قصة X صفحة (الغُزاة) نُهى الدرويش

قصة X صفحة (الغُزاة)

إنهم ينتشرون في كل مكان... لا أحد يعرف من أين جاءوا, ولا من يتذكر متى بدأت أولى خطواتهم وسط البشر, العلماء ادّعوا أنهم زوّار قسريون من كوكب آخر, ورجال الأديان يقولون إنهم من فصيلة الجن والشياطين, المتفلسفون يعتقدون أنهم آثام البشر تجسدت أخيرًا في أشكال كائنات حية, ولكن الجميع الذين لم يعترفوا بيأسهم وفشلهم في تفسير ظاهرة وجود هؤلاء بينهم, أقرّوا بأنه لا نفع ولا ضرر منهم, فهم يتجولون في كل مكان وفي كل الأوقات, لا ينامون ولا يأكلون ولا يتكلمون, فقط يسيرون كالبهائم في الأسواق والشوارع, ولا يعرف أحد كيف يبيضون بيوضهم السود ليلاً في بيوت الناس والتي سرعان ما تفقس في الصباح عن أعداد مضاعفة, ورغم هذا, فسرعان ما اعتاد عليهم الجميع واعتبروا وجودهم من المسلمات اليومية في حياتهم.

وبالرغم من هذا كانت هناك محاولات عبثية عدة من قبل البعض بالاعتداء عليهم بإطلاق الرصاص أو الطعن بالسكين....إلخ, ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل, فلم تفلح أي طريقة من طرق القتل البيولوجي في القضاء على أحدهم, كما أن تلك المحاولات لم تكن تحمل في جوهرها نية الخلاص منهم, وإنما فقط من أجل إشباع الفضول أو طلبًا للريادة والأولوية في إنجاز شيء ما. أحد الشعراء أطلق عليهم لقب (الغزاة) لكنه اختفى في اليوم التالي ولم يتساءل أحد عن سبب اختفائه أو كيفيته. هكذا اعتاد الناس أن يروهم في كل مكان يتجولون بين موائد الطعام وصالات الرقص ومكاتب العمل وغرف النوم, حتى في استديوهات التصوير التلفازي كثيرًا ما كانوا يمرون من أمام المذيعة ومن خلفها دون أن يؤثر وجودهم على أدائها أو مشاهدة الجمهور لها, ومع مرور السنوات أصبحت صورهم تطبع على أغلفة المجلات والكتب وحلوى الأطفال وقمصان المراهقين والعملات النقدية, وترسم على الجدران وفوق واجهات المحلات التجارية, حتى بيوت الناس صارت تصمم بشكل يستوعب ويسمح بمرورهم أحرارًا, لذا انتفت الحاجة إلى الأبواب والشبابيك رغم زيادة معدلات السرقة, وأصبحت أسماؤهم تتصدّر كل الأسماء, واشتقت منها أسماء أخرى وأفعال وحروف فاندرست اللغة القديمة وسادت مكانها لغة جديدة, وما عاد البشر يذكرون شيئًا عن ماضيهم أو تاريخهم, فكل شيء أصبح مقرونًا بهم, حتى لقد تراجع البعض عن معتقداتهم القديمة, وعدوهم آلهة, فعمدوا إلى التبرّك بهم كلما مرّوا من أمام أحدهم. وما من أحد كان يجرؤ على السؤال: لماذا صار الأطفال الجدد يشبهونهم? ولم يدهشوا عندما كبر الأطفال وصاروا يتجولون في كل مكان لا يعملون ولا يتكلمون, فقط يسيرون ويأكلون كالبهائم في الأسواق والشوارع وفي كل مكان, غير أن أحد الكهول الطاعنين في السن ذكر يومًا قصة الشاعر المفقود وكيف أطلق عليهم اسم (الغزاة), حينذاك بدأت الأحداق تتسع والنظرات تتساءل: لماذا...وكيف...وإلى أين? وصار الرجال يشكّون في ربوبيتهم, وصارت الأمهات خانعات تخفي عيونهن سر الخنوع, وهكذا فقدت صورهم رونقها, وفقدت أسماؤهم أزيزها. فجأة استيقظ الناس ذات صباح ليفاجأوا برحيلهم دون سابق إنذار, غير أنهم قد تركوا عند رحيلهم بيضة بلورية واحدة سوداء في كل بيت تغط في سبات عميق. قال الحكماء إنها ستفقس عندما يتقبلها ويؤمن بها من في البيت, ومنذ ذلك الحين انقسم الناس إلى فئتين: فئة تتساءل: لماذا وكيف وإلى أين?!! وفئة أخرى تبحث عن بيت نسي أن يترك فيه الغزاة بيضتهم! ولكن الجميع اتفقوا على العيش بهدوء وسكينة ونسيان أمر وجود البيوض ما استطاعوا إلى ذلك, كي لا تستيقظ الأجنّة من سباتها, وتظل في أغلفتها البلورية تشيخ وتتحجّر حتى الموت!

 

نُهى الدرويش