لغز العدالة محمد الحديدي

لغز العدالة

هل العدالة حلم قابل للتحقيق? أم مجرد فكرة لا يمكن حتى تعريفها?
سؤالان, يحاول الكاتب أن يجيب عنهما, سالكًا في ذلك دروبا غير مألوفة, بل مغايرة أحيانا لما ألفنا ترديده.

غضب أبو جعفر المنصور عندما سمع رسالة قرأها عليه واحد من كتّابه, وسأل: (من الذي كتب هذا?) - (كتبه يا مولاي أكتب الخلق!), وكان هذا هو الوصف الذي سبق أن أطلقه الخليفة على عبدالله بن المقفع, فصاح المنصور (ألا يوجد من يكفينيه?) وهي صيحة تشبه ما جاء بعد ذلك بأربعة قرون على لسان ملك الإنجليز هنري الثاني: (ألا يوجد رجل يخلصني من هذا الشقي?) وكان هذا أيضا موضع الرضا السامي ذات يوم. في كلتا الحالتين كان (النطق الملكي الكريم) بمنزلة حكم بإعدام المذكور بعاليه.

في حالة طوماس بيكيت, قام بالتنفيذ أربعة من فرسان الملك, ذبحوا أسقف كانتر بري في صحن الكاتدرائية, مما كان محورًا لمسرحية أليوت الشعرية, أما إعدام عبدالله بن المقفع (ويقال إن الاسم جاء من حكم بهيمي على أبيه من قبله), فقد اضطلع به الوالي الذي عينه المنصور على البصرة, سفيان بن معاوية والذي كان حاضرا مجلس الخليفة, وصاح مهددًا: (والله يا ابن الزنديقة لأذيقنك ميتة لم يمتها أحد قبلك), واستدرجه إلى مجلسه في البصرة وأمر أعوانه بأن يقطعوه إربا ويلقوا بأشلائه في النار و(عينه تنظر), وهكذا جلس القاتل يراقب أطراف الكاتب الملهم وهي تتصاعد لهبا إلى أن زهقت روحه.

لعل شاعرا مثل أليوت, أو مثل صلاح عبدالصبور رحمه الله, يجد في أعماق هذه الهمجية ما يصنع منه ما صنعه صلاح بمأساة الحلاج.

ولو أن هذا السفاح مات مبكرًا عن موعده - كما فعل أخوه الملقب بهذه الكنية ذاتها - لما أظن أن البشرية كانت تخسر شيئًا ولا كان التاريخ يحيد عن مساره, ولكن مصرع ابن المقفع كلف البشرية دررًا وعيونا من نوع الأدب الكبير والأدب الصغير من أمثال كليلة ودمنة.

اجتهادات وتعريفات

طاغية آخر يدعى نابليون بونابارت, تصوره كتب التاريخ عبقريا لامعا وقائدا ملهما بالرغم من هزائمه المخزية في مصر وروسيا وترافالجار وووترلو, وبالرغم من أنه تركهم يمسكون به ويحبسونه كجرذ ضئيل في مصيدة حقيرة في مكان لا يليق بنشال, هذا المأفون أراد أن يتزوج أخت قيصر روسيا ألكسندر الأول, ولكن الأخير رفض وتحالف مع أعداء نابليون الإنجليز. وهكذا جَنّدَ الإمبراطور العظيم جيشًا من نصف مليون من شباب فرنسا وإيطاليا, وانتهت به عبقريته التاريخية إلى أن يعود بحفنة منهم لا تجاوز أربعة من كل مائة! يعني أهلكهم من الجوع والبرد والجراح المميتة وعاد يجر أذيال الخيبة ولا يخجل من أن يظل تاج الإمبراطورية على رأسه.

هل كان هذا زمنا سحيقا? أبدًا, حدث هذا منذ أقل من مائتي سنة وفي القرن الذي يسميه علماء التاريخ والحضارة (عصر التنوير) أو على وجه الدقة, بعد انتهائه بسنوات قليلة.

