الأمن الثقافي العربي والإسلامي وآفاق المستقبل

الأمن الثقافي العربي والإسلامي وآفاق المستقبل

مفهوم «الأمن الثقافي» هو من المفاهيم التى نشأت حديثا في بلادنا العربية والإسلامية، وتحديدا في أوائل سبعينيات القرن الفائت، وجاء اجتراحه كما يقول الباحث عمر كوش كرديف لمفاهيم ومصطلحات نشأت في حقول ومجالات أخرى مثل: «الأمن الاقتصادي» و«الأمن الغذائي» و«الأمن الاجتماعي» و«الأمن السياسي»...إلخ. وعنت هذه المفاهيم والمصطلحات الحاجة العربية لاستراتيجية تحد من الانكشاف على الخارج، لكنها تخفي بين طياتها صعود مفهوم «الأمن» في الدول العربية بعدما سيطرت النظم القائمة على مقدرات الدولة وحولتها إلى دولة أمنية بامتياز.

لكن من جانب آخر نرى حربا ثقافية فعلية تشن على العرب والمسلمين من طرف الغرب والصهيونية بهدف استئصال آخر ما يجمع العرب من تراث حضاري وديني ولغوي تجسده هوية العروبة الحضارية بتاريخيتها بهدف إدخالنا في المتاهة أو اللاهوية، أو الهوية الشرق أوسطية التى تنظر لها إسرائيل ليل نهار لتكريس وتصوير المنطقة على أنها مؤلفة من شعوب مختلفة لا رابط يجمع بينها كما يقول الدكتور محمد الرميحي.

فلقد قام مثلا بعض منظري المحافظين الجدد وأشباههم في الوطن العربي من الليبراليين الجدد باستبدال تعبير «العرب» في الأدبيات السياسية والفكرية باصطلاح «الناطقين بالعربية»، وهذا الاستبدال لا هدف له كما يقول فاضل الربيعي سوى تدمير فكرة وجود الأمة في وعي العربي لنفسه، فهو بحسب زعمهم ليس عربيا بالأرومة، بل هو كائن ناطق بالعربية شبيه بالإندونيسي الناطق بالهولندية، أو السنغالي الناطق بالفرنسية، وبالتالي تكريس انطباع زائف في وعي العربي لنفسه بأنه نتاج (استعمار) أمة أخرى تدعى العرب، وان أصوله آرامية، أو فرعونية، أو سومرية، أو بربرية، وان جذوره تضرب عميقا في تربة المسيحية الرومانية.

هكذا أيضا، ومن ضمن تخريب الأمن الثقافي العربي يجري نقد العروبة وتوصيف المشاعر التقليدية لدى المواطنين الذين ينفعلون بالأحداث المأساوية في فلسطين والعراق ولبنان بأنها مرادفة «للتخلف»، أو هي تعبير عنه، يعكس نوع وطبيعة استراتيجيات الغرب القديمة والمستجدة لمحو العروبة، وكذلك أي شعور جمعي بالمسئولية القومية والتاريخية للأمة.

معنى الأمن لغة واصطلاحا:

إذا أرادت أمة أن تحقق لنفسها تقدما حضاريا مزدهرا فلابد أن توفر الأمن لديها على المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي، فضلا عن المستوى الثقافي، وذلك ما شهد به التاريخ وأكدته تجارب الأمم والشعوب ذات الحضارات العريقة، فلا إبداع من دون استقرار، ولا نهضة علمية أو ثقافية أو اجتماعية من دون أمن أو طمأنينة تلقح العقول وتشحذ العزائم وتعلي الهمم وتطلق الحريات.

إن الأمن هو أهم الأسس وأبرز القواعد التي يقوم عليها صرح الحضارات، وهو اللغة الرسمية التي يتميز بها الفرد المتحضر والمجتمع المتقدم والأمة الواعدة التي تدرك، ما ينطوي عليه المناخ الآمن من عوامل حضارية متينة وعناصر ديناميكية فاعلة تقود إلى صنع مجتمع حضاري متقدم يحظى بالاستقرار وينعم بالسكينة ويتفيأ ظلال الأمن وحياة الرفاهية.

