العنف ضد المرأة.. متى نتخلص من هذا الإرث? عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

العنف ضد المرأة.. متى نتخلص من هذا الإرث?

العنف ضد المرأة: إرث ثقافي له تاريخ طويل يمتد إلى أيام الجاهلية الأولى, حينما كان الرجل يفتخر بوأد الأنثى (رمز الفضيحة والعار), كما كانوا يعتقدون, ولاتزال بيننا رواسب من ذلك الإرث.

ثقافة العنف بعيدة الجذور في تربة المجتمع العربي, تجعل الرجل سيدًا مطاعًا في المرتبة العليا, والمرأة كائنًا مطيعًا في المرتبة الدنيا, يتقبل شتى صور العنف من غير شكوى, فالعنف ما هو إلا إفراز اجتماعي لعلاقة غير متكافئة لثقافة متحاملة على المرأة, ومنحازة للرجل, لأنه رجل. ويقصد بالعنف ضد المرأة, كل ما يؤدي إلى ضرر يمسها ماديًا أو معنويًا أو نفسيًا.

وللعنف مظاهر ودرجات وأنواع, منها: العنف النفسي وهو أشده, ويتمثل في نظرة الرجل للمرأة, نظرة دونية, وفي أنواع من الضغط والإكراه, يمارس ضد المرأة لإجبارها على زوج لا تريده, أو لأخذ مالها, أو الصرف على البيت, أو في حرمانها من منصب تستحقه, أو في التمييز في المعاملة في الوظيفة والمرتب, أو في حرمانها من المساواة في فرص التعليم والتدريب, أو في تحميلها أداء عدة أدوار في البيت والمجتمع دون توفير الوسائل المعينة لها.

ثم العنف اللفظي ممثلاً في السب والشتم والإهانة والتهديد, ثم العنف المادي ممثلاً في الدفع والضرب والجرح والقتل.

مصادر متعددة

ومصادر العنف في المجتمع كثيرة: الأب, الزوج, الأخ, الجار, بل حتى المرأة ضد بنات جنسها, والحقيقة أن المرأة مستهدفة للعنف منذ ولادتها, عندما يُفضّل أخوها عليها, وعندما يُنظر إليها على أنها مصدر الانحراف والعار الذي قد يلحق بالأسرة, فيسارع إلى تزويجها من أول طارق, وعندما ينظر المجتمع إليها بريبة إذا طلقت.

والعنف نوعان: ظاهر وصامت, والظاهر هو ما يصل إلى السلطات وهو الأقل, وعنف صامت يتم بين الجدران, وهو الأكثر انتشارًا, وحسب دراسة قام بها الدكتور محمد عوض باعبيد من جامعة صنعاء, فإن (في مقابل كل بلاغ, توجد ثلاثة آلاف حالة لا يبلغ عنها في اليمن).

وقد اتسعت ظاهرة العنف, فأصبحت وباءً منتشرًا في جميع المجتمعات: المتقدمة والنامية, غير أنه في الدول المتقدمة, تتدخل الدولة بالتشريعات الحازمة لحماية المرأة, وهناك الجمعيات والمراكز الأسرية, تلجأ إليها المرأة المعرضة للعنف, ففي ألمانيا, مثلا, 73 مركزًا.

وفي تقرير, أن 88% من النساء في إحدى البلاد العربية يتعرضن للضرب من أزواجهن, وفي تقرير للأمم المتحدة, أن 66% من الفتيات لا توجد لديهن فرصة للتعليم, وتحدث 175 ألف حالة حمل سنويًا, لا ترغب النساء الحوامل في حدوث نصفها, وتموت أكثر من امرأة, كل دقيقة بسبب مشكلات الحمل والولادة, 99% منها في الدول النامية, وأكّد التقرير استمرار قضايا الاغتصاب والعنف داخل الأسرة, وهناك القتل بحجة حماية الشرف لايزال يمثل ظاهرة خطيرة, وهناك مليون فتاة, يواجهن سنويًا تهديدًا بالختان في 15 دولة إفريقية, ونسبت إحدى المجلات إلى أحد القضاة العرب قوله: إن أكثر من 50% من قضايا الطلاق في الإمارات يكون بسبب الضرب, وأظهرت دراسة للدكتورة أمينة الجابر - وكيلة كلية الشريعة والقانون بجامعة قطر - أن ضرب النساء من الظواهر المنتشرة, وهو أحد أسباب الطلاق الذي بلغت نسبته 35,7% حسب آخر إحصائية للمحاكم الشرعية, وفي استطلاع عن ظاهرة العنف ضد الزوجات تبين استفحال الظاهرة محليًا وعالميًا, كما بينت دراسة د.باعبيد اتساع الظاهرة بزيادة 27% في سنة 1997م لتشمل القتل والاختطاف والاغتصاب والأخذ بالإكراه. ونتيجة لشيوع الظاهرة, فقد اختار صندوق الأمم المتحدة الإنمائي, شعار (العنف ضد المرأة) ليكون موضوعًا رئيسيًا في إطار احتفالات الأمم المتحدة بعيد المرأة العالمي لسنة 1999م, بعنوان (عالم خال من العنف ضد المرأة).