ولا ننس أنه بعد مائة سنة من ذلك دخلت شعوب أوربا - التي كانت آنذاك قد تربعت حضارتها على عرش المعرفة والتنوير - فيما أسموه الحرب العظمى, كانت الفيران تهاجم آلاف الجرحى في خنادقهم وتفترسهم وهم لايزالون أحياء, وكانوا يموتون وعيونهم تعبر عن الهلع من هول ما هم فيه. كل هذا من أجل أطماع الحكام, فما الفرق بين هذا وبين ذبح الأطفال قربانا للحكام المتألهين? ثم بعد تلك الحرب بعقدين من الزمن رأينا الفاشيين من الألمان واليابانيين, يعبرون عن تفوقهم بالاستهانة بكل ما نؤمن به من خير وعدالة وقيم, حقا, ماذا في إبادة الضعفاء والأذلاء والمتخلفين? ألن يكون هذا هو الطريق إلى عالم أكثر قوة وتقدما? ليس هناك جديد في هذا, ففي محاورات أفلاطون, نجد السوفسطائي ثراسيماخوس يقول: (إنني أعلن أن القوة هي الحق, وأن العدالة هي ما يحقق مصلحة الجانب القوي. إن مختلف أشكال الحكومات تسن القوانين, ديمقراطية, أرستقراطية, أوتوقراطية, طبقا لما ترى أنه يحقق مصالحها. وهي تفرضها على الشعوب بوصفها هي العدالة, وتنزل العقاب بمن يخالفها بأن تصفه بالظلم والافتراء).

من حق الفرد المفكر, مثل نيتشه أن يرى أن العدالة ليست سوى منطق العبيد, وأن الضعفاء والعجزة هم الذين يشغلون أنفسهم بها, إلا أن أناسًا عاديين, مثلي ومثلك, تثور نفوسهم وتضطرم جوانحهم لما حدث لابن المقفع, وللمصير التعس الذي لقيه شباب أوربا على أيدي مخلوقات تمشي على قدمين, مثل نابليون وموسوليني وستالين, كما أن المفكرين, من أفلاطون إلى روسو ولوك وكانط ومور, قد شغلوا أنفسهم بقضية الأخلاق والعدالة. وقد رأى أفلاطون أن جميع أفعال البشر تأتي من ثلاثة مصادر: الغريزة, والعاطفة, والمعرفة - وأن أهم ثلاثة أشياء في حياتهم هي: العدالة, والجمال, والحقيقة (وكم يتفق هذان التصنيفان!) وأراد أن يضع تعريفا للعدالة, فهي عنده (أن يؤدي كل فرد ما عليه ويأخذ ما يستحقه) - حقًا, مسألة غاية في الوضوح والبساطة! والآن, وبعد انقضاء ما يقرب من خمسة وعشرين قرنا, نجد الفيلسوف الأمريكي جون رولز يقدم تعريفًا للعدالة قد لا يضيف كثيرا, وإن كان هذا يأتي في بداية مؤلفه الضخم (نظرية في العدالة), وقد لا يكون الإنصاف أن نغفل التعريف عن هذا السفر الضخم:

(العدالة هي أولى فضائل المؤسسات الاجتماعية, وهي بالنسبة لها ما تمثله الحقيقة بالنسبة إلى المنظومات الفكرية. النظرية, مهما تتصف بأنها جذابة واقتصادية, تكون جديرة بالرفض أو بالتعديل إذا كانت غير صادقة, وبالمثل فإن القوانين والمؤسسات تستحق الرفض أو التعديل إذا كانت غير منصفة. إن لكل فرد حقه في ألا ينتقص منه أو يعتدى عليه, وهو حق يتأسس على العدالة, ولا يجوز لشيء أن يتخطاه بما في ذلك حيز المجتمع ككل).