وتتقارب معاني الأمن في كل من المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، حيث تلتقي جميعها على أن الأمن هو تحقيق السكينة والطمأنينة والاستقرار على مستوى الفرد والجماعة. فالأمن في المعنى اللغوي ضد الخوف، والآمن: المستجير ليأمن على نفسه. والأمانة: ضد الخيانة، وآمن به: صدقه. والإيمان: الثقة وقبول الشريعة. والأمين: القوي، وصفة لله تعالى.

أما المعنى الاصطلاحي فيكمن في «الإجراءات الأمنية» التي تتخذ لحفظ أسرار الدولة وتأمين أفرادها ومنشآتها ومصالحها الحيوية في الداخل والخارج.

وقد لاحظنا أن تطور الحياة وأسبابها أدى إلى استحداث أسماء كثيرة للأمن مثل الأمن القومي، والأمن الجماعي، والأمن الإقليمي، والأمن الدولي. ويرى «هارولد براون» (أحد رواد دفاع الولايات المتحدة السابقين) أن الأمن القومي هو القدرة على صياغة وحدة الأمة، ووحدة أراضيها، والحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع دول العالم بشروط معقولة.

تعريف الثقافة:

لعل تعريف «أدمون هريو» للثقافة بأنها ما يتبقى بعد أن ننسى كل شيء، لم يعد صالحا في عصر وسائل الإعلام والمعلوماتية الحديثة. ولعل التعريف الأصح للثقافة هو أنها المخزون المعرفي والخبرة المنهجية اللذان يسمحان للمفكر بان يُحسن استخدام معلوماته المنسية، وينظم المبعثر والمختلط والمضطرب فيها، ويستغل أدوات المعرفة الحديثة، من أجل تكوين فكرة واضحة، والوصول إلى نتائج منطقية، في موضوع من المواضيع التى تعرض له.

إن الثقافة ثروة معرفية نظرية وعملية، عقلية وروحية، في مختلف جوانب الحياة البشرية، ظاهرة وباطنة، ملموسة ومحسوسة ، تتركز في وعي المثاقفة، وتراكم الخبرة واستخلاص الدروس على مر العصور، وفى الأمكنة المختلفة... ويشكل الوعي سلاحا حقيقيا قادرا على توظيف المعرفة والجهد البشري توظيفا حيويا، وعلى إعادة إنتاج المعرفة أيضا لأمة ما.

والثقافة التي نتحدث عنها في هذا المجال هي الثقافة بالمعنى الحقيقي والواسع، التى تشمل مجمل الأفكار في الفلسفة والآداب والفنون والعقائد، والتربية والتعليم بمراحلهما، والإعلام وشرائح الثقافة التخصصية، والقيم والمثل العليا، والمعتقدات والانحيازات والخرافات التى تشكل الإطار العام لحركة المجتمع.

وقد طور «كنت» مفهوم الثقافة بتعريفه الثقافة أنها مجموعة من الغايات التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية. وبهذا تكون الثقافة في نظر «كنت» أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه، على مستوى الوجود الإنساني ، ويعرف «هيردر» الثقافة أنها الصورة أو الهيئة العامة لحياة شعب أو أمة، أما «تيلور» فيعرف الثقافة بأنها مركب يتضمن جميع المعارف والعقائد والفنون والقوانين والتقاليد وجميع التنظيمات والعادات المكتسبة من طرف الإنسان كعضو في المجتمع.

تيارات الثقافة المعاصرة:

وقد غلبت على مظاهر الثقافة العربية المعاصرة العديد من التيارات هي: أولا: تيار الثقافة المستعادة أو الثقافة العربية الإسلامية، ويتحدر هذا التيار من أهل النقل في الثقافة العربية الإسلامية، ويدعو إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه من الجانب الاعتقادي والحضاري إلى بواكير نشأة الإسلام، إذ يعد هذا التيار أنموذج المدة المعاصرة فضلا عن بعض ما لحق به من مراحل زاهية.

ثانيا: تيار الثقافة المستعارة، أو الثقافة الغربية المعاصرة (العلمانية) ويتحدر هذا التيار من أصول لا ترى في المنظومة التاسيسية أنموذجا يصلح للعصر، بل تراها عائقا أمام التقدم في حين ترى الثقافة الغربية، اشتراكية كانت أم رأسمالية، الأنموذج الأمثل والأنسب للدخول على العصر الحديث والتطور الحضاري، ويعتمد هذا التيار على معطيات ثقافات قديمة، أو معاصرة، ويرى بها منظومة تأصيل بديلة.

