بين طه حسين وإيزادورا: قصة حب مجهولة عبده جبير

بين طه حسين وإيزادورا: قصة حب مجهولة

قصة حب عبر الزمان بين ذلك الكفيف البصير وأحد أطياف التاريخ.

ما بين الثالث عشر من يونيو عام 1950م والسادس والعشرين من يونيو عام 1952م تولى طه حسين مسئولية وزارة المعارف العمومية في وزارة حزب الوفد الأخيرة التي انتهت في ذلك اليوم المشئوم بحريق القاهرة الشهير.

في يوم من أيام وزارته هذه أطلق طه حسين صيحته الشهيرة: التعليم حق لكل مواطن كالماء والهواء.

في هذا اليوم وقع المصريون في غرام هذا الكاتب كفيف البصر ذي البصيرة, وكان ضمن هؤلاء سامي جبرة مدير مصلحة الآثار التابعة لوزارة المعارف.

وفي يوم آخر من أيام وزارته نفسها جرت وقائع هذه القصة التي تضم بين جوانحها قصة أخرى غير قصة الحب والغرام بينه وبين الأميرة الشابة الجميلة إيزادورا المذكورة هنا في العنوان عاليه, هي قصة غرام وتضحية إيزادورا نفسها.

كما أن هناك قصة كاتب هذه السطور معها ومع طه حسين الذي رأينا له وجها آخر لم أكن أعرفه عنه: وجه إنسان حضاري إلى أكبر حد, رقيق إلى أقصى درجة (على الرغم من الهمز واللمز الذي لمحناه بين سطور مذكرات زوجته سوزان).

نحن إذن أمام عدة قصص متداخلة ومركبة, يمكن تفكيكها في السرد التالي:

هنا قصة اكتشاف مقبرة صغيرة في منطقة تونة الجبل, جرى (هذا الاكتشاف) في يوم ما من أيام وزارته, وكانت مصلحة الآثار تابعة لوزارة المعارف التي كان هو على رأسها, وكان سامي جبرة عالم الآثار هو رئيس هيئة الآثار المباشر.

ليس عندي أي معلومات (علمية) عن قصة الاكتشاف هذه التي أرويها من الذاكرة, عبر حارس المكان الذي سردها لي بطريقة بدائية, قد تتداخل فيها الأساطير, مع الوقائع, لكنني أرويها, بعد مرور ما يقرب من ربع قرن.

الأثر والمكان

ففي عام 1978 من القرن الماضي, قررت وصديقي, الكاتب المسرحي والقصصي الراحل إسماعيل العادلي, الذي كان عاشقا من طراز فريد لتاريخ مصر وآثارها, أن نقوم بما أسميناه وقتها (رحلة العمر) لاكتشاف, وإعادة اكتشاف (الأثر والمكان), في طول مصر وعرضها, أعددنا للرحلة قبلها بعام كامل.

اقتطعنا مبلغا شهريا من دخلنا (المتواضع) خصصناه للرحلة الموعودة, كما جمعنا المراجع والموسوعات والكتب, وبدأنا في القراءة والدرس, وإعادة القراءة والدرس في جلسات ممتدة عبر هذا العام الكامل.

تفرغنا لمدة ستة أشهر للقيام بالرحلة نفسها التي قضينا منها شهرين تقريبا في قراءة (الأثر والمكان) في القاهرة والجيزة (دعنا من التفاصيل الآن).

ثم رحلنا إلى المنيا, ذهبنا إلى تل العمارنة والتقينا إخناتون وقصته الأسطورية هناك, ثم ذهبنا إلى بني حسن, مرورا بطريق يؤدي إلى مغاغة, قرية طه حسين, ثم ذهبنا جنوب المنيا بمسافة حوالي أربعين كيلومترا حيث تونة الجبل التي تقع بالصحراء الغربية جنوب غرب الأشمونين, وهناك شاهدنا مدافن على هيئة أنفاق ممتدة تحت الأرض هي مدافن (أبيس) الطائر المقدس للمعبود (توت), وهناك في صخور الجبل من غرب الجبانة شاهدان من شواهد الحدود التي أقامها (أخناتون) لتحديد حرم عاصمته (أخت. آتون).

هناك بالقرب من مدفن الطائر المقدس (أبيس) مقبرة صغيرة تلفت النظر لكونها في حالة ممتازة, إلى درجة يخيل لك معها أنها بنيت من وقت قريب, تصعد إليها بدرجات قليلة ثم تدخل فتجد تابوتا حجريا تتمدد بداخله مومياء فتاة طويلة (على خلاف طول الفتاة المصرية) لها شعر طويل أيضا, ومن ملامحها يمكنك أن تقول إنها كانت فاتنة الجمال.

هذه هي إيزادورا التي قال لنا حارس المكان ـ ومعلوماته دائما خليط من الحقائق والأساطير القديمة المختلطة بأساطير حديثة نسجتها أخيلة الناس الذين يعيشون في القرى والأنحاء المجاورة ـ قال (وهنا تفصيل أسطوري ربما):

- إيزادورا هذه أميرة من أميرات العصر البطلمي أحبت شابا من عامة الشعب, ذهبت للقائه ذات يوم عابرة بحر يوسف (ترعة متفرعة من النيل مرتبطة بقصة سيدنا يوسف الذي يقال إنه هو الذي حفرها).