حسنًا, تعريف مقنع, لولا أنه يستخدم كلمة (العدالة) مفترضًا أننا نعرف مضمونها, فإذا لم نكن نعرفه فإنه يلزمنا تعريفها! وهو - على أي حال - يسرع فيضيف أن الاتفاق - بدرجة أو أخرى - على مفاهيم العدالة قد لا يكون كافيا, فهناك (مشكلات اجتماعية أساسية) مثل (التنسيق) (وهو ما يستخدمه أفلاطون أيضا في حديثه عنها) و(الكفاءة), و(الاستقرار) ونراه محقا في هذا تماما, فالمساواة بين جميع الناس أفرادًا أو جماعات قد تخل باستقرار المجتمع وبكفاءته طبعا, وهو يمضي فيقول إنه لا يكفي للمجتمع أن يكون جاهدا في تحقيق خير أفراده, بل يجب أن تتوافر فيه خاصيتان هما: (1) أن يكون كل شخص راضيًا عن مبادئ العدالة نفسها المقبولة من الآخرين ومدركًا لها, ثم (2) أن تكون المؤسسات الاجتماعية الأساسية عاملة على تحقيق هذه المبادئ ومعروفًا عنها أنها كذلك.

حسنا, وما المبادئ? إنه يأتي بمبدأين:

الأول: أن يكون لكل شخص الحق نفسه في الحريات الأساسية وعلى أوسع نطاق يشمل هذه الحريات, والثاني, أن تكون حالات عدم المساواة مرتبة, بحيث يكون من شأنها تحقيق خير الناس جميعا ومرتبطة بالمراكز والمواقع التي هي متاحة أو مفتوحة للجميع.

لا نظن أن مركز أبي جعفر المنصور أو نابليون كان متاحًا لغيره في زمانه, وقد نستطيع أن نخلص من هنا إلى ضرورة عدم انفراد شخص واحد بالسلطة, وفي الزمن الذي نعيشه الآن قد أصبح واضحا أن (المشاركة في صنع القرار) لم تعد عملاً يصلح له أو يقدر عليه فرد واحد بعد أن اتسع نطاق المعارف والخبرات إلى حد ضرورة الأخذ بالآراء العديدة والمعلومات وإدخالها في الحاسوب وإعادة التأمل في النتائج, قبل أن نرسل الحملات على طريقة نابليون في مصر وروسيا, ونعود بالخيبة نفسها, ليس هذا جديدًا على كل حال, بل إنه إذا كان دبشليم الملك يستشير بيدبا الفيلسوف فمن باب أولى أن يحاكيه حكام زماننا. الديمقراطية إذن ليست قضية عدالة فحسب, بل هي قضية علمية وتقنية في المقام الأول, سننقل كلمة واحدة أخيرة عن الدكتور رولز قبل أن نمضي في طريقنا نحن:

(إن هدفي هو أن آتي بمفهوم للعدالة يهيئ بديلاً لمذهب المنفعة يكون منظوميا بدرجة معقولة, هذا المذهب الذي ساد الفكر السياسي الأنجلو سكسوني زمنا طويلاً, والسبب الأساسي في سعيي لإيجاد هذا البديل هو شعوري بما يتصف به مذهب المنفعة من الضعف وعدم الكفاية كأساس للديمقراطية الدستورية. وأنا لا أرى بصفة خاصة أن النفعية تصلح لأن تهيئ إقرارًا نافعًا للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين بوصفهم أفرادًا أحرارًا ومتساوين, وهو أكثر الأسس التي تقوم عليها المؤسسات الديمقراطية أهمية), ثم (ونحن أحيانا ننسى أن كبار مفكّري النفعية مثل هيوم وآدم سميث وبنتام وستيوارت مل كانوا منظرين اجتماعيين واقتصاديين في المقام الأول, وأن التعاليم الأخلاقية التي جاءوا بها تأتي في الإطار الذي يخدم أهدافهم التي هي أوسع نطاقا منها), ثم (النتيجة النهائية هي أننا كثيرًا ما نبدو مجبرين على الخيارين - النفعية والحدس - كأساس نبني عليه مفهومنا وممارستنا للعدالة).

هذا هو شأن الفلاسفة كما نعرف, إنهم يهيئون لنا آفاقًا من المتعة الفكرية لا حدود لها ولا نهاية, نستغرق في المتعة والصفاء و(الحدس), ولكننا لا نخلص من هذا إلى (منفعة) عملية, وهم صادقون مع أنفسهم ومعنا, فهم لا يزعمون أبدًا أنهم حلالون للمشكلات, بل على العكس, وظيفتهم هي إثارتها وإشعارنا بها.