ثالثا: تيار الثقافة المستفادة، أو الثقافة العربية الإسلامية المنفتحة (ويتحدر هذا التيار من أهل العقل في الإسلام)، ويدعو للمواءمة بين روح الإسلام ومعنى الثقافات الإنسانية، والاستفادة من كل ما من شأنه أن يقدم الحلول على قاعدة المعقول، ويسعى من خلال ذلك إلى تحقيق منظومة حديثة التنسيق مع المنظومات السالفة ، ويستوعب حقائق العصر ومعطياته.

وتجدرالإشارة إلى أن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يؤكد أن احترام ثقافات الأمم والشعوب الأخرى كان من أهم المميزات التي اتصفت بها في أثناء توسعها ونشرها رسالة الإسلام، فالإسلام في جوهره لا يمنع نقل عناصر ثقافية أخرى لها صور إسلامية تتلاءم مع مبادئه ومفاهيمه الأساسية، فمن الممكن أسلمته وتقريبه بوعي وإدراك سليم بعيدا عن أسباب الكراهية والعداوة، فليس هناك ما يمنع أن تتحول عناصره الأجنبية إلى ما يمكن أن يوظف ويتوصل به إلى إمكانات النماء والتطور وتشييد البناء لمواجهة التحديات الحضارية والعقبات الاقتصادية، وما تظهر من مشكلات ثقافية تمس خصوصية الأمة العربية وهويته الثقافية.

مفهوم الأمن الثقافي:

لعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الأمن الثقافي العربي والإسلامي، هو تفرد الثقافة العربية الإسلامية بصفات وخصائص معينة تكمن فيها خصوصية هذه الثقافة، وتميز المجتمع العربي عن باقي المجتمعات، ففي ظل النظام الدولي الجديد، نجد أن هناك توجها شديدا نحو تحديد الهوية، وبينما تتحول حياة الفرد نحو العالمية، نجد أن الفرد نفسه، يحاول أن يحافظ على ثقافته التي تمثل هويته وشخصيته المميزة، ومن ثم فإن الهوية تظهر ويتأكد محورها في كل المجتمعات.

لقد كانت المواجهة مع الغرب في العصر الحديث تعبر عن الرد على التحدي الخارجي الأكبر، فمع الأخذ من الثقافة الغربية طوعا، ومع فرضها أحيانا، كان هناك خوف على الهوية العربية والإسلامية وكان الغرب يرى أن ثقافته وحضارته تمثلان نهاية التطور وأن الحضارة البشرية انتهت إليهما، وما عداهما ركود وتخلف ؛ ومع هذا لم يغب عن الأذهان أن هناك تعددا وأن لكل أمة ثقافتها ولغتها التى تعمل على حفظها عبر توازنها للأجيال وحمايته من الاندثار.

«وظاهرة الأمن، قديمة قدم الإنسان نفسه، إذ ارتبط بوجوده ووعيه لذاته وللمخاطر التى تهدد كيانه، ومن ثم حاول الإنسان أن يجد الحماية لنفسه، من أجل إبعاد شبح الخوف والمخاطر، وقد سعى الفرد لتحقيق الاستقرار وتحصين البيئة التى نشأ فيها بالتعاون مع غيره من بني البشر ممن يشتركون معه في خصائص القرابة والجوار، وذلك على وفق فكرة أن «الواحد للجميع كما أن الجميع للواحد القائمة على أحاسيس منطقية مشتركة».

وانسجاما مع هذا النص، فإن الأمن الثقافي هو كل محاولة من المجتمع للحفاظ على عاداته وتقاليده وإرساء أسسه وتحصينها من المؤثرات الخارجية. ويعتمد وجود الأمن الثقافي العربي والإسلامي على التفاعل الإيجابي والتعاون بين المواقف المختلفة من العولمة ؛ أو بمعنى آخر الاتفاق على مدى خطورة العولمة على الثقافات الوطنية أو المحلية، وهذا الكلام يقودنا إلي التساؤل هل تشكل العولمة تهديدا فعليا للثقافات المحلية أو الوطنية؟

