الكون يتمدد... أم ينكمش? أنطوان بطرس

الكون يتمدد... أم ينكمش?

لم يعد التأمل العلمي في صفحة الكون نوعًا من الترف المعرفي, فقد صار مداخلة جادة في سياق أسئلة الوجود وحسابات المستقبل, إضافة للتطبيقات العملية النابعة من ذلك.

تناقلت الأنباء أخيرًا كشفًا علميًا فضائيًا مفاده أن الكون قد يكون كروي الشكل, ويتكون