أسباب .. وراء الظاهرة

أولاً: الطبيعة غير السوية عند بعض الرجال: بسبب العقد النفسية الكامنة منذ الصغر, أو القهر والضغوط النفسية في العمل, فيجد في الزوجة متنفسًا, أو لأنه من أسرة تعوّد الأب فيها ضرب زوجته.

ثانيًا: مفاهيم مغلوطة: منتشرة في الوسط الاجتماعي ومنها:

1- فهم مغلوط للقوامة: إذ هي عند بعض الرجال: التسلط والتسيّد مع أن المفهوم الشرعي للقوامة هو: أن القوامة من القيام على الشيء بما يصلحه, برعايته وحمايته وتأمينه, وتحمل مسئولية الإنفاق والتوجيه والإرشاد والدفاع.

2- فهم مغلوط للرجولة: إذ تعني عند البعض: أن يكون الرجل شديدًا حازمًا لأن المرأة عندهم, إنما تحترم الزوج الذي يضربها لا الزوج المتسامح الطيب.

3- فهم مغلوط للتوجيه والإرشاد: هناك مفهوم مغلوط يشيع عند العامة, فمن حق الرجل عندهم أن يضرب زوجته لأن القرآن أعطاه هذا الحق, فهو يضرب زوجته ويفتري على الله, والقرآن إنما أعطى الزوج حق التوجيه والإرشاد والنصح, فإذا لم تؤثر تلك الوسائل, جاز الضرب الخفيف الذي فسّره الرسول بالسواك, كتعبير عن عدم الرضا النفسي, ولو كان الضرب خيرًا, ما قال الرسول: (ولن يضرب خياركم) ولو كان خيرًا, لفعله الرسول وهو المربي الأعظم الذي لم يضرب قط امرأة.

على أننا يجب أن نسأل أنفسنا: الآية أذنت بالضرب, ولكن لمن? للزوجة الناشز وهي المتكبرة المستعلية والمترفعة على الزوج, أو المرأة التي تأذن في دخول بيت الزوجية لغريب, وهما حالتان استثنائيتان لا يجوز تعميمهما. وأما الحديث الذي يروونه (لا يُسأل الرجل فيم ضرب زوجته) فمرفوض عقلاً ونقلاً وعدلاً وهو عدوان مخالف للنصوص.

4- فهم مغلوط لطبيعة المرأة: هناك من يرى أن المرأة خلقت عوجاء, فلابد من ضربها لتعتدل, وأن المرأة - في قرارة نفسها - تحترم الزوج الذي يضربها ولو اشتكت - ظاهريًا - منه, بل في النساء من يفخرن بشدة أزواجهن ورجولتهم, والأمثال الشعبية والقصص والحكايات تؤكد هذا المفهوم مثل: (اكسر لها ضلع يطلع لها ضلعين), (لا ترفع عصاك عنهن أبدًا)...إلخ.

5- فهم مغلوط لحق الطاعة, فالطاعة عندهم, الخنوع وتحمّل المهانة, وعدم الاحتجاج والشكوى, وعدم مشاورة الزوج لزوجته, ومن التعبيرات الدارجة: (طاعة المرأة ندامة) (شاوروهن وخالفوهن)....إلخ.

