الربيع العربي.. مسار «ما بعد حداثي» لتفكيك مأزقنا النهضوي!

 الربيع العربي.. مسار «ما بعد حداثي» لتفكيك مأزقنا النهضوي!

تعيش بعض الشعوب العربية لحظة فورة كبرى، عبرت عن نفسها في موجة من الثورات والانتفاضات، رُفعت خلالها مطالب إصلاحية في أكثر من بلد عربي، بدرجات متباينة من العمق والشدة، ولكن جميعها تصب في قناة التحرر السياسي والانفتاح الديمقراطي على النحو الذي يدفع كثيرين إلى تسميتها بـ«الربيع العربي». قد تتعثر هذه الموجة في بلد ما، وربما تنتكس مؤقتًا في آخر، وتتبدى في ثالث أقرب إلى الخريف ولكنها ستنتصر في النهاية، بالرغم من عسر المخاض، لتعيد صياغة الدولة الوطنية العربية على أسس أكثر عصرية قياسًا إلى النزعات التسلطية التي هيمنت عليها إبان موجة التحرر القومي منتصف القرن العشرين.

وهنا يذهب كاتب هذه السطور إلى أن «الربيع العربي» يمثل لحظة «فارقة»، و«مفارقة» في آن. «فارقة» كونها شهدت بداية تجاوز انسدادات المشروع النهضوى العربي الذي طالما توسل التصالح مع الحداثة، ولكن توالت عثراته على مدى القرنين الماضيين، حتى وصلت إلى مستوى الاستعصاء الكامل منذ العقدين على الأقل. و«مفارقة» لأن مثل هذا التجاوز، سلك طريقا تاريخيا التفافيا يتوسل أدوات الثورة التكنولوجية الثالثة، ومفاهيمها مابعد الحداثة، وليس أدوات ومفاهيم الحداثة، وهو أمر يخلق صعوبات ويثير تأملات، تتبدى الآن في أفق الثورتين المصرية والتونسية.

لقد كان الوعي بقضية النهضة العربية قد تبلور منذ القرن التاسع عشر حول تيار إصلاحي واسع يدعو إلى تجديد الإسلام كسقف أعلى وخيار نهائي.. كانت هناك بلاشك خطابات عقلانية ترتدي مسوحًا تنويرية، ولكنها ظلت مضمنة في ذلك التيار ولم تدع لنفسها أي عقلانية بديلة. ولنحو القرن بعد ذلك، أي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كان الجدل لايزال يدور بين توجهات عدة تتمايز قليلا، بينما تقع جميعها داخل التيار الإصلاحي الملتزم بالإسلام. وكان مناط التمايز بينها يتعلق أساسًا بالفضاء الذي تنبع منه أو تصب فيه، حيث راوحت كتابات ونضالات الكثير من الرواد بين الفضاء الإسلامى الواسع، والفضاء الوطني المحدود وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي و«خير الدين التونسي» و«الألوسي» وجمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده الذي حاول نقل النهضة العربية نقلة منهجية كبرى تجاوز بها ثورية الأفغاني، وانبهار الطهطاوي، وإحيائية الألوسي التقليدية إلى محاولة بناء «عقلانية إسلامية». وفى المقابل ظل الفضاء العربي «القومي» الذي يمثل حلقة وسطى بين الإسلامي والوطني مهملاً حتى كانت دعوة عبدالرحمن الكواكبي إلى بناء عقلانية عربية متحررة من الجبرية السائدة المكتسية بالنزعات الصوفية والغيبية، وبالاستبداد السياسي.

تيارات نهضوية

غير أن المرحلة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى، والثانية 1918 - 1945 شهدت تبلورًا تدريجيًا لتيارات ثلاثة نهضوية عبر الجدل مع الواقع التاريخي:

الأول هو التيار «السلفي» الذي شكل الاستمرار التاريخي لنزعة «تجديد الإسلام»، ولكنه إذ اعتبر نفسه الأمين على مرجعية الرواد، فقد أخذ يعيد تَمثُلها على أكثر قواعدها محافظة والتزامًا بالإسلام التقليدي، ومن ثم فقد أخذ يفقد تدريجيًا تلك الرموز الثقافية الكبيرة التي أخذت منحى عقلانيًا متزايدًا، ودافعت عن الروح النقدية التي كان أسس لها محمد عبده. وربما دفع في هذا الاتجاه ميلاد حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928.