وتجيب الكاتبة آمنة الذهبي بأن»العولمة الثقافية مفهومها العام تشكل عنصرا جديدا من التفاعل بين الناس، فهي تزيد الاتصالات عبر الحدود الوطنية، لكنها في الوقت نفسه تبلور صيغا جديدة على حساب الثقافة الوطنية، الأمر الذي يهدد الأمن الثقافي الوطني، ولما كانت الثقافة هي المعبر الأساس للخصوصية لأية أمة من الأمم، لذلك وجب الحفاظ عليها، وبما أن الثقافة جزء لا يتجزأ لا ينفصل عن القيم، فإن عملية الحفاظ على أمنها، هي عملية مواجهة كل ما من شأنه أن يهدد تلك القيم رغبة في الاستمرار والبقاء، وعندما يحدث انتقال من ثقافة إلى أخرى، فالذي يحدث هو نوع من التفاعل بين ثلاث عمليات هي التوافق والتلازم والصراع».

وتضيف الباحثة:»إن أخطر التحديات التي يتعرض لها الأمن الثقافي العربي يمكن حصرها في الدين واللغة والوعي التاريخي، فصورة العرب والمسلمين في الإعلام الغربي، لا تعبر عن الواقع، فضلا عن كون الإعلام الغربي يتعامل مع العرب من منظور الاستعمار والتبعية، ويعد الوطن العربي كله مجموعة من الدويلات والأقطار المتفرقة، وليس كتلة واحدة. وتتوقف مدى خطورة الآثار التي يتركها اختراق الأمن الثقافي على مدى قدرة الأقطار العربية أو في الأدق المجتمعات العربية على التعامل مع تلك الآثار، وقدرتها على صياغة مشروع وطني جماعي يحافظ على هويته».

إن عملية الحفاظ على الثقافة العربية لا تعني الانغلاق وعدم مواكبة عملية الحضارة، إذ لابد في النهاية من مواكبة التغيرات والتعايش معها، بما يغير الكثير من المفاهيم والسلوكيات القديمة. ومن هنا فإن الموقف من الثقافة العصرية لا يكون باستخدامها علوما مساعدة فقط، بل أن نأخذ منها موقفا إيجابيا ونردها على بيئتها المحلية، ونكتشف أوجه القصور في تحليل واقعها المحلي بشعور محايد، هو الشعور بالانتماء الذي يكون أكبر إضافة من المجتمعات إلى الحضارة البشرية وللشعور بالاكتفاء بين الحضارات.

ولا شك في أن الثقافة، بمدلولها الواسع ؛ موجهة للحياة اليومية من خلال صياغتها حركة الوعي لدى الناس وتشكيل ذاكرتهم الثقافية التي تختزن كل أفعال الثقافة وتجلياتها من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. وتتكون الثقافة من نماذج ظاهرة وكامنة من السلوك المكتسب والمنتقل بواسطة الرموز، والتي تكوّن الإنجاز المميز للجماعات الإنسانية، والذي يظهر في شكل مصنوعات ومنتوجات. أما قلب الثقافة فيتكون من الأفكار التقليدية المتكونة والمنتقاة تاريخيا، وبخاصة ما كان منها متصلا بالقيم.

مقتضيات الأمن الثقافي:

لكن الأمن الثقافي يقتضي أن تكون مصادر المعلومات تلك مأمونة: أي أن تكون أمينة في نقل الحقائق، دقيقة في الفهارس، غير منحازة في التحليل، ولا مخادعة. وهو يتطلب من الباحث التمتع بالقدرة على الوصول إلى المصادر المشار إليها واستخدامها في ما يستجيب لرغائب الفكر، أو في ما ينفع النفس والمجتمع، مع التمييز بين الصالح والفاسد منها وبين درجاتها القيمية، وينبغي أن يسمح له بعمل البحث ونشره، من غير التعرض للإكراه، أو الاضطهاد، أو الابتزاز، أو الاستغلال، أو الرقابة المنحازة.

وللأمن الثقافي وجهان على الأقل، إقليمي ودولي: الإقليمي يتصل بالسياسات الثقافية للدول العربية ولمؤسساتها المدنية والرسمية، إذا صح التعبير، وبضوابط النشر والإعلام والمعلوماتية فيها ؛ والدولي يتصل بالخطط السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية للدول الأجنبية وتأثير ذلك في البلاد العربية.