من هذا الغموض - بصفة خاصة - قد يمكننا أن نحط على أرض الواقع كالمظليين أو هواة (الغوص من السماء), داعين الله أن نقف على أقدامنا سالمين نوعًا بدلاً من: (ما العدالة?), قد يكون أفضل أن نتساءل: (لماذا نريدها?), ثم - وهو الأدهى - (كيف نحققها?), وهنا لا بد أن نسأل أنفسنا, (ومن نحن?) الذين نريد أن نحققها? نحن الذين نضع الدساتير, أو نطالب بها, وليس الذين يأتون من غياهب الاضطرابات والقلاقل, وأحيانا من أعماق الوحل وأغوار الجهالة.

الوحوش الأربعة

إذا كانت العقلانية لا تصل بنا إلى مقاييس للعدالة لا تأتي في سياقها أمور كالمساواة والحرية... الخ, وكلها لا تقل تعقيدا عما نحن بسبيل قياسها به, فإن أفلاطون قد يكون محقا في مقولته إننا نعمل ونفكر ونعيش لا بعقولنا وحدها بل أيضا بغرائزنا الفطرية, وبعواطفنا الإحساسية الشعورية, ولا شك أن الغضب الذي نحس به عندما نسمع بما وقع لابن المقفع - وهي أمور لاتزال تحدث في غالبية مجتمعات العالم حتى الآن - فإن هذا الغضب - وهو عاطفة - يهيئ لنا ما يهيئه (الحدس) عند فلاسفته, ويعطينا إدراكًا أكثر وضوحًا لانتفاء العدالة وطغيان الحرية - على الحسّ بها.

هذا التراكب في تكويننا - ومعه حاجتنا إلى أن نوجد ونتعايش, بعضنا مع بعض, ويقال مع أجناس آدمية أخرى تعود جذورها لعشرات من ألوف السنين, مثل إنسان نياندر, هو الذي يزيد من تعقيد علاقتنا مع الآخرين ويجعلها لا تتشابه مع علاقات الكائنات (النظامية) الأخرى كالنمل والذئاب وغيرهما, مما تمضي في تعاونها دون حروب أو جرائم, والإنسان يلازمه الميل إلى العنف, بالرغم من ارتقائه في سلم المعرفة والتطور وتحديد القيم, ويقول علماء الحيوان إن واحدًا من كل ثلاثة من قرود الشمبانزي يموت مقتولاً بأيدي غيره من ذكور هذا النوع نفسه, كان أجدادنا يعيشون بغرائزهم أكثر من عقولهم وعواطفهم, وكان أمرًا عاديًا جدًا أن يجوع إنسان, نعم, نفس هذا الإنسان الذي تحدرنا منه, فلا يجد غضاضة في أن يذبح إنسانًا آخر ويفترسه. إذا حدث هذا الآن - ومازال يحدث - فإننا نرى فيه قبحًا وبشاعة لا تطاق. لماذا? لسبب غاية في البساطة, وهو أن غالبية البشر أصبحوا قادرين على الحصول على الغذاء دون حاجة لهذا البلاء, أما إذا جاعوا - كما حدث لطائرة ركاب سقطت على جبال الأنديس في أمريكا الجنوبية منذ بضع عشرات من السنين فإنه سيأكل بعضهم بعضاً.

لقد أصبحت لدينا مؤسسات عالمية مهمتها إقرار العدالة وحماية الإنسانية مما تتعرض له من جرائم, ولكن الحرمان يمكن أن يؤدي بنا إلى أن تتحقق نبوءة توماس مالتوس: التكاثر ثم الفقر والحروب والأوبئة, هذه الوحوش الأربعة قد تصبح ضرورية لحدوث التوازن على ظهر هذا الكوكب المسكون بالعفاريت.

