العرب.. بعدسة يابانية سليمان إبراهيم العسكري

العرب.. بعدسة يابانية

لقد تعرفنا كثيرًا على وجهات نظر المستشرقين أو المستعربين الغربيين, وانقسمنا بين موافق ومعارض إزاء ذلك, لكن الأمر المختلف هو الوقوف على وجهة نظر مستشرق أو مستعرب شرقي, ينتمي إلى شرق آسيا الصاعد, بل إلى أقصى قمة في صعود هذا الشرق.

  • ليس بين العرب واليابان تاريخ صراع مما خلفته صدامات الماضي كما حدث بين المسلمين في الماضي والغرب الأوربي
  • الاستشراق الغربي مخطط ومبرمج منذ البداية أما استعراب نوتوهارا فهو نداء داخلي يحركه الفضول إلى معرفة المختلف بحياد
  • إن الخوف كأبرز نتاج للقمع هو معوِّق كبير لنماء وسويِّة الإنسان العربي
  • البادية العربية كنز معرفي لاكتشاف آخر يعيش في طبيعة قاسية تتطلب التقشف والصرامة ووضوح الأخلاق

ما الذي تمتاز به آلة تصوير يابانية?

سؤال يمكن أن يجيب عنه ملايين العرب, وغير العرب, ويكون الإجماع في الإجابة: (إنها الدقة, والسلاسة, وصفاء الصورة). وهذه الصفات نفسها يمكن أن نطلقها على رؤية المستعرب الياباني (نوبو أكي نوتوهارا) والتي ضمَّنها في كتابه (العرب - وجهة نظر يابانية), وهي رؤية قد نتفق أو نختلف مع القليل أو الكثير من جوانبها, لكننا لا نستطيع إلا الإجماع على أنها رؤية دقيقة, وسلسة, وصافية, وتتفوق على آلات التصوير اليابانية بأنها مفعمة بالعاطفة المليئة بالحب, والصدق الحي الذي يخلص في القول, دون أي حسابات أو مداورات ماكرة - مما لمسناه كثيرًا في الاستشراق الغربي - سواء كان لأسباب ديبلوماسية تخفي آلام الحقيقة, أو لمنطلقات عدائية تبرز سوءات موجودة أو مختلقة.

  • صوت داخلي.. يتحرك

(نوبو أكي نوتوهارا) نفسه, هو قصة دأب ودقة وصفاء وسلاسة يابانية, فقد بدأ تعرُّفه على اللغة العربية في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية عام 1961 مع افتتاح أول قسم للدراسات العربية بها, ولم يكن يعرف حرفًا من اللغة العربية ولا شيئا عن ثقافة العرب, لكنه - كما يصف نفسه لحظة اختيار الالتحاق بهذا القسم الجديد والغامض - تحرك في داخله صوت يدعوه لدراسة اللغة العربية, شيء من المصادفة وإغواء المجهول, وعلى الفور قرر المغامرة, وبدأ الدراسة, بل بدأ رحلة امتدت أربعين عامًا - حتى لحظة تأليف الكتاب الذي نحن بصدد قراءته والتأمل فيه - ولم تكن رحلة هذه الأعوام الأربعين مقصورة على دراسة اللغة العربية, بل الإبحار في آدابها, والأهم من ذلك هو الإبحار في المحيط العربي ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا وإنسانيًا, ليس فقط على مستوى القراءة والمتابعة النظرية, بل أكثر وأبعد وأعمق على مستوى المعايشة اليومية الحقيقية. فزيارات نوتوهارا لبلدان العالم العربي - والتي توشك أن تغطي معظم أقطاره من المغرب إلى المشرق - لم تقتصر على مخالطة الأكاديميين والمثقفين الرسميين والعيش كما يعيش الأجانب في بلاد العرب, بل تغلغلت في نسيج الحياة العربية التي يكشف عنها الشارع العربي العادي, والإنسان العادي, والمثقف غير المبرمج برمجة رسمية, وهذا كله تعكسه صفحات كتاب نوتوهارا عن العرب, من حيث ملاحظاته الدقيقة لما يحدث أمام أبواب المصالح الحكومية أو في داخلها من تكدس للبشر وإهمال لمصالحهم وإهدار للجهد والوقت, أو اختياراته الحرة لأصدقاء من العرب أبعد ما يكونون عن الأنماط والقوالب الرسمية, ابتداء من المثقفين العرب ذوي الآراء الناقدة حضاريًا وسياسيًا واجتماعيًا, ووصولاً إلى بدو الصحراء العربية الذين يكاد معظم العرب لا يعرفونهم كما عرفهم هذا الياباني المدهش.