ولإغناء الثقافة لابد من التنمية الثقافية، عبر تقوية مختلف أشكال التعبير الثقافي، ونشر الثقافة من خلال توفير الظروف المناسبة للإنتاج والإبداع، وتوفير الظروف المناسبة كذلك لامتلاكها. لذلك فإن بقاء الثقافة أمرا خاصا بالنخبة، وغيابها عن باقي الأفراد، سيهدد المجتمع بأسره، وبالتالي من الضرورة بمكان جعل الثقافة مسألة مجتمعية شاملة وليست حكرا على قلة قليلة فقط.

ويحلل لنا الكاتب مسعود ضاهر معوقات التنمية الثقافية، والتي أصبحت ضرورة حياتية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، حيث يعتبر الأمن العسكري إحدى أبرز المعوقات الأساسية للتنمية العربية طوال النصف الثاني من القرن العشرين؛ فقد شكلت الهزائم العسكرية للأنظمة العربية في الحروب العربية الإسرائيلية مادة خصبة لدراسات علمية حملت على الفساد المستشري في النظم العربية. وقد حملت الدولة مسئولية هدر فرص التنمية على التسليح، من دون أن تحقق نصرا عسكريا واحدا على إسرائيل، وقادت العرب إلى هزائم متلاحقة ضربت الركائز البنيوية والنفسية للمجتمعات العربية.

وانعكست الهزائم العسكرية للأنظمة العربية بصورة سلبية جدا على المواطن العربي، فقد قمعت الشعوب العربية بقسوة من قوى عسكرية عربية عاجزة عن مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية المتطورة والمدعمة بأحدث التكنولوجيات الغربية. وشكل التسليح عبئا كبيرا على خطط التنمية العربية، لأن نسبة الإنفاق العسكري من الناتج القومي الإجمالي كانت كبيرة جدا. وكانت نفقات التسلح في جميع الدول العربية تمتص من دون جدوى قسما كبيرا جدا من الموازنة العامة طول الربع الأخير من القرن العشرين.

ولم تترك سوى نسبة ضئيلة جدا لتشجيع التعليم وحماية الصحة وتطوير الزراعة والصناعة والخدمات؛ فنتج عن ذلك تخلف مريع في مختلف حقول الإنتاج والمعرفة في الدول العربية؛ وبرز شلل واضح في خطط التنمية العربية مع زيادة تبعية العرب للخارج.

أهمية المؤسسات التربوية والثقافية: من المؤكد أن المؤسسات التربوية والثقافية بمختلف مراحلها وأشكالها لم تعد مؤسسات استهلاكية، كما كان ينظر إليها سابقا، بل تحولت في الخطط الاقتصادية إلى مؤسسات إنتاجية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ ولأسباب كثيرة من أهمها أن هذه المؤسسات هي معامل تنتج عقل الإنسان وتفكيره ونفسيته. الإنسان الذي عن طريقه يتحدد فاعلية كل أدوات الإنتاج الأخرى في المجتمع، ويتحدد بالتالي نمو وتطور هذا المجتمع.

وبات من الواضح مدى أهمية مؤسسات التعليم العالي (الجامعية وغير الجامعية) في التنمية والأمن بمختلف وجوههما الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث صار لهذه المؤسسات دورها المهم في التنمية وتوسيع آفاق الإنتاجية. وقد تزايد الاهتمام في العالم بموضوع توظيف التعليم العالي كقناة إنتاجية وتنموية، حيث أن تقويم فعالية التعليم العالي أصبح يعتمد بشكل أساسي على ملاءمة أهدافه لمتطلبات التنمية الشاملة في البلد الذي يمارس فيه التعليم وظائفه ومدى قدرته على مواجهة التحديات المختلفة، والاتفاق التام هنا على أن الجامعة الحديثة لم يعد دورها يقتصر على مواجهة التحديات الآنية فقط، بل صار يمتد إلى ممارسة عملية الاستشراف والتنبؤ بالتحديات المستقبلية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمجابهتها قبل حدوثها، وإلي الإسهام في تنمية الأفراد تنمية كاملة وشاملة، بحيث يعتمد على هؤلاء الأفراد في تحقيق الأمن والأمان بشكل فاعل، والاعتماد عليها أيضا في الإبداع الفكري والثقافي والأدبي، وهذا الجانب بالذات أعطى أهمية كبيرة من قبل خبراء الإنتاج والتنمية والمتخصصين.

