الكناية: تلميحٌ يرتبط بالعرف الاجتماعي جليل العطية

الكناية: تلميحٌ يرتبط بالعرف الاجتماعي

في رحلة لغوية داخل بطون الكتب يمضي الكاتب قارئا لسيرة التلميح اللغوي, الكناية, في الأدب والمجتمع.

قال تعالى: وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون.

فسرّ (أبو الحسن الواحدي) هذه الآية قائلاً: يولوكم الأدبار, كناية عن انهزامهم, لأن المنهزم يحوّل ظهره إلى جهة الطالب, هربا إلى ملجأ وموئل يئل إليه, خوفًا على نفسه, والطالب في إثره.

وقال - جلّت قدرته: واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء .

قال (الطبري) مفسرًا إنها كناية عن البَرَص.

وروي في الحديث الشريف قوله - صلى الله عليه وسلم: مَنْ تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنّوا .

ومنه يتبين أن الكناية تعني العدول عن لفظ إلى آخر دال عليه, وأن الناس كانوا قد اعتادوا أن يكنّوا, أو يعدلوا عمّا لا يليق ذِكره, إلى ما يليق.

وفي (لسان العرب): الكناية أن تتكلم بشيء وتريد به غيره, وكنّى عن الأمر بغيره, يكني كناية, يعني: إذا تكلّم بغيره مما يستدل به عليه, نحو الرفث والغائط وغيره.

ومن الكنى ما قد طغت على أسماء أصحابها كأبي بكر وأبي ذر وأبي عبيدة وأبي الفرج.

فالكنى والأسماء كالمترادفات في الدلالة على أصحابها.

كناية الجاحظ

وتحدّث (الجاحظ) عن الكناية في عدد من مؤلفاته, أبدى ملاحظات صائبة فيها, وفي الدوافع التي تدفع إليها فقال:

(والرزق اسم جامع لجميع الحاجات, وقد يستعمل الناس الكناية, وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة, يريدون أن يظهروا المعنى بألين اللفظ, إما تنزهًا, وإما تفضلا, كما سمّوا المعزول عن ولايته مصروفًا, والمنهزم عن عدوه منحازًا. نعم حتى سمّى بعضهم البخيل مقتصدا ومصلحًا, وسمّي عامل الخَراج المتعدي بحق السلطان مستعصيًا).

وقال (ومن البرهان الأشراف من الملوك (جُذيمة بن مالك) صاحب الزباء وقصير, وكان يقال له (جُذيمة الأبرص), فلما ملك قالوا الكناية: جذيمة الأبرش. فلما عظم شأنه قالوا: جذيمة الوضاح, ولم يقولوا: جذيمة الأوضح, لأنهم يضعون هذا الاسم في موضع الكناية عن (الأبرص) وذلك كثير, وليس في الأرض أبرص يقال له الوضاح غير جذيمة, ومن يقال له الأوضح كثير, والكناية إذا طال استعمالهم لها صارت كالأوضاح.

والعرب تقول: (أخي وأخوك أينا أبطش) يريدون: أنا وأنت نصطرع, فننظر أينا أشدّ? فيكني عن نفسه بأخيه, لأن أخاه كنفسه.

والكناية تقع على ثلاثة أضرب:

الأول: التعمية والتغطية.

الثاني: الرغبة عن اللفظ المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره.

فيقال في قضاء الحاجة (جاء فلان من الغائط) والغائط: الوادي.

الثالث: التفخيم والتعظيم ومنه اشتق (الكنية) وهو أن يعظم الرجل أن يدعى باسمه.

وعدّ (ابن المعتز) الكناية والتعريض من محاسن الكلام والشعر.

ولما ولي الخليفة (الواثق) واقعد للناس (أحمد بن أبي داود) للمحنة في القرآن, ودعا إليه الفقهاء, أُتي فيهم بالحارث بن مسكين - فقيل له: اشهد أن القرآن مخلوق!

قال: أشهد أن التوراة, والإنجيل, والزبور, والقرآن - هذه الأربعة مخلوقة, ومدّ أصابعه الأربعة.

فعرض بها وكنى عن خلق القرآن, وخلّص مهجته من القتل, وعجز (أحمد بن نصر) - فقيه بغداد - عن الكناية فأباها فقُتل وصُلب.

ودخل رجل على (عيسى بن موسى) - وهو أمير عباسي - وعنده (ابن شبرمة) فقال له: أتعرف هذا الرجل? - وكان قد رُمي بتهمة - فقال: إن له بيتًا, وقدمًا, وشرفًا, فخلّى سبيله.

