق يتأملها دون أن تبرح الابتسامة الغامضة الخفيفة محياه, لا شيء دون ثمن في وجود ممكن مفتوح على كل الاحتمالات, كل شيء استهلك نفسه في هذا الوجود بما في ذلك الشعور بالحب, تلك طاقة تنفد بمجرد الانتقال من النور إلى العتمة أو هكذا بدت له الأمور, حركة انتقال دائمة من جنة الطهر إلى جحيم الدنس.

- لقد جئت للاطمئنان عليك...

- بعدما تخلى عني الجميع.

- ليس صحيحاً... لم أكن أعرف...

- لم تكن محاكمتي سرية, الصحافة الأجنبية نفسها كانت على علم.

دلفت نحو الباب الموصد, كان يمشي خلفها متعجّلا, وضعت أول رجل في الخارج, توقفت برهة كأنها تستعد لأن تتلقى منه جواباً شافياً عن سؤال لم تطرحه عليه أصلاً, عيناها استدارتا كأنهما تفتشان عن مفقود عزيز أو كبرياء مجروح في ظل سكينة زائفة, وقع أقدامها تناغمت فوق أدراج العمارة, أدار هو المفتاح, ثم انطفأت الأنوار, كل الأنوار.

 

صخر المهيف