الجائزة سيارة مكيّفة بسمة الخطيب

الجائزة سيارة مكيّفة

تجمع الشابة الأوراق وتدفعها بأصابع مرتبكة في المغلف الأبيض. تمرّر لسانها فوق مثلثه قبل أن تطبقه وترميه في صندوق البريد الأصفر.

تتابع سيرها إلى (السنترال), منخفضة البصر, تعدّ بلاطات الرصيف الرمادية, لم تعد تبتهل وتتمنى أن تفوز في المسابقة كما في السابق. لم تعد تعد نفسها بشيء, فقط تمضي من دون آمال إلى (السنترال).

بملامح متأفّفة تستقبل الزبائن الذين لا يستطيعون كبت شوقهم إلى أقاربهم المغتربين, أو كبت استعجالهم لمعرفة أخبار عقود العمل, ويعجبها أن تقرأ حيرتهم على ملامحهم وهم يشاهدون الصور التي ألصقتها على الحائط خلفها, بعد أن اقتطعتها من الصحف, والتي لا يمكن أن تعني لهم شيئًا.

تسجّل الأرقام وتنقرها على الجهاز أمامها, وتمدّ السمّاعة إلى الزبون قائلة: (معك الكويت. أو معك كندا....).

في تلك الغرفة الضيّقة كان يمكنها أن تذهب إلى جميع بلدان العالم عبر بضعة أسلاك وأجهزة. آثارها الأمر في بداية عملها, ولكن وجودها فيها على مدى سنوات لم يعد يثير فيها إلا النقمة, شيء واحد يستطيع أن يحمّسها للمجيء إلى العمل, أن تمتلك سيارة ترحمها من (بهدلة) المواصلات.

لاشكّ أن قسيمتها الأخيرة قد وصلت الآن, وقد يكون السحب جاريا, والأنظار متعلقة بيد المقترع الأنيق, الذي سيختار من بين آلاف القسائم قسيمة واحدة.

تقرأ إعلانا عن مسابقة من إحدى الصحف التي تشتريها بشكل متقطّع.

تنظر مليّا إلى الجائزة: سيارة موديل السنة, فضية اللون, وأهمّ من كل هذا أنّها مكيّفة, لاتختلف عن السيارات الأخرى المقدّمة من مؤسسات مختلفة إلا باللون, السيارة التي قدّمتها شركة الأجبان كانت حمراء, والتي قدّمتها شركة المشروبات الغازية كانت سوداء...فرق ألوان!

عليها الآن أن تشتري يوميًا الصحيفة, وتقطع (كوبون) المسابقة كي تشارك في السحب, وتربح الجائزة.

ترفع صوت التلفزيون كي تسمع اسم الفائز بإحدى المسابقات, خلال دقائق سيعلن الاسم, وكلما تناقصت الدقائق زادت رجفة أصابعها, حتى أنها لم تعد قادرة على نقر أرقام الهاتف.

خلال ثواني التوتر هذه يمرّ حلم عاملة السنترال بسرعة خاطفة أمامها, ترى نفسها تأتي إلى هذه المدينة الملتهبة بشكل غير منطقي, بكرامتها الجسدية والنفسية, بمسام نظيفة وشعر مرتب, من دون مناديل الورق التي تبلى بين أصابعها, وهي تحاول التقاط العرق فوق جبينها وذقنها وفوق شفتها العليا.

تعلن المذيعة الحسناء الاسم الثلاثي للفائز. تهدأ رجفة الأصابع, وتخبو الآمال التي اتقدت.

عصرًا, تغادر العاصمة إلى بلدتها, تكون شمس يوليو قد أشبعت الأرصفة وحديد السيارات بنارها. تجلس في مقعد التاكسي الخلفي الساخن, وتبدأ بإخراج المناديل الورقية.

(لماذا على العاصمة أن تكون جحيمًا? ولماذا على السيارات المكيّفة أن تذهب لرابح سواي?) تسأل نفسها وهي تحصي السيارات المقفلة النوافذ التي تعبر الشارع, وتحديدًا تلك التي تقودها السيدات والآنسات المنتعشات النظيفات المسام.

في سيارة الأجرة كانت روائح مقرفة تنبعث من أحد الركاب, تخيّلت الشابة بصلتين تحت إبطيه. أخرجت رأسها من الشبّاك بحثًا عن هواء نظيف ولكن عبثًا. عادت تعيش الذلّ ذاته الذي يهزمها كلما اقلتها سيّارات الأجرة, وترافقت مع مَن لا يتوقفون عن التدخين حتى في أيام الشتاء, عندما يتعذّر فتح الشباك, أو مع هواة حك الجلد الذين يثيرون جنون معدتها.

عند مستديرة (الكولا), حيث تتناحر عربات النقل والفانات والسيارات والحافلات الضخمة, وحيث يهجم نحوها فتيان ورجال مرتدين أسماء مدن ومحافظات: (صيدا صور النبطية, شتورا بعلبك, شتورا بعلبك...) تنجو منهم بأعجوبة, وتتجه إلى الباص الكبير مشرفة على البكاء. تقف وسط زحمة الأجساد المتعرّقة, وبحلقة العيون الوقحة, ودخان السجائر البخسة وسعال الحناجر المنهكة..يحدّثها قلبها البريء أن الله يشفق على دموعها الآن, وأنه غدًا سيدفع بقسيمتها إلى يد المقترع, بقدرته الإلهية.

تنزل من الباص عند مفرق ضيعتها, وتنتظر سيارة تقلّها. عند هذا المفرق, كانت دائمًا تتساءل لماذا لم يزرع أحد شجرة ما تستظل بها أثناء وقوفها الذي يمتدّ نصف ساعة أو أكثر?

تتخيّل المقترع الأنيق يختار مغلّفا, ويُعلن اسم الفائز بالسيارة المكيّفة, تردّد اسمها الثلاثي بلا توقف. تتعب من تكرار اسم لا معنى له, فتدندن أغنية ما. تبقى تردّد وتغني إلى أن تقرأ اسم الفائز في الصباح التالي في إحدى الصحف, أو تسمعه من مذيعة حسناء أخرى.

تقطع صورة الرجل الستيني الذي يبتسم وهو يتسلم مفاتيح السيارة التي فاز بها من المقترع الأنيق, وتلصقها على الحائط الذي خلفها إلى جانب صور الفائزين الآخرين. ثم تدير ظهرها للصور وتتابع نقر الأرقام وإحصاء الدقائق. ويبقى صندوق أصفر ما ينتظر بلامبالاة عند رصيف ما, قرب باص مزدحم ما, ومقترع أنيق ما... في مدينة قاسية.

 

بسمة الخطيب