ثالثًا: النمط السائد للتربية: المجتمعات العربية, ذكورية, تربي المرأة ضعيفة لا شخصية لها, والمرأة المطيعة هي المطلوبة, وتربي الرجل ليكون سيدًا مطاعًا له كل الحقوق والامتيازات, بل إن الأم - نفسها - تربّي ابنها ليكون فرعونًا, بينما تربّي أخته لا شخصية لها, عليها طاعة الأخ وعدم عصيانه, الأخ الذكر مفضل عند أمه, له كل الامتيازات وخطاياه مغفورة, أما أخته فالويل لها إذا أخطأت لأن دمها هو الثمن, هذا الفرعون المتسلط على أخته هو نتاج تربية تلك الأم التي زرعت التفرقة منذ الصغر.

رابعًا: المرأة نفسها: لضعف في شخصيتها, وتأثرها بمفاهيم مغلوطة وثقافة مغشوشة تساهم في دعم الاتجاهات التعصبية في المجتمع, التي تنادي بقمع المرأة ووأد حريتها, فمن الملاحظ أن غالبية النساء في الانتخابات في بعض المجتمعات العربية صَوّتن لمصلحة الأحزاب التي تتبنى مفاهيم ضد حقوق المرأة, وفي ندوة عن (العنف ضد المرأة) قالت امرأة: إنها لا تحترم الزوج الذي لا يقسو على زوجته, وقال رجل: إنه مع حرية المرأة, لكنه, أيضا, مع حق الرجل في ضرب زوجته مرة في الأسبوع حتى لا تركب رأسها. وفي دراسة للهيئة الوطنية لصحة العائلة في الهند بيّنت أن 56% من النساء يجدن سببًا واحدًا على الأقل لتبرير ضربهن.

خامسًا: النظام التعليمي السائد في الدول العربية: يكرس وضعًا نمطيًا لدور المرأة في المجتمع, فهي دائمًا المكلفة بأعمال الطبخ والغسل والخياطة إلخ, والرجل هو الذي يفكر ويكتب وينجز الأعمال العظيمة, والكتب الدراسية توضع على أساس المقولة (هي تطبخ وهو يفكر) كما أن الكتب الدراسية حتى المرحلة الجامعية تكرّس كمال الرجل وأرجحية عقله في مقابل نقص المرأة وطغيان عاطفتها وضعف عقلها.

سادسًا: النظام الثقافي السائد في المجتمعات العربية: - قديمًا وحديثًا - يكرّس وضعية هامشية للمرأة ويؤكد تبعية المرأة للرجل, فهو القوي وهو الأعلى الذي من حقه أن يفرض وصايته عليها.

سابعًا: الإعلام: يرسّخ تسيّد الرجل سواء في الأفلام أو المسلسلات وغيرهما, فعلى المرأة أن تغفر وتسامح أخطاء الرجل - بطل الفيلم - الذي يترك البيت لنزوة عابرة بعد أن أعجب بامرأة أخرى, فيشرّد أولاده ويذيقهم العذاب, وعلى الأم أن ترعى الأولاد وتحافظ على البيت صابرة, وفي النهاية يرجع البطل إلى بيته نادمًا, ولكن على المرأة أن تسامح وتربت من أجل البيت والأولاد.

ثامنًا: النظام التشريعي: ويتمثل في:

1- ضعف التشريع العقابي: فإذا ضرب الرجل أو شتم زوجته, فهو جنحة, وإذا أدى الضرب إلى موت الزوجة فالعقوبة هيّنة: حبس 3 سنوات فقط .

2- انحياز التشريع لمصلحة الرجل: ليس من حق المرأة أن تطلب الطلاق إذا كان الزوج عقيمًا, ولكن للزوج أن يطلقها إذا كانت عقيمًا.

وهناك قوانين تفرق بين ديّة المرأة والرجل, وهناك تشريعات تفرق بين الرجل والمرأة في الوظائف والمناصب, وهناك تشريعات تعطي المرأة الراتب الأقل, وتشريعات تحرم المرأة من طبيعة العمل أو تخفضها, وتشريعات تفرض على الفتاة نوعية معينة من التعليم.

والملاحظ أن التشريعات في جميع الدول العربية تحرم أولاد المواطنة من الجنسية إذا كان زوجها أجنبيًا, وهو ظلم صارخ.