الذي يغيب عن فطنة الكثيرين منا هو أن الحياة ليست في مجموعها قضية أخلاقية, وأن الناس لن يكونوا فضلاء وهم جياع, وليس معنى هذا - بالطبع - أن الشبعانين فضلاء, فقط هناك فرصة لتهذيب طباعهم وعوائدهم. كما أن هناك خيرًا وشرّا, هناك أيضا ثراء وفقر, وعلم وجهل, وقوة وضعف, وذكاء وغباء, ونظام وهمجية, والذي يريد أن يبقى في الحضيض على كل هذه المقاييس يكون مخطئا إذا ظن أنه سينال شيئا منها, بما في ذلك العدالة. إنك حتى لكي تلجأ للعدالة كفرد, لن تستطيع أن تصل إلى حيث يجري تطبيقها ما لم يكن معك مال لدفع رسوم التقاضي واستئجار من يبسط قضيتك بمصطلحات تلك الصناعة - العدالة - وإجراءاتها. وعلى المرء - فردًا كان أم جماعة - أن يكدح دائما من أجل شيء من المكانة في هذه الدنيا. والحديث لا ينتهي عن ضرورة أن يعمل الأغنياء (يعني العالم الصناعي) على إنصاف الفقراء (يعني أصحاب الخامات والعمالة الرخيصة المتدنية), ونحن في سياق هذا الابتهال من أجل العدالة, لا نتوقف لنسأل أنفسنا: الفقراء, لماذا هم فقراء? وهل هناك ما يمكن أن يعملوه من أجل تحسين مصائرهم قبل أن يلقوا باللوم على الأغنياء أولاد الـ.....? نعم. هناك الكثير جدا, منه ما هو واجب الحكام من سفيان إلى نابليون, وهو ألا يستنزفوا ثروات شعوبهم في سبيل أن يبقوا متألهين, وهناك ما هو واجب المحكومين, كأن يحدّوا من التناسل كالجرذان, ومن إنفاق ثمار كدحهم ورزق أبنائهم على أنواع الكيف, وعلى ممارسة ألعاب الزواج والطلاق كما لو كانت عشرة طاولة.

العالم الثالث وأنظمة الحكم

لم يكن جان جاك روسو محبذاً للديمقراطية التي تقوم على الاقتراع الشعبي العام. وهي في واقع الأمر أسلوب غير مقنع ويسوي بين الأخيار والأشرار والعارفين والجهلاء, وقد قال عنها ونستون تشرشل - وهو من دعاتها وزعمائها - إنها أسوأ نظام للحكم - إذا استبعدنا بقية الأنظمة.

ليست فكرة الديمقراطية شيئا جديدا, فكما جاءت حضارة الإغريق بملوك ليسوا آلهة, فإنها سبقت ذلك بعلماء ومفكرين ليسوا كهنة, وهذا لأول مرة في تاريخ البشر, من حامورابي ملك بابل القديمة, إلى هيروهيتو إمبراطور اليابان الحديثة. كان الحكام يرثون السلطة بحجة أن دماءهم مقدّسة, وبالتالي فلا حق لأحد أن ينازعهم المُلك أو حتى يبدي أدنى اعتراض على ما هو (مشيئة إلهية!), والذين لا يدعون أنهم آلهة, مفوّضون, مزوّدون بالتفويض الإلهي.

كانت أثينا القديمة أول مجتمع يمارس قدرًا من إشراك الناس في الحكم, التجربة الأولى في الحكم (الجمهوري) أو (الديمقراطي), ويهمّنا هنا أن نؤكد أننا نستخدم هذه التعبيرات بمفهومها الأصلي, وليس كما كان في (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) وأشباهها. لماذا تجمد هذه الاتجاه نحو العدالة والكفاءة في الحكم لما يزيد على ألفي سنة من تاريخ البشرية? لماذا لم تتبلور الفكرة بظهور الأحزاب والفرق - الشرط الضروري لممارسة المعارضة - إلى أن حدثت هذه التطورات منذ ما يزيد قليلا على مائتي سنة? كان لابد من مجيء الطاقة الآلية لكي يتسنى تحريم امتلاك العبيد, وأن يكون للعبد حق التصويت, كان لابد من مجيء الصناعة لكي يتحقق قدر من الرخاء يمكن من سمو الإنسان فوق غرائزه, ولكي يستطيع أن يهتم بأمور المجتمع ويعبر عن موقفه منها دون أن يكون مهدّدًا بتجويع أطفاله. كان لابد من مجيء الطباعة لكي تتخذ الصحافة موقعها كسلطة رابعة, كان لابد من اكتشاف الكهرباء لكي يأتي الإنتاج الكثيف بالرخاء وتأتي الإذاعة كوسيلة جديدة لتثقيف الجماهير ولحماية الرأي العام والارتقاء بالمعرفة والفنون.