إن أي كتاب لا يكشف فقط عن الموضوع الذي يعالجه, بل يكشف أيضًا عن ماهية كاتبه, فهذا الكتاب يشير إلى ماهية نوتوهارا, ويكشف عن نوع من الاستعراب مختلف عما عهدناه في الاستشراق الغربي, فالاستشراق الغربي مخطط ومبرمج منذ البداية - في معظم الأحوال - بل ربما قبل البداية, بمعنى أن تكوين المستشرق أو المستعرب الغربي يتم وفق احتياجات مؤسسية غربية, وطبقًا لبرامج محددة, وربما غايات محددة أيضًا. أما هنا - في حال نوتوهارا الذي يكشف عنه كتابه - فنحن إزاء نوع من الاستشراق أو الاستعراب الحر, الهادف إلى استكشاف ثقافة وسبر أغوار أمم وشعوب مغايرة, لا بهدف العثور على مفاتيح مغاليق سمات خاصة لاستغلالها أو قهرها أوحتى مجادلتها, بل بهدف مغامرة الاكتشاف وإرواء غليل المعرفة لآخر مختلف. لاشك أن هناك مردودًا ما لأي مثاقفة - أيًا كانت النوايا - بين مختلفين, سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي, لكن هذا لم يوضع في حالة نوتوهارا - كعينة للاستشراق أو الاستعراب الياباني - كأسبقية, بل هو أمر وارد في سياق المعرفة والتعرّف على الآخر. استشراق بدأ من نداء (صوت داخلي) شغوف بالاستكشاف والمغامرة, واستمر مغامرًا فوقع على اكتشافات جوهرية في الحياة والشخصية العربيتين, ثم نكتشف بُعدًا آخر في هذا (الاستشراق الشرقي) أو (الاستعراب الشرقي) - إن صح القول - وهو طبيعة الدافع, وهو مما يوضحه الكاتب بقوله: (تجربتي تقودني إلى هذا الكتاب وعلاقتي الحميمة مع الشخصية العربية تشجعني, وأعترف أيضًا أن بعض أصدقائي العرب ألحوا علي أن أكتب بالعربية شيئًا مما أعرفه - على تواضعه - وهأنذا أفتح عيني على مداهما لأرى بعين المراقب المقارن, ولكن المحب الحريص, المراقب الذي أعطى الشخصية العربية حتى الآن أربعين عامًا من عمره).

