القيم السياسية... فوق رمال متحركة عبدالرحمن شاكر

القيم السياسية... فوق رمال متحركة

القضايا التي أثارها الاستعمار القديم, ولم تحسم عَبْر قرنين من الزمان, هل هي التي تكمن وراء أزمات الحاضر وتحديات المستقبل? أم أن هناك فروقًا علينا أن نتبينها?

الحديث هنا عن وطننا الكبير, العالم العربي والإسلامي, في وسط متغيرات دولية صاخبة, تتصل به من قريب أو بعيد, ومن قريب أكثر بكثير!

ولعلنا لا ننسى, أن صِدَام القيم في بلادنا قد بدأ منذ بدأ صدامنا المباشر مع (الحضارة) الغربية, منذ حوالي قرنين, بمجيء الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر. ومَن يطالع كتاب (الجبرتي) الذي أرّخ لتلك الفترة من تاريخ مصر, لابد أن يشعر بالحيرة إزاء ذلك الحدث التاريخي, تلك الحيرة التي مَسَّتْ مؤلف الكتاب ذاته, وموضوعها هو التساؤل حول ما إذا كان مجيء هذه الحملة هو نعمة لمصر أم نقمة عليها?! أم هو مزيج من النعمة والنقمة معا?! بل لايزال الجدل حول إجابة هذا التساؤل يدور في صفوف المثقفين المصريين, يهدأ حينا ويثور حينا آخر, طبقا للمناسبة!

فالجبرتي في كتابه, في الفصول السابقة على مجيء الحملة الفرنسية, لا يقصر في وصف ما كان يعانيه عامة الشعب المصري من متاعب, في ظل الحكم المملوكي العثماني لمصر, ويتمثل في الشعار الذي كان يتردد في بعض انتفاضات الشعب المصري ضد مظالم الحكم المذكور, وهو: (يارب يا متجلّي, تهلك العثمانلي)!

كانت الحملة الفرنسية بمنزلة (تحرير) من هذا الحكم المزدوج المتخلف ومظالمه, لتبدأ مظالم أخرى (متحضّرة), متقدمة, لم يخف الجبرتي في كتابه رغم سخطه عليها, إعجابه ببعض جوانبها, وخاصة من الناحية العلمية والتنظيمية, بل والقضائية. لقد قبل الجبرتي ذاته أن يكون عضوا في الديوان الذي أنشأه (صاري عسكر بونابرته الكبير) - على حد تعبيره - ليساعده في حكم البلاد, ويكون بمنزلة واسطة بينه وبين عامة أهلها. وأعجبه - أي الجبرتي - بل وأذهله بعض ما شاهده في معاملهم العلمية التي أنشأوها, خاصة أن والده الشيخ حسن الجبرتي, كان هو نفسه من المشتغلين بالعلوم الطبيعية مثل الكيمياء.

ولم يخف إعجابه بالخطوات القانونية المنظمة في محاكمة سليمان الحلبي, قاتل كليبر, الذي خلف بونابرت في قيادة الحملة وحكم البلاد, بما في ذلك منحه حق الدفاع عن نفسه, رغم أن الحكم كان شديد القسوة, حيث قضى بإحراق اليد اليمنى للمتهم, ثم إعدامه بإجلاسه على الخازوق, الذي كان بدوره أداة عثمانية للقتل غير الرحيم لأعداء الحاكم!

خلفت الحملة بعد رحيلها مطبعة, وتركت نظمًا لتنظيف الشوارع وإنارتها, وعلمت المصريين التوقف عن دفن موتاهم في منازلهم واستعمال (جبانات) خاصة لهذا الغرض. ولكن المكوس التي فرضت لتمويل الحملة كانت من الثقل, بجانب المهانة القومية والدينية, لدرجة أنها كانت سبباً للثورة على (الفرنسيس), وخاصة في القاهرة, التي لم يتردد المحتل الفرنسي في قصف أحيائها الشعبية بالقنابل من قلعة الجبل, حتى جعل أهلها يصيحون: (يا سلاّم من هذه الآلام, يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف!).

وبلغ فجور الاحتلال ذروته بدخول جنوده ساحة الأزهر الشريف بخيولهم وتدميرهم ونهبهم المخطوطات الثمينة الدينية والأدبية في مكتبته, وعمّت الثورة جميع أرجاء القطر, واستمر القتل بين المواطنين والمحتلين حتى أجبر الأخيرون على مغادرة البلاد.