بل إنه حتى في الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية أثبتت التجارب العربية، إنه كم من تكنولوجيا استوردتها الدول العربية ثم فشلت هذه التكنولوجيا لديها، نظرا لأن الدول المستوردة لها تحتاج إلى كفاءات فنية بشرية لتتمكن من تشغيلها واستخدامها. بل إن هذه التكنولوجيا المستوردة تصبح غالبا عبئا على مستورديها في التبعية والتخلف بدلا من ممارسة دورها الذي استوردت من أجله؛ وهو المساهمة في عملية التنمية.

ويتبين لنا مدى أهمية تكوين الكفاءات والعقول البشرية، إذا علمنا أن معظم هذه الكفاءات العربية والإسلامية يتم استنزافها عبر مختلف الدول العربية والإسلامية، وتمثل نزيفا لا يتوقف وتمثل خسائر بشرية لا يمكن تعويضها، فقد وصل عدد المهاجرين العرب من الكفاءات العالية والمقيمين في الولايات المتحدة فقط بلغ حتى عام 1983م مائة ألف شخص، وارتفع عام 2000م ليصل إلى 353 ألف شخص.

ثقافة الإبداع:

وعلينا في مؤسساتنا التربوية أن نهتم من أجل تحقيق الأمن الثقافي بثقافة الإبداع والتى هي معنية بمدى قدرة الطالب على الإتيان بالجديد المميز. في هذه الحال تتغاضى المؤسسات التعليمية عن إتقان الطالب للعلوم مقابل تشجيعها الواسع لقدرته على الإبداع والتجديد، والإتيان بالرأي الخاص غير المسبوق، كما تشجع اختلاف الآراء وتنوعها، ولا تحاول رفض الرأي الغريب.

الثقافة والسلطة

كل ثقافة تخلق أدوات أمنها في كل المستويات. وكل سلطة (سياسية أو اجتماعية أو فنية أو أدبية) تخلق أدوات أمنها في كل المستويات. وكما أن هناك سلطة منفتحة تستوعب الثقافات الحرة، هناك ثقافات مغلقة تقوم على قمع حرية الرأي وترسم حدودا للمعتقد لا تسمح لأحد أن يتخطاها. ليست كل الثقافات متساوية، فهناك ثقافات موغلة في المرجعية، تقف إلى جانب السلطة، وهناك ثقافات قابلة للتحرر، لأنها نفسها تقوم على حرية الفكر. ولذلك يمكن القول إن كل سلطة ثقافة وكل ثقافة سلطة، وكما أن هناك صراعا بين سلطة وسلطة، كذلك بين ثقافة وثقافة، فصراع الثقافات أو صراع الحضارات حسب تعبير هنتنجتون، واقع يجب الانتباه إليه جيدا.فهناك ثقافات غازية بكل معنى الكلمة، وهناك ثقافات مسالمة تحمي نفسها من الثقافات الغازية. قد يكون الغزو بالحرب وقد يكون بالتطور المادي. قبل العصور الوسطى لم يكن هناك ثقافات متصارعة، فلم نسمع بصراع بين الأديان أبدا، ولكن انتشار العقائد السياسية الشمولية ومن على الضد منها، انتشارا عالميا نقل العالم من مرحلة إلى مرحلة، من مرحلة التفاعل الثقافي إلى مرحلة الصراع الثقافي الذي يستخدم كل الأدوات المتاحة.

هذه العلاقة بين السلطة والثقافة معقدة وتمثل إشكالية نظرية فعلية لا يمكن حلها إلا بالنشاط العملي في المسيرة التاريخية بحسب القوى المتصارعة. فالفاعلية الاجتماعية هي التي سترسم معالم طريق الثقافة.

الأمن الثقافي.. رؤية مستقبلية:

يجمع الباحثون على أن التعليم في مختلف مراحله، وبشكل خاص التعليم العالي، هو أداة الأمن الثقافي للنهوض بالمجتمعات النامية وفى مختلف حقول المعرفة والإنتاج والإبداع؛ ذلك أن التوظيف في تحسين الإنتاج العلمي ووضعه في خدمة المجتمع هو المدخل الطبيعي للارتقاء بالإنسان الفرد أولا، وبالمجتمع ثانيا، وبالحضارة الإنسانية الشمولية في عصر العولمة.