إذن هي عين المحب التي تنظر إلينا, وليست بالتأكيد عين المحب التي يشير إليها الشاعر العربي بأنها عن (كل عيب كليلة), بل هي عين محب ياباني, ويقول آخر: هي عين ثقافية تنظر إلينا من زاوية غير عدائية حيث لا يمكن لنا أو لليابانيين اعتبار ثقافتهم (ثقافة معادية) من زاويتنا, أو اعتبار ثقافتنا (ثقافة معادية) من زاويتهم, فليس بين العرب واليابان تاريخ صراع مما خلفته الحروب الصليبية أو تاريخ مدافعة مما يراه الغرب في وصول الدولة الإسلامية العربية إلى قلب الجزيرة الإيبرية الأوربية وتخوم فيينا, كما لا توجد بين العرب واليابانيين مخلفات الآلام وبقايا الريبة العميقة جراء الاستعمار الكولونيالي الغربي للبلدان العربية. ولعل هذه البراءة التاريخية والثقافية هي التي ساعدت العامل الشخصي عند نوتوهارا لينظر إلينا بعين المحب الحريص على من يحبه, فيجاهره بما فيه من خير وما فيه من أشياء تعيق الوصول إلى الخير! وثمة إضافة مدهشة هي لغة الكتاب التي لا تكاد تشوبها لكنة الغريب, فهي لغة عربية سويَّة, واضحة وسلسة وصحيحة إلى حد بعيد, فهي ليست فقط لغة عربية كُتبت ليقرأها العرب, بل تكاد تكون لغة كتبها عربي يتقن فنَّها ومتمكن من جوهر مكنوناتها, بل النكهة العربية الشعبية ذاتها, وهذا لا يمكن أن ينجزه غريب عن العربية إلاّ إذا كان عاشقا صادقا بالفعل. يقول نوتوهارا عن التغيرات التي لمحتها عيناه بين أول زيارة لعاصمة عربية مقارنة مع آخر زيارة له: (في أول مرة عام 1974 خرجت من الفندق.. أنا لا أستطيع أن أنسى ذلك الانفعال الذي كان يفور داخلي, انفعال رائع مازال طعمه حيًا حتى الآن. شعور مركب من المفاجأة والدهشة والاكتشاف والفرح) و(بعد عشر سنوات من الزيارة الأولى كنت في المدينة نفسها, ولكن كانت رغبتي في الخروج إلى الشارع قد ذبُلت, كنت أريد أن أقلل عدد مرات خروجي قدر الإمكان. لم يكن السبب أنني أكره الغبار والضجة وحرارة الشمس القوية, بل كان السبب هو أنني كنت أرى توترًا شديدًا يغطي المدينة كلها. ولكنني لا أستطيع أن أتجاهل حياة الناس في هذه المدينة. كانت وجوههم تدخل عيني وهم يمشون وكأن شيئًا ما يطاردهم)!

  • الآخر في إطار بيئته الخاصة

لم يكن التدهور الذي لمحته عين الياباني في حياة مدينة من المدن العربية الكبرى, وخلال عقد واحد من السنين, إلا ملمحًا عامًا تختبئ داخله تفاصيل تكشف عنها مصارحة صفحات الكتاب المائة والأربعين. وهي مصارحة باكتشافات وصل إليها نوتوهارا عبر منطلقات تؤكد على ما ذهبنا إليه في سمات الاستشراق الشرقي والاستعراب الياباني الذي يمثله. هذه المنطلقات يحددها نوتوهارا في التالي:

  • الوعي بأن مجتمع الأنا ومجتمعات الآخرين, تكوِّن معا المجتمع الإنساني, واعتمادًا على هذا الوعي يكون مهمًا امتلاك أمرين, أولهما: وعي الحياة اليومية, وثانيهما: تخيل وجود الآخرين لفهم ظروفهم.
  • عدم الاعتماد على الأفكار الجاهزة عندما يواجه الإنسان ثقافة مختلفة, غير ثقافته الأم, لأن ذلك يؤدي إلى استنتاجات تخرِّب البحث وتخرِّب فهم الواقع المغاير.
  • ضرورة الاعتماد على التجربة المباشرة, ورؤية الأمور في بيئتها الثقافية عبر علاقاتها الخاصة وطرق تواصلها.
  • عدم إسقاط قيم الباحث الخاصة وليدة مجتمعه على مجتمعات أخرى.

ويرى نوتوهارا إيجازًا لكل منطلقاته لرؤية ما رآه في عالمنا العربي أن (المهم في النهاية هو أن علينا أن نقبل قيم المجتمعات الأخرى كما هي دون أن نشوهها أو نخفض من قيمتها في ضوء قيمنا نحن. وعلينا إذن أن نرى المجتمعات الأخرى كما هي, وأن نقبلها كما هي).

وبهذه المنطلقات استطاع نوتوهارا أن يرى في المجتمعات العربية: السلبيات المعيقة, لكنه لم يغفل عن رؤية الإيجابيات ذات القيم المغايرة في البادية العربية - على سبيل المثال - والتي أظهر إعجابا عميقا بها وتقديرا يعكس جديته في رؤية الأشياء داخل بيئتها بالفعل.