تعلّم من عدوّك

بعد رحيل الحملة الفرنسية عن أرض مصر, استقر حكمها في أيدي قائد ألباني حازم طموح هو محمد علي الكبير مؤسس العائلة المالكة الأخيرة في مصر, وحينما أراد إعادة إعمار البلاد وتحديثها وتصنيعها, بما في ذلك إقامة جيش قوي, خدم به الدولة العثمانية أحيانًا, ثم انقلب عليها طامحًا من ورائها, لم يجد أمامه مَن يستعين بهم في مشروعه العمراني سوى الفرنسيين أنفسهم, الذين لم يكادوا يغادرون البلاد! فاستعان بالكولونيل (سيف) الذي عرف بعد ذلك باسم (سليمان باشا الفرنساوي), في إعادة, أو قل بناء الجيش المصري من جديد على أحدث النظم العصرية, وكذلك استعان بالطبيب الفرنسي (كلوت بك) في إنشاء مدرسة الطب, وأخرى للتمريض في (قصر العيني), وغير هذين كثير من الخبراء مثل خبراء الصناعة والهندسة, وخاصة في الترسانة البحرية التي أنشأت له أسطولاً عصريًا بمدافعه الحربية, كما أنشأ مطبعة في بولاق بمعونتهم نشرت أمهات الكتب العربية في مختلف العلوم.

ولكي يكون لديه خبراء من رعاياه, أرسل بعثة من الشباب المصري إلى فرنسا ليدرسوا علومها في مختلف التخصصات, وجعل لهم إمامًا يعلّمهم أصول دينهم الإسلامي ويؤمّهم في الصلوات المفروضة, هو شاب أزهري اسمه رفاعة رافع الطهطاوي. ولكن الفتى الأزهري, لم يكتف بالمهمة الرسمية التي كلفه بها ولي الأمر الذي أرسله, بل قلّده في محاولة التعلم من عدوه, فتعلم اللغة الفرنسية, وقرأ ما استطاع في آدابها, واطلع على أحوال أهلها, وأعجبه منها أمور, ولم تعجبه أخرى, ولكن أكثر ما أعجبه هو الحكم الدستوري, والديمقراطية, ورأى أن بلاد الإسلام أولى بهذه النظم الراقية في الحكم والسياسة, وهي التي ينص كتاب دينها على أن أمر المسلمين شورى بينهم!

ويصبح رفاعة الطهطاوي أول داعية للديمقراطية في بلاد الإسلام, ويضمِّن دعوته تلك كتابه المعروف باسم (تخليص الإبريز في تلخيص باريز). وتتم ترجمة هذا الكتاب إلى التركية في عام 1839, فيتلقف المثقفون الأتراك دعوته وتندلع مظاهرات الطلبة احتجاجًا على الاستبداد العثماني, حتى ولو كان باسم الخلافة الإسلامية, ويطالبون بالديمقراطية والحكم الدستوري, ويشهد القرن التاسع عشر في أواخره محاولات مبدئية لإقامة حياة دستورية نيابية, في تونس وفي مصر, وفي دولة الخلافة ذاتها.

وفي آخر القرن, يظهر مفكر مسلم آخر, هو المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي, الذي يثور بدوره على الاستبداد العثماني, ولا يكتفي بالمطالبة بالديمقراطية السياسية مثل سلفه الطهطاوي, بل ينادي بالديمقراطية الاجتماعية, تأثرا منه هو الآخر بما كانت تموج به أوربا من تيارات سياسية تنادي بالعدالة الاجتماعية إلى جانب الحريات السياسية.

أما مصر, التي وقعت تحت احتلال أوربي جديد, وهو الاحتلال البريطاني في عام 1882, وتحولت إلى بريطانيا كثير من البعثات التعليمية, فقد ساد شبابها المثقف الإيمان بالديمقراطية, وكان أكبر داعية لها هو أحمد لطفي السيد, رئيس حزب الأمة الذي كان ينادي بالتدرج في الإصلاح ولا يرى بأسا من الاستفادة من سلطات الاحتلال في ذلك حتى تنضج البلاد للاستقلال التام. أما الحزب المناوئ له وهو الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل الذي كان ينادي بالجلاء الناجز لقوات الاحتلال, واستمرار الرابطة مع الدولة العثمانية, فقد كان أيضا ينادي بالدستور والحياة النيابية.

الرمال المتحركة

بالرغم من كون أوربا المدرسة التي تعلم منها الشباب العربي والمسلم قيم الديمقراطية والحريات السياسية, فإنها لم تتردد في حال احتلالها لأي من البلدان العربية والإسلامية في قمع المطالبين بجلاء قوات احتلالها بأساليب لا تخلو من الوحشية في بعض الأحيان, فضلا عن مصادرة الحريات السياسية في إصدار الصحف والاجتماع والتظاهر... إلخ, ولم تتردد كذلك في دعم بعض السلطات المحلية الاستبدادية التي تعمل في خدمتها في قمع دعاة التحرر من الاحتلال.