ثالثا: ومع بروز المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والبيئية الناجمة عن الانفجار السكاني في جميع البلدان النامية والفقيرة ؛ تتزايد الحاجة الملحة إلى التوظيف المكثف في قطاع التعليم العالي لتطوير التكنولوجيا وبناء الكادرات العلمية القادرة على مواجهة تلك الأزمات عن طريق إيجاد الحلول العلمية لها.

كما أن الأمن الثقافي العربي رهن بقدرة المجتمعات العربية على التفاعل الإيجابي مع مرحلة الحداثة الثانية التي تعيشها المجتمعات المتطورة في عصر العولمة، وهو يتوقف إلى حد بعيد على وقف هجرة الأدمغة العربية، واستعادة أعداد كبيرة منها إلى داخل الوطن العربي، وإنشاء المراكز الضرورية المتطورة للبحث العلمي، مع توطين التكنولوجيا وتشجيع العلوم العصرية؛ فنزف الأدمغة والقوى العاملة العربية إلى الخارج مستمر بنسبة كبيرة تقدر بملايين عدة من المهاجرين، معظمهم من الشباب والمثقفين وحملة الشهادات العليا، أي من القوى الأساسية الضرورية للتنمية المستدامة في الوطن العربي.

إن مواجهة تحديات البطالة والسكن والتعليم والفقر والمرض والتصحر ضرورة حيوية لا غنى عنها وعن حلها لترسيخ دعائم الدولة والأمن الوطني والقومي والغذائي والثقافي في عالم يتعولم بسرعة فائقة. وهو عالم يعطي أولوية مطلقة للتحدي التقني والاقتصادي ولثورات المعرفة والمعلومات والإعلام والإعلان. إن رسم استراتيجية ناجحة للأمن الثقافي وتنمية الموارد البشرية في جميع الدول العربية تفترض بالضرورة أن تعطى الأولوية المطلقة لتطوير النظام التعليمي، بحيث يصبح قادرا على تلبية احتياجات سوق العمل، المحلية والإقليمية والدولية، من طريق مدها بقوى عاملة مزودة بعلوم عصرية، ومدربة على أحدث أشكال التكنولوجيا. فعصر العولمة يتطلب الإسراع في تحديث وتطوير قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ورفع شروط الكفاءة والمهارة في مختلف القطاعات المنتجة. وإطلاق قطاعات إنتاجية جديدة ذات صلة بتكنولوجيا عصر العولمة وأبرزها تكنولوجيا الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات والتطوير الهائل في مجال ثورة الجينات وغيرها.

إن الحداثة السليمة تستند وبالدرجة الأولى، إلى حماية الإنسان أولا لكي يتمكن من مواجهة تحديات العولمة وسلبياتها الكبيرة ؛ وذلك يتطلب وضع الثقافة في موقع الفعل المباشر في البنية المجتمعية العربية لضمان حرية الإنسان، والتحرر من قيود الحاجة وإصلاح الخلل الكامن في بنى مؤسسات السلطة ومؤسسات المجتمع المدني.

ولا ننسى أن تكوين الإنسان العربي المسلم هدف أساسي في تحقيق الأمن الثقافي، فالمواطن الحر هو مادة الأمن الثقافي وغايته، وبه تحقق التنمية البشرية المستدامة كامل أهدافها. أما النخب الثقافية العربية فمدعوة إلى تشكيل قوة فاعلة لاستنباط مقولات نظرية جديدة ونشرها عبر منظمات أو هيئات أو مؤسسات علمية ممن تتوفر لديها بعض مقومات الاستقلالية عن السلطة السياسية.

ولا ننسى أيضا أن نجاح الأمن الثقافي ونظام القيم رهن بنجاح التنمية البشرية المستدامة ودخول العرب عصر العولمة بثقة كبيرة بالنفس وبالمستقبل؛ فالمجتمعات التي تنعم بالحرية هي وحدها القادرة على حماية منجزاتها التراثية ومعالجة قضاياها السياسية والاقتصادية والتنموية.
---------------------------------------
* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة والاجتماع كلية التربية جامعة عين شمس - مصر.

 

بركات محمد مراد