لم يبتدئ نوتوهارا ملاحظاته السلبية, كما رصدها في الحياة العربية, من الهيّن إلى الهائل, بل اختار أن يبتدئ بما هو هائل وخطير الشأن يحمل ويلد الكثير من سوءات وشرور الحياة في المجتمعات العربية, حتى أنه ربط بين (كارثة القمع) - على حد تعبيره - و(بلوى عدم الشعور بالمسئولية) - على حد تعبيره أيضا. وهي لمحة ذكية الحدس ويمكن أن تغيب عن أصحاب الشأن أنفسهم. يرى نوتوهارا أن الخوف, كأبرز نتاج للقمع, هو معوّق كبير لنماء وسوية الإنسان العربي, ويقول في ذلك: (مَن يعرفون البلدان العربية قرأوا عن السجون, وهم غالبا يعرفون أسماءها من الكتب ومن الصحافة العالمية وبعض جماعات المعارضة الصغيرة. والذي يحدث عندما تسأل عن موقع سجن ما, فإن مَن تسألهم يصابون بالذعر, وطبعًا لا يجيبون ويهربون كأنهم واجهوا غولاً مخيفًا. أما الأدهى من ذلك, فهو خوف الناس من رجال الأمن سواء كان رجال الأمن هؤلاء شرطة أو شرطة سرية. في البلدان العربية يوجد الخوف الذي يستفيد منه بعضهم, ويوجد أشخاص كثيرون يستغلون خوف الناس). مَن يجرؤ على الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة من عربنا?

  • لمحة لا يلتقطها إلاّ غريب

اللمحة المهمة فيما يتعلق بالخوف والقهر في المجتمعات العربية - ليست في جسامة أو غرابة ألوان هذا الخوف أو ذلك القهر, ولكن في علاقة الخوف والقهر بانسلاخ الفرد عن الإحساس بالمجموع, والقضايا العامة, بل الملكية العامة أيضًا - وهي لمحة لم يكن يلتقطها إلا غريب, وبعدسة عين يابانية, رائقة ودقيقة, وتصل إلى جوهر العلاقات بين الظواهر المختلفة من أقصر الطرق وأوضحها. يحكي نوتوهارا أنه كان في عاصمة عربية يزور صديقا من أبنائها, وعندما وصل إلى الحي الذي يسكنه هذا الصديق فاجأته القاذورات وكل أشكال النفايات المنتشرة بعشوائية على الأرض. ولم يكن مدخل البناية التي يسكن فيها الصديق يختلف كثيرًا عن قذارة وإهمال الشارع, وكذلك الدَّرج. أما خلف باب مسكن الصديق, فقد كانت دهشة نوتوهارا كبيرة إذ وجد عالما آخر... (كان بيت الصديق نظيفا ومرتبًا وأنيقًا ومريحًا). واستنتج نوتوهارا من ذلك أن كل ما يخص الملكية العامة يعامله الناس كأنه عدو فينتقمون منه, ولذلك - يقول - (تجد مقاعد الحدائق العامة مكسّرة أو مخلوعة, وتجد معظم مصابيح الشوارع محطمة, كما أن المباني الحكومية تنال أكبر قدر من الإهمال). هذه المظاهر ومثلها كثير, وفي أكثر من بلد عربي, يقول عنها: (لقد فكرت طويلاً في ظاهرة تخريب الممتلكات العامة, وفهمت أن المواطن العربي يقرن بين الأملاك العامة والسلطة, وهو نفسيًا في لاوعيه على الأقل ينتقم سلبيًا من السلطة القمعية فيدمّر بانتقامه وطنه ومجتمعه كبديل. لا أستطيع الفصل بين القمع وعدم الشعور بالمسئولية في المجتمع العربي.

تلك المظاهر السلبية اختفت تمامًا من المجتمع الياباني, ولكنها لم تختف من زمن طويل, لقد استمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية بسنوات).

ويواصل نوتوهارا رصده لسلبيات المجتمع العربي, وهي ليست وقفًا على دولة بعينها كما يؤكد ذلك, فيرصد عجرفة السلطات في بعض المطارات العربية, وإهمال مشاعر الناس, وعدم احترام الوقت, وعدم المساواة أمام القانون, وأبوية السلطات بشكل - رآه هو - يهين المواطنين.