تاسعًا: سوء اختيار الزوج أو الزواج العشوائي: الأهل في كثير من الأحيان لا يدققون كثيرًا فيمن يتقدم لبناتهم, ولا يتساءلون عن طبيعة الرجل المتقدم, هل سيعامل ابنتهم بالمعروف وبالحسنى, ويمارسون نوعًا من الزواج العشوائي, لا يسبقه اختيار سليم مبني على اقتناع حر وحقيقي من كلا الطرفين, وبخاصة في المجتمعات المغلقة التي تسودها عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان, فيسارعون إلى تزويج الفتاة في سن مبكرة خوفًا من انحرافها, وبحجة أن في ذلك صيانة لها من الفتنة والمفاسد, والعجيب أن يتم كل ذلك باسم الشريعة الغراء.

عاشرًا: ضعف شخصية بعض النساء: نظرًا لاستسلامهن للخنوع والمهانة بذريعة المحافظة على الأسرة والأولاد, أو خوفًا من الفضيحة والسمعة, أو خوفًا من تهديد الزوج.

أمي وأمك .. أختي وأختك

هناك أسباب أخرى متمثلة في تعاطي الزوج للمسكرات والمخدرات, وانخفاض المستوى التعليمي والاقتصادي للزوج, وهناك سبب مهم وأساسي هو (ضعف الوازع الديني) نظرًا لأداء بعض المسلمين شعائر الدين وعباداته من صلاة وصيام وحج, أداءً شكليًا مظهريًا, فلا يربّي ضميرًا ولا يهذب سلوكًا ولا يحسن معاملة.

لماذا الاهتمام بمنع العنف الموجه ضد المرأة?

والجواب أن ذلك لسببين أساسيين:

أولاً: المرأة هي أمي وأمك, وأختي وأختك, فإذا لم نحرص على احترامها وتقديرها, ومنع أي مصدر للعنف ضدها, فإنها لن تكون مستقرة نفسيًا, وإذا لم تكن مستقرة نفسيًا, فإنها لا تستطيع أن تربي أولادها التربية المرجوّة لبناء مجتمع ناهض قوي لأن الخائف المهزوز نفسيًا لن يبني مجتمعًا قويًا.

ثانيًا: مجتمعاتنا تعاني مشكلات عدة: تربية وتعليمًا واقتصادًا, فإذا تساءلنا: ما الأسباب? فإننا لا نجد إلا جوابًا واحدًا هو: أننا بمقدار ما نعامل المرأة المعاملة اللائقة التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها, يجني المجتمع الثمار الصالحة. ورأيي الذي أتمسك به دائماً, أن ضعف مجتمعاتنا من ضعف المرأة عندنا, فإذا أحسنّا معاملة المرأة وقوينا شخصيتها انعكس ذلك على قوة المجتمع بسبب حسن تربية المرأة القوية المستقرة نفسيًا لأولادها الذين هم قادة المستقبل.

أما عن الحلول والمقترحات للخروج من تبعات هذا الإرث السلبي, فهي:

(1) لنتفق أولاً أن احتقار الأنوثة جريمة, وأن المساواة مطلب شرعي وإنساني.

(2) لابد من تنقية التراث برمته من الشوائب الضارة والظالمة للمرأة.

(3) لابد من تنقية الكتب الدراسية من الصورة النمطية للمرأة الخانعة, التابعة.

(4) تصحيح ثقافي واسع تشارك فيه جميع وسائل الإعلام لبيان المفاهيم الصحيحة المتصلة بعلاقة الجنسين.

(5) توعية المتزوجين بحقوقهم وواجباتهم الشرعية والقانونية وكيفية المطالبة بها.

(6) وجود مراكز للتوعية الأسرية, والإرشاد الأسري يسهل على المرأة المعرضة للعنف الاتصال بها لإرشادها إلى كيفية التصرف في المواقف المختلفة.

(7) تقوية الوازع الديني عند الجنسين بنشر الثقافة الدينية وتصحيح المفاهيم الاجتماعية المغلوطة.

(8) تشديد العقوبة على جميع أشكال العنف.

(9) إعادة النظر في التشريعات بما يكفل إزالة جميع أشكال التمييز المخالفة للنصوص الدينية الثابتة.

 

عبدالحميد إسماعيل الأنصاري