والثاني هو التيار الحداثي بالمعنى «التغريبي/العلموي» الذي واجه التيار السلفي بتبني المرجعية الثقافية الغربية كاملة وقوعا في أسر نزعة التمركز الأوربي التي عبرت ثقافيًا عن ذلك الحضور الغربي الطاغي في العالم سياسيًا واقتصاديًا آنذاك حيث كانت «أوربا» تهيمن على النظام العالمي بفعل الثورة الصناعية الأولى، وكانت «الولايات المتحدة» تعمل على إنجاز الثورة الصناعية الثانية. وعسكريًا حيث كان الغرب يسيطر على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.

وأما الثالث فهو التوفيقي/ القومي التي أخذت بذرته تنمو تدريجيًا في رحم الثقافة العربية، وبالذات في المرحلة التي يمكننا وصفها بـ «عصر التنوير المصري» ما بين عشرينيات، وأربعينيات القرن الماضي، كمحصلة لعملية نقدية مزدوجة الأوجه:

وجهها الأول بمنزلة فرز تاريخي بين توجهات التيار الإصلاحي الواسع الذي كان قد استوعب أطيافًا عقلانية شتى لم تكن لتستمر تحت مسمى «السلفي» ولكنها في الوقت نفسه كانت بعيدة عن الروح «التغريبية» بمسافة كبيرة لا تسمح أبدًا بانضوائها تحت وصف «العلموي» فكانت الأقرب إلى مفهوم «العقلانية العربية الإسلامية» على النحو الذي جسّده أمثال علي عبدالرازق ومنهجه التاريخي النقدي في الدراسات السياسية والذى ضمنه كتاب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1926، ومحمد حسين هيكل ودفاعه عن الفلسفة الإسلامية، وعباس العقاد بنزوعه إلى استلهام العبقرية الإسلامية والبطولة الفردية لإحياء الشخصية العربية المسلمة، ومصطفى عبدالرازق بدعوته إلى تجديد الفلسفة الإسلامية، وتوفيق الحكيم في محاولاته لاكتشاف الرموز البارزة في شخصيتنا الحضارية، خصوصًا في رؤيته التعادلية التي حاول عبرها التوفيق بين ثنائيات كالعقل والوجدان، والدين والعلم.

أما وجهها الثاني فيعكس رؤية توازنية جديدة للغرب الذي كان العرب، ضمن مرحلة التحرر القومى، قد بدأوا في التخلص من سيطرته الاستعمارية، ولكن من دون إهمال لحقائق قوته وتفوقه العلمي والتكنولوجي ومن ثم الاقتصادي، الأمر الذي مكنهم من تجاوز نرجسيته الثقافية، وإحالته إلى موضوع للدراسة والتحليل وأكسب الذات القومية مزيدا من الثقة والجسارة في البحث عن عقلانيتها المتميزة عن العقلانية الغربية والتي كان التيار العلموي مجرد صدى لها.

وهنا يمكن النظر إلى ميلاد ونمو التيار التوفيقي كوسط فكري بين السلفي والعلموي، كعملية موازية لنمو المجال القومي العربي كوسط جغرافي بين المجال الإسلامي، والمجال الوطني ليصبح الفضاء الأساسي لطروحات النهضة العربية. وإذا كان عبدالرحمن الكواكبي، هو رائد هذا الاتجاه، فإنه قد اكتمل مع القوميين العرب في سورية الكبرى، ثم في مصر حيث نمت مدرسة الشرق ومهدت لثورة يوليو وظاهرة جمال عبد الناصر الذي قاد بإصرار حقبة التحرر القومى العربي، فيما بين أربعينيات وستينيات القرن العشرين حتى توقفت مع هزيمة يونيو 1967 واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية مع الضفة وغزة وسيناء والجولان، حيث تعطل المسار التوحيدى الذي كان ينمو في الجغرافيا العربية على أكثر من صعيد، وتجمدت النزعة التوفيقية المنفتحة على الآخر والواثقة بذاتها بفعل المأزق الخانق الذي كسر الكبرياء القومي.