وينتقل نوتوهارا من عالم قمع الكبار إلى عالم قمع الأطفال, فيرصد ظاهرة الضرب في المدارس, ويرى حصاد ذلك القهر في صورة يذكرها بتأثّر: (لقد شاهدت يومًا طفلاً يلف خيطًا على عنق عصفور صغير ويجرّه وراءه وكأنه يجرّ حمارًا أو كلبًا, وكان الناس يمرّون بجانب الطفل دون أن يقولوا له شيئًا! لقد فهمت الأمر وما شابهه على النحو التالي: ضعيف تحت سيطرة قوي. والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويخضعون له. أي يسمح المجتمع بأن تسيطر قوة على أخرى أضعف منها).

دائرة خبيثة من القمع المتسلسل بين الكبار والصغار, الأقوياء والضعفاء, يرصدها المستعرب الياباني في بلاد العرب, وينهي فقرته عن هذه الظاهرة بتساؤل, نكرره معه:

إذا سمح المجتمع بهذا, فإلى أين سيصل?

وحول دائرة القمع المتسلسل في المجتمع العربي يرصد نوتوهارا إضافات من السلبيات مثل الازدواجية بين ادّعاء الشيء وممارسة نقيضه, واعتبار المظاهر بديلاً عن الجوهر في الأخلاق والتقاليد, ويذكر في ذلك: (إن معظم الرجال العرب الذين قابلتهم لهم قيمتان, واحدة في البيت وأخرى في الحياة العامة. الرجل العربي في البيت يلح على تثمين قيمته ورفعها إلى درجة السيطرة والزعامة. أما في الحياة العامة, فإنه يتصرف وفق قدراته وميزته ونوع عمله. وهذان الوجهان المتناقضان غالبًا ينتج عنهما أشكال لا حصر لها من الرياء والخداع والقمع). وفي ذلك الإطار يرصد حال مدرس عربي عمل في اليابان فترة من الزمن, وكان في طوكيو (لاهيا إلى أقصى الحدود ومنغمسا في الملذات انغماسًا لا يعرف الارتواء. بعدئذ عاد إلى وطنه. وعندما زرته في بيته - بإحدى المدن العربية - فوجئت بالتبجيل المضخم الذي يلقاه من زوجته وبناته. وكان يبدو مثالاً للاستقامة والأخلاق الصارمة)!

وينتقل نوتوهارا من رصد ظاهرة الازدواجية على المستوى الشخصي عند الأفراد, إلى انعكاساتها العامة, فيطرح عددًا من التساؤلات مضمرة الإجابة:

- هل يثق الآباء بأبنائهم? والزوجة بزوجها? والفرد بأقربائه وجيرانه وأبناء مجتمعه?

- هل يثق المواطن العربي بأحزابه السياسية وبحكّامه?

- هل يثق بالصحافة, والقضاء, والقوانين العامة?

- هل يثق العاملون بإداراتهم وأرباب عملهم?

- هل يثق الفلاح بالتاجر الذي يشتري محصوله? والمشتري والبائع?

ويعلق على تساؤلاته: (إن الثقة لا تستورد ولكنها تنبت في النفوس وتنمو برعاية المجتمع كله. فمتى تعتمد المجتمعات العربية على رباط الثقة?).

  • اكتشاف البادية العربية

قد تخطر للبعض شكوك حول دوافع رصد نوتوهارا لتلك السلبيات العربية, وتغطي بغيوم الريبة إقرار الرجل بأن الحب للعرب هو دافعه في كتابة ما ذهب إليه بغرض التنبيه, وأمل التصحيح, جريًا على المبدأ السوي: (صديقك مَن يصدقك القول). ولهؤلاء يقدم الكتاب فصلين يزيلان أي شك في صدق ودّ الكاتب ومحبّته للعرب, أحدهما عن قضية العرب المحورية, فلسطين, والثاني عن مجتمع البادية. وكلاهما ينضح بالمحبة الصافية والصادقة للحق العربي, ولأي إيجابية في أي بقعة من أنماط الحياة العربية مهما كانت نائية وبعيدة عن العيون.