فلما انصرف (ابن شبرمة) قال له أصحابه: أكنت تعرف هذا الرجل? قال: لا, ولكني عرفت أن له بيتًا يأوي إليه, وقدما يمشي عليها. وشرفه: أذناه ومنكباه!

ألعاب اللغة!

وشاور بعضهم رجلا من ثقاته في امرأة يتزوجها فقال: لا خير لك فيها, وإني رأيت رجلا يقبّلها, فتركه, وخالفه إليها فتزوجها, فلما بلغ صاحب الاستفسار خبره أرسل إليه, وقال له: أما قلت لي إنك رأيت رجلاً يقّبلها? قال: نعم رأيت أباها يقبّلها! وهكذا خلط بين الكناية والتورية.

وخصص (الرامهرمزي) بابين للكناية في كتابه (أمثال الحديث) أولهما للكنايات بلا تقييد أو تخصيص, وثانيهما للكنايات المفسرة, فأورد في الأول قوله - صلوات الله عليه - من شقّ عصا المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وانتهى في تفسيره إلى القول (ولا قلادة هناك, إنما هو على التمثيل.. وهذا من الكناية التي قد يدل ظاهرها على موقع المراد منها).

يكني العرب عن الأعمى بالبصير, واللديغ بالسليم.

وعن الأعور بالممتع وعن الذي في عينيه نكتة بياض بالكوكبي, وعمّن بوجهه أثر بالمشطب.

وكنّى (عوف بن محلِّم), عن الصمم بقوله:

إن الثمانين - وبلّغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان


ويوصف البخيل بالمقتصد ويقال: فلان نظيف المطبخ! وفلان نقّي القِدر!

قال الشاعر:

بيضُ المطابخ لا تشكو إماؤهمُ طبخ القدور ولا غسل المناديل!


وقالت أعرابية لبعض الخلفاء:

أشكو إليك قِلة الجرذان!

فقال: ما أحسن هذه الكناية! لأكثرن جرذانك وأمر لها بطعام كثير ومال.

وللأخلاق المذمومة كنايات كثيرة, منها:

إذا كان الرجل جاهلا قيل: فلان من المستريحين, لقولهم:

استراح مَنْ لا عقل له!

فإذا كان أحمق قالوا: نعته لا ينصرف.

أما إذا كان فضوليًا داخلاً فيما لا يعنيه قالوا:

هو وصي آدم!

ومن كناياتهم عن الكذاب:

فلان يلطم عين (مهران).

ومهران: رجل يضرب به المثل في الكذب.

وقيل لأبي بكر الخوارزمي:

شعر فلان كالماء! قال:

نعم, ولكنه كماء البئر في الصيف!

وسئل تاجر عن حال السوق فقال:

سوق الجِنة!

أي: لا بيع فيه ولا شراء!

من أطراف الطرافة!

وثمة كنايات طريفة تخصّ المرض والشيب والموت, منها قولهم:

جمشه الزمان.

وهو من قول (المتنبي) لسيف الدولة:

يجمشك الزمان هوى وحبّا وقد يؤذي من المقة الحبيب


والتجميش: المداعبة.

ويقولون لمن يحتضر: قد اختلف إليه رسل (أبي يحيى).

وأبو يحيى: كنية ملك الموت!

وعن الشيخوخة والهرم يقولون:

- فلان شمس العصر على القصر.

- قد صحب الأيام الخالية.

- قد بلغ ساحل الحياة.

وتقول العرب (فلان بيضة البلد) عن العزيز وعن الذليل.

ويقال (كان ذلك بيضة الديك) للشيء يكون مرة واحدة, ثم لا يتبعها.

قال (بشار بن برد):

قد زرتنا زورة في الدهر واحدة ثني ولا تجعليها بيضة الديك


ووعد (الأعمش) إنسانًا حاجة فأخلفه, فلما جاءه قال:

مرحبًا يا أبا المنذر!

قيل له: ما هذه كنيته? قال:

قد علمت, ولكن كنيته بكنية (مسيلمة الكذاب)!

ويقال للرجل الشديد في الحاجة:

هو حرف لا يقرأ, ومعناه هو صعب السبكة.

وتقول العرب في الكناية عن الجائع: تحرك شجاع بطنه.

ونظرت امرأة إلى شعرة بيضاء في رأس زوجها فقالت: ما هذا?

قال: رغوة الشباب!

 

جليل العطية