صحيح أنه في ظل الأنظمة الشمولية تحوّلت هذه الوسائل إلى أدوات يمارس بها بعض الحكام الانتهازيين هوايتهم الكبرى, وهي استعباد شعوبهم رجالاً ونساء, إلا أن هذا يدلنا على أن الفلسفات السياسية تصلح لتوجيه هذه الوسائل نحو ما فيه خير المجتمع ورفاهيته (أو نحو كل ما في الدنيا من شرور), ولكنها ليست بديلاً عنها ولا يمكن أن تصلح وحدها لتحقيق هذا الخير, الحل في الإدارة الجيدة والحكم الرشيد المخلص, ولست أظن أنه يوجد على ظهر الأرض دولة لا تكفي مواردها لأن يحيا شعبها حياة كريمة بمقاييس العصر, ينعم فيها الناس بخيرات ما توافر للبشر من معرفة وتقدم.

إلا أن الديمقراطية هي أيضا سلاح ذو حدين, الواقع أنها دون وعي جماهيري خليقة بأن تخنق نفسها. وقد رأينا الاقتراع الديمقراطي يأتي بالنازية إلى السلطة في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي, وبالماركسيين (أبطال العدالة!) في شيلي بعد ذلك بنحو أربعين سنة, نحن لسنا في مجال تقييم هذه المذاهب إلا أنه من سوء التقدير أن تستخدم التعددية الحزبية في أن يصل إلى الحكم أناس مذهبهم هو بالضبط تحريم هذه التعددية.

بينما كان الخديو إسماعيل يحلم بأن تصبح مصر قطعة من أوربا كان إمبراطور اليابان يشرح الطريقة: (لقد أصبح لزاما علينا أن نطلب المعرفة من كل مصدر وجد فيه في أنحاء العالم, وسوف يكون هذا هو الأساس الذي يقوم عليه الجهاز الإمبراطوري), صدر هذا الإعلان سنة 1868 في عهد الإمبراطور (ميجي) وأطلقوا عليه اسما يشبه (العهد الموثوق) ورفع اليابانيون شعار (دولة غنية وجيش قوي), وقد تحقق هذا بسرعة كبيرة مما أدى إلى تحقيق هذا الحلم, ولكن في ظل نظام تسوده العسكرية ويظل فيه الإمبراطور التالي (هيروهيتو) إلهًا معبودًا, إلا أنه عندما جاءت الديمقراطية كان الجو مهيأ لها تماما, لأنها - مثل العدالة والحرية وغير ذلك من القيم, لا تتوافق مع التخلف والفقر, وفي سنة 1946 أعلن الإمبراطور أنه قد تنازل عن ألوهيته وتحوّل إلى مخلوق مثلي ومثلك. نقيض ذلك مثال الديمقراطية في الهند. حيث كانت هي التي سبقت حركة التحديث - والتي لاتزال تتعثّر بفعل الأسباب الأساسية, الفقر والتكاثر السكاني وممارسة كل خرافة يمكن تصوّرها بما في ذلك عبادة البقر والفيران وإحراق الأرامل.

خلاصة القول إن العدالة والحرية (على جميع مستويات الفرد والأسرة والمجتمع, وسواء كنا نتحدث عن الحكم أو القضاء أو التشريع) وغيرها من القيم الإنسانية العزيزة علينا, هذه القيم لا تستطيع البقاء منفصلة عن غيرها من قيم الحياة وعن جودة هذه الحياة, وعلى رأسها درجة معقولة من الرخاء, والتعليم النافع (وهذا لا يكون منحة من السلطة), والثقافة الرفيعة والمواثيق الأخلاقية المتفقة مع حقائق العصر وحضارته, يظلها نظام رشيد للحكم والإدارة.

 

محمد الحديدي