عن القضية الفلسطينية, يقف نوتوهارا موقفًا واضحًا إلى جانب الحق العربي, ويوسّع أفق المسئولية ليشمل مستوى الإنسانية كلها, فيقول: (إنني أعتقد أن البشر جميعًا مسئولون عن أي جريمة تحدث على كوكبنا, ولذلك فالعالم كله مسئول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني, حيث جاءت موجة غربية, واستوطنت بقوة السلاح, ثم شردت شعبًا, واغتصبت أرضه وثقافته وتاريخه, فالقضية الفلسطينية خطأ ارتكبه العالم, ومازال يتفرّج عليه دون أن يعمل جديًا على حله). ومع موقفه هذا الواضح, ودوره في شرح القضية الفلسطينية للمجتمع الياباني, يؤكد جديّته بزيارات ميدانية لمجتمعات الفلسطينيين, وكتابة شهادات دامغة تدين الافتئات الصهيوني, وإنجاز ترجمات إلى اليابانية من الأدب الفلسطيني تدعم هذا كله.

  • قلب جديد في الصحراء العربية

إن نوتوهارا, الياباني, صديق العرب, والصريح في نقدهم, والدفاع عنهم, يذهب إلى الصحراء العربية بقلب آخر, غير قلوب لورنس, ومَن شابهه من الغربيين, فهو يريد أن يتعرّف على جماعة بشرية في إطار بيئتها الخاصة, ويحصل من خلال هذا الضمير المنفتح على اكتشافات مدهشة حتى للقارئ العربي الذي تحيط به البادية ولايكاد يعرف عنها شيئا, بل ينظر إليها الكثير من المثقفين العرب نظرة استعلاء, وهو مما يرصده نوتوهارا إذ يقول: (وحتى في البلدان العربية - بكل أسف - ينظر بعض المثقفين - إن لم أقل معظمهم - بتعالٍ إلى ثقافة البدو. المدينيون عمومًا يجهلون ما عدا ثقافة الاستقرار. ولذلك كله أقدم بعضًا مما تعلمته من البدو)

بهذا الانفتاح والتواضع يتمكن نوتوهارا من استقبال بكارة الحياة في البادية, وحكمة البدوي في التآخي مع بيئته القاسية ماديًا والمعطاءة روحيًا وأخلاقيًا. حيث يُعرّض الإنسان نفسه للطبيعة بلا غطاء, فالخيمة ليست حاجزًا بينه وبين الطبيعة, فالخيمة رداء كبير, والعباءة بيت صغير, وحيث يحتمي المدينيون بالجدران والسقوف والحجر والخشب والحديد, فإن البدوي يحيا بلا حماية سوى شجاعته وصلابته, لا يعرف مظاهر الترف والهدر, لكنه يجد الكفاية فيما هو ضروري لاستمرار الحياة, ومن ثم يراه الياباني الزائر المتأمل أقرب من أهل الاستقرار في (فهم جوهر العلاقة مع الأشياء). وفي المقابل ينعم بمساحة من الخصوصية, ويكون في غنى عن وطأة (تدخل الآخرين). إنها حياة تتجلى فيها (صرامة المواجهة) و(وضوح الأخلاق) - على حد تعبير نوتوهارا.

إن هذه (البانوراما) النقدية, والمُحبّة في آن واحد, والتي قدمها نوتوهارا على امتداد المائة والأربعين صفحة, ببساطة آسرة, وعمق يخلو من أي ادّعاء, وبلغة عربية سليمة وسلسة, إنما هي قيمة ينبغي التوقف أمام نداءاتها بإصغاء, وتقدير صدقها وعمق محبتها لنا, ثم هي بعد ذلك, إشارة تنبيه قوية, تصرخ فينا أن حان الوقت لأن نلتفت إلى الشرق, ولو قليلا, وأن ننظر إلى الاستعراب الشرقي - إن صح التعبير - بما يستحقه من العناية والانتباه.

 

سليمان إبراهيم العسكري