أفول تيار التحديث

وبالرغم من موجة المراجعات الكبرى في الثقافة العربية، والتي سعت عبر العديد من المجالات المعرفية تمتد ما بين الأدب، والفلسفة، مرورًا بالعلم الاجتماعي والسياسي والنظرية الثقافية، إلى نقد الذات ومحاولة تقديم تفسيرات للهزيمة الساحقة، فإن النزعة التوفيقية التي ارتبطت بحركة التحرر القومي، وأذكت تيار التحديث الاجتماعي، بدت مشرفة على الأفول سواء في مواجهة نزعة «تلفيقية» تخلط الاستنارة بالسلفية، أو هجمة أصولية تتنكر صراحة لمسار العقلانية العربية الإسلامية، وذلك في إطار موجة غضب عارم تم خلالها قراءة الهزيمة على عجل باعتبارها محصلة لخلل يكمن في ضعف همة وشجاعة «السلطات العربية»، ومن ثم فالحل كان بسيطًا جدًا ولا يتطلب بالضرورة هذه العمليات المعقدة من التحديث على منوال التطوير العلمى، والتحرر الثقافي، وواقعية الرؤية التاريخية، بل مجرد الانقلاب على المرجعية الفكرية «الهشة» واستبدالها بأخرى «صلبة» تثير الهمة لدى النخبة الحاكمة لمواجهة العدو بشجاعة أكبر وحماسة أعلى.

وبعد عقد واحد من الهزيمة كان الجدل الفكري والسياسي الأساسي قد تشكل على نحو استقطابي، وتم وضع كل قضايا الواقع العربي في ثنائيات متقابلة، بدءًا من القضايا ذات الطابع الثقافي كالنهضة والهوية والعلاقة مع الآخر، وصولاً إلى القضايا السياسية والاقتصادية العملية. ولأن المرجعية السلفية لم تستطع الانتصار على نقيضتها الحديثة ولكن المأزومة، واكتفت بلعب دور المعارضة النشطة والقوية من خارج الشرعية غالبًا، فقد تنامى انقسام المجتمعات العربية بين كتلتين شبه متعادلتين رمزيًا وعمليًا، وصولاً إلى تلك الحالة الفيزيائية نادرة الحدوث في المجتمعات الإنسانية، حيث التماثل في القوة، والتضاد الكامل في الاتجاه، إلى درجة تعوق تكوين «كتلة تاريخية عربية منسجمة»، قادرة على تجسيد دفق الحياة العربية. وهكذا أصبح المجتمع العربي المعاصر، بالرغم من تباينات طفيفة، فاقدًا ما يمكن تسميته «حس الاتجاه» التاريخي أمام جذرية الانقسام الثقافي، وكأننا نعيش في ظل ثقافتين!

في هذا السياق المتجمد أفلت العالم العربي من رياح التغيير التي اكتسحت التاريخ العالمى في موجات عدة، وأخرها تلك هبت بنهاية الحرب الباردة ونالت من الأنظمة الشمولية العقائدية في الشرق الأوربي، والتسلطية الفجة في غيرها من المناطق والبلدان. وهنا أخذ الكثيرون داخل العالم العربي، وخارجه يتحدثون عن الاستعصاء الديمقراطي العربي، أي استمرار العالم العربي خارج إطار التحول في التاريخ العالمي.

شرارة تكنولوجية

من قلب هذا الوضع التاريخي انطلقت ثورتا مصر وتونس من شرارة تكنولوجية، حيث تمكن جيل من الشباب، الأكثر وعيًا بما يجرى في العالم، وحرصًا على طلب الحرية، من تحقيق تكتل واسع فيما بينهم عبر الفضاء الإعلامي غير المحدود، ومن خلال أدوات التواصل الافتراضى المتاحة. وهكذا مثلت الثورتان نموذجًا مثاليًا لثورات «عصر ما بعد الحداثة»، تلك التي تفتقد القيادة الواضحة، كما تفتقد إيديولوجيا تحكمها، حيث خلت الثورتان مما يسمى في أدب الثورات الحديثة بـ«الأنتلجنسيا»، تلك الطبقة المثقفة المناضلة القادرة على نشر الوعي الثوري وقيادته وترشيده. كما خلت أيضًا من ذلك التنظيم الطليعي الحزبي/ النقابي/الإيديولوجي القادر على حشد الآخرين وتنظيمهم وصياغة أهدافهم، وعلى تسلم السلطة حال نجاح الثورة كما كان البلاشفة - مثلا - إبان الثورة الشيوعية.

