رسالة من نهر العاصي إلى شاعره الصغير سليمان العيسى

رسالة من نهر العاصي إلى شاعره الصغير

شعر

يا شاعري الصغيرْ...
أنتَ كبِرْتَ...وأنا كبِرتْ
لكنني سأكتُبُ الرسالةَ القصيرَةُ
غمغمةٌ قصيرة...
إليكَ...من حارتَكَ الصغيرَةُ
ومن جِوارِ بيتِكَ القَرميدْ
لقدْ تحدثتَ طويلاً...قيل لي...
عن بيتِكَ القَرميدْ
وعن (بساتينكَ) (1) وهي بُقَعٌ خضراءْ
أعبُرُها - ولم أَزَلْ -...
أشقُّ هذي البُقَعَ الخضراءُ
بما تَبقّى من مياهي النَّزْرةِ اليسيرةْ
يا شاعري...
لم يبقَ مني للبساتينِ سوى غرغرةٍ يسيرَةْ

***

إني أنا النهرُ الذي ضمّكَ طفلاً
في ذراعَيْهِ الوديعتينْ
كنتَ صغيرًا...حينَ علَّمتُكَ
ما بين ذراعيَّ الرّقيقتينْ
كيف تشقُّ مائي المنسابْ
من ضفةٍ...لضفةٍ...ترِفُّ كالعُصفورْ
تعبُرُ صدرَ مائيَ المنسابْ
منتشيًا بالفوز في الدقائقِ القليلةِ
وفي ظلالِ تينةٍ, أو توتةٍ, في الضفَّة الظليلَةْ
تكتبُ لي قصيدةٌ جميلةٌ...جميلةٌ...
يكتُبها طفلي الصغيرُ...وأغنّيها معَهْ
آهٍ...لكَمْ كنتُ أحبُّ...
ما يخطُّه شاعريَ الصغيرُ في دفتره...
وأشْتهي أن أسمعَهْ!

***

أنتَ كبِرْتَ...وأنا كبِرتْ
لم يبقَ مني غيرُ ذكرياتْ
من الشبابِ الناضرِ البهيجْ
عابقةً...بأطيب الأريجْ
(دوَّاريَ) القديم غاضَ...والصَّفْصافةُ المُجنَّحةْ
كم ظلَّلتْكَ...أيها الطفْلُ الذي فارقَنا وغابْ
في لُجج الضِّياعِ والعذابْ
كم دَلَّلتْ شاعرهَا صَفْصافتي المجنَّحةْ
شاعِرَها الطفلَ الذي غنَّى لنَا
في لُجج الغيابْ...
أجملَ ما غناه قيثارٌ....وما دَنْدَنَهُ ربابْ

***

أنتَ كبِرْتَ...وأنا كبِرْتْ
كادت نَواعيري التي تصدحُ في حَماهْ
تعرفُها...قصائدي البِكْر التي تعزِفُ في حَماهْ
أنشودةَ الدهرِ السحيق...
قيل لي, قد أوشكتْ تنهارْ
يكِفُّ عن غنائِه نشيدُها الجبَّارْ
أكادُ أَبكي ببقايا الدَّمعِ...
إذْ تُلْقَى إليَّ هذه الأَخبارْ

***

أنا الذي أعطيتُ روما
ذروةَ الفتنةِ والبهاءْ
جعلتُها يومًا...تدقُّ جبهةَ السماءْ
بقبضتي...تركتُ ماءَ (التيبرِ) الجميلْ
يصبُّ فيَّ...
وأنا أنسابُ حتى بيتكَ الجميلْ
في الحارة الصغيرةِ...المُلقاةِ في الشمالْ
على ذراعيَّ...
أنا الجَنوبُ والشمالْ
أَنسى الحضاراتِ التي أبدعَها الخيالْ
سقيتُها أنا...
حرستَها أنا...
وعدتُ ذكرى يا صغيري حلوةَ الأَثَرْ
يحملُها التاريخُ...
مثلُ كلّ ما يحمِلُ من عِبَرْ

***

دعني بقيثارك...يا طفلي القديم
رنةً...لحنًا على الوَتَرْ
أحلَى عزاءٍ لي نشيدٌ عاشقٌ
لحنٌ على وَتَرْ...

 

سليمان العيسى