ولكن الخيانة الكبرى لقضية الديمقراطية وقيمها, من جانب المجتمعات الأوربية والغربية عموما,كانت يوم أن أوشكت الحرب العالمية الأولى على أن تضع أوزارها, تلك الحرب التي ساعدهم فيها بعض العرب على هزيمة الأتراك طبقا لوعود قطعها لهم البريطانيون بتحقيق استقلال البلدان العربية, ولكن العرب الذين ساعدوهم على إنهاء وجود دولة الخلافة الإسلامية في بلادهم فوجئوا بأن الذين حالفوهم ضد تلك الدولة القائمة على الدين الإسلامي, إنما يمهدون لقيام دولة أخرى في المنطقة على أساس ديني آخر مخالف للإسلام, وذلك بأن أعطى بلفور وزير خارجية بريطانيا وعدا لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. كان ذلك في الثاني من نوفمبر عام 1917, وذلك استجابة لمطالب الحركة الصهيونية التي بدأت في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر, بسبب المذابح التي أوقعها القياصرة الروس بمواطنيهم من اليهود الخزر, الذين تهود أجدادهم في القرن الثامن الميلادي, وعرفوا باسم اليهود الأشكنازيم, وذلك طبقا للعقيدة اليهودية التي تعتقد أن أشكناز بن جومر بن يافث بن نوح قد سكن أرض القوقاز, لذلك تسمى في التوراة باسم (أرض أشكناز), وهؤلاء المتهودون الخزر هم من سلالته, ولكن بالرغم من هذه الحقائق التي يعترف بها اليهود في كتبهم, فإنهم من أجل أغراضهم السياسية, لم يترددوا في الكذب على العالم بأسره, وادعوا أن اليهود جميعا إنما هم من بني إسرائيل الذين تشتتوا في الأرض بعد السجن البابلي, وأن الحركة الصهيونية تعمل على إعادتهم إلى أرض إسرائيل في فلسطين, رغم كون اليهود الأشكناز السابق ذكرهم يمثلون حوالي تسعين في المائة من عدد يهود العالم!

وهكذا وقعت الحضارة الغربية في حمأة الخيانة لقيم الديمقراطية, وعلمانية الدولة, وحق تقرير المصير لجميع الشعوب, وتواطأت مع الصهيونية, بالرغم من أكاذيبها المفضوحة في مساعدتها على اغتصاب فلسطين!

لقد (اكتشفت) أوربا خلال الاستفتاء الذي أجراه معهد جالوب في نوفمبر عام 2003 أن الدولة الصهيونية أخطر دولة على السلم العالمي, رأى ذلك حوالي 59% من العينة التي اختارها المعهد المذكور وتعدادها سبعة آلاف مواطن أوربي من مختلف البلدان. ولا ننسى أن أوربا كانت هي مهد الحركة الصهيونية, فالمذابح الروسية وقعت في أوربا, وفي روسيا في القرن التاسع عشر وفي ألمانيا في القرن العشرين, وكانت تلك هي الذريعة التي تم بموجبها اغتصاب الصهاينة لفلسطين, ولايزال المهاجرون الجدد يأتون أساسا من أوربا لتعزيز هذا الاغتصاب, ومن أوربا جاء وعد بلفور السابق الإشارة إليه, فهل يكون هذا الاعتراف الأوربي, بخطر الدولة الصهيونية على سلام العالم, هو بداية الاعتراف بالخطيئة التاريخية التي ارتكبت في حق العالم العربي والإسلامي, الذي لم يكن له يد فيما أصاب يهود العالم أو بعضهم على يد بعض الدول الأوربية?! ولكنه, أي العالم العربي والإسلامي, هو من كان عليه أن يدفع من دم أبنائه ومن مستقبله ثمن تلك الخطايا.

إن الحرية لا تتجزأ, وكذلك الديمقراطية, إما أن تكون عادلة تشمل الجميع أو قل على سلام العالم.. السلام! وعلى الذين يخلطون بقصد أو غير قصد, بين مقاومة الشعوب المقهورة لمستعبديها, والإرهاب, أن يعلموا أن ما يسمى بالإرهاب في العالم الإسلامي, إنما كان بمنزلة رد فعل للإرهاب الصهيوني الذي بدأ في القرن الماضي ولايزال مستمرا حتى هذه الساعة على يد الدولة الصهيونية, أم أن القنبلة التي يموت حاملها وهو يقذف بها عدو بلاده, هي الأكثر شرا من التي تطلقها دبابة أو طائرة على بؤساء من المفروض أنهم مدنيون آمنون?!

ويوم يعود الحق الفلسطيني لأصحابه, يكون من حق من يشاء أن يسائل العرب هل وجدوا الديمقراطية التي تعلموها من الغرب ماء أم سرابا?!

 

عبدالرحمن شاكر