ويمكن تعليل نجاح هذه الثورات أو تفسيره على الرغم من ذلك الضعف البنيوى تفسيرًا يستند إلى النظرية الثقافية لـ«ما بعد الحداثة»، تلك التي تنفي مطلقات الحداثة، وعلى رأسها مركزية الذات الفردية التي تعكس مفهوم القيادة على شتى الأصعدة. كان رولان بارت أحد أكبر منظري ما بعد الحداثة قد قال بـ«موت المؤلف» قاصدًا ذات «المبدع» الفكري ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي للمجتمع، لحساب أولوية «المتلقي» حيث يموت المؤلف أو يذبل ويعيش القارئ أو يزدهر. ولعل الأمر نفسه ينطبق على مبدع الحدث الثوري أو الطبقة الثورية التي تخلت في السياق «المصرى - التونسي» عن دورها لصالح الجماهير التي تحولت إلى إنتلجنسيا واسعة وحاضن مباشر للقيم الثورية.

لقد ساهمت تلك السمات ما بعد الحداثية في نجاح الثورتين خصوصا المصرية مبدئيًا، حيث هبت العاصفة من داخل العالم الافتراضي على نظام سياسي متجمد لم يتوقعها، ولم يحسب لها حسابًا جادًا، فإذا بها تهزمه وتكشف عجزه أمام قوة هلامية/ زئبقية، تفر من بين يديه، فلا رأس لها يستطيع الوصول إليه سواء لقمعه أو لمفاوضته أو حتى لمساومته. غير أنها سرعان ما تحولت إلى عبء عليها تبدى في بطء حركتها، ذلك أن الأفكار، مهما كانت جاذبيتها، لا تستطيع سوى أن تلهم وتحفز ولكنها لا تستطيع أن تحكم وأن تبني نظامًا جديدًا يظل بحاجة إلى قيادة مباشرة في عالم واقعي وليس افتراضيًا. وربما لهذا السبب تعاني مصر الآن وبحق من «ديكتاتورية الجماهير» حيث تخضع الحكومة المؤقتة لحركة الجماهير الواسعة، التي تعتقد كلها أنها صاحبة الثورة، وتطرح عليها مطالبها المتعددة، والمتناقضة أحيانًا، بإصرار كبير وثقة أكبر لأن الحكم على تلك المطالب ومدى مشروعيتها ليس القيادة المركزية ولا الحكومة القائمة بل الجماهير نفسها. والمهم في هذا السياق هو أن الناس أرادوا مع تحقيق مطالبهم أن يختاروا من يحققها لهم والطريقة التي تتحقق بها، الأمر الذي يخلق العديد من الصعوبات ويثير الكثير من المخاوف إزاء مرحلة الانتقال الصعب إلى الدولة الديمقراطية.

لكن وعلى الرغم من جل هذه الصعوبات، يمكن القول بأن «الربيع العربي» يمثل لحظة تاريخية تجسد فارقة ومفارقة معا: فارقة لكونها شهدت بداية تجاوز انسدادات المشروع النهضوي العربي الذي طالما توسل التصالح مع الحداثة، ولكن توالت عثراته على مدى القرنين الماضيين، حتى وصلت إلى مستوى الاستعصاء الكامل منذ العقدين على الأقل. ومفارقة لكونها سلكت طريقًا تاريخيًا التفافيًا يتوسل أدوات الثورة التكنولوجية الثالثة، ومفاهيمها ما بعد الحداثة، وليس أدوات ومفاهيم الحداثة.
----------------------------------
* كاتب من مصر.

--------------------------------------

وتَضْحَكينَ، فأبْكي
طَلاقَةً وقُطُوبَا
ألْقيْتِ ما بينَ طَرْفي
وبَينَ قَلْبي حُرُوبا
بَينَ الجوانِحِ نارٌ
تدعو الغزالَ الرّبيبا
فلا يرُدُّ جوابي
ولا يُحلُّ قريبا

أبو نواس

 

صلاح سالم*