لم يقل الحارس شيئا عن الطريقة التي ذهبت بها إيزادورا للقاء الحبيب (سباحة أو بالمركب) الذي كان يقف متخفيا بين الأشجار في الجهة الأخرى من الماء.

لكنها, إيزادورا, غرقت.

ويمكنك هنا أن تتخيل بقية القصة الدرامية.

لا بد أن الحبيب قفز وراءها محاولا إنقاذها, ولابد أنه وهو يصارع تدفق الماء المنهمر, أخذ يصرخ طالبا النجدة, ولا بد أن الأهالي خرجوا من حقولهم مسرعين في اتجاه الصوت, وأن كثيرين منهم قفزوا وراء إيزادورا لإنقاذها, لكن النهر المتدفق أخذها معه, هي تسبح في الأسفل متدفقة مع الماء, والناس يسبحون للحاق بها, حتى قذفت بها المياه على الشاطئ, فحملوها جثة هامدة.

كيف تلقى أهلها (الخبر) وهي الأميرة الشابة الجميلة?! وماذا فعلوا بالحبيب الولهان?! وهو ابن الشعب البسيط الذي أضحى مفجوعا بفقدانها?

ماذا كان رأي الكهنة? وماذا قالوا?

المعروف أن الكهنة هم الذين كانوا يقومون بعمليات التحنيط كما تقول الكتب, فهل الكهنة أنفسهم هم من قاموا بتحنيط جثة إيزادورا على الرغم من أنها ماتت أثناء ذهابها (وربما عودتها) للقاء الحبيب?

لكن ما يهم أن أهلها حنطوها ووضعوها في هذا التابوت, والأهم, يقول الحارس وهو يشير للرسوم الواضحة على جدران المقبرة, أنهم, أهلها, رسموا قصتها, هذه التي يرويها لنا شفاهة, على الجدران.

أذكر أنني شاهدت على وجه هذا الحارس الصعيدي علامات قرف من هؤلاء الذين ارتضوا لأنفسهم أن يسجلوا هذه القصة, قصة التضحية في سبيل الحب على جدران معبد المحبة, لأنه لا يدرك معنى هذا السلوك الحضاري, ما يؤكد على الانقطاع الثقافي والحضاري ما بين هذا الحارس وأجداده.

بجوار مقبرة إيزادورا يلفت النظر بناء غريب على الطراز الأوربي مصنوع من الخشب على هيئة فيلا صغيرة يسميها الناس استراحة الآثار, حيث كانت في وقت زيارتنا مخصصة لمفتشي وموظفي هيئة الآثار, الذين حولوها إلى مكان بائس, قذر, شبه محطم, لا لون له, في الوقت الذي يوحي فيه بأنه كان مبنى جميلا ومناسبا للمكان.

وردة حمراء

وتعرف أن هذا المبنى أقامه سامي جبرة ليكون فعلا استراحة للعاملين في حقل الاكتشافات الأثرية, لكن حين تولى طه حسين وزارة المعارف, وجاء لزيارة مقبرة إيزادورا, وقع في حبها وأبدى رغبته في القرب منها, فما كان من سامي جبرة إلا أن خصص الاستراحة لطه حسين.

وتقول الرواية إن طه حسين دأب على المجيء والبقاء مدة شهر كامل في الشتاء, وكان, لا فض فوه وهلك حاسدوه, يطلب من القائمين على تدبير أموره, وهو الكاتب العلم, والوزير المسئول, إحضار وردة بلدي (روز) حمراء اللون كل صباح, كان يحملها في يده, ويذهب ليضعها على قبر إيزادورا, ولابد أن قلبه كان ينبض بالحب والتقدير للمحبة التي ضحت بحياتها حتى تلتقي الحبيب.

ليصدقني القارئ أنني لم أتمالك نفسي حين وصل الراوية إلى هذه النقطة من القصة فانفجرت في بكاء (صفه بالطفولي إن شئت) استمر وقتا طويلا لم أتمالك نفسي خلاله عن الانتفاض الذي رج كياني, ولم أستطع التوقف عن البكاء حتى حملوني إلى السيارة وأصبحنا في البعيد.

ولا أظن أن بكائي كان على غرق إيزادورا, ولا أنني توحدت مع العاشق الولهان ابن الشعب الذي فقد الأميرة الجميلة إلى الأبد, ففقدتها معه, لا أظن ذلك, لكنني أظن أنني بكيت حين وصلت القصة إلى ما كان يقوم به طه حسين من هذه الحركة الرائعة من سمفونية السلوك الحضاري التي سمعت أنغامها يتردد صداها في الصحراء الممتدة, وأتصور يده وهي تضع الوردة على القبر, وهو الكفيف البصير.

ومنذ ذلك اليوم لم يعد طه حسين, بالنسبة لي ذلك الكاتب الشهير, ولا عميد الأدب العربي, ولا الوزير الذي كان المنصب بالنسبة له مسئولية تقتضي منه العمل ليل نهار, ليبني القيم الثقافية قبل الصروح الثقافية, وهو كان يصارع كثيرا من خفافيش الظلام, قبل الوزارة, وبعدها, وحتى بعد مماته.

لكنه أضحى هذا الإنسان الحضاري الذي نفتقده في هذا الزمن الكئيب.

وحركة حضارية مثل هذه لا يمكن لصاحبها أن يموت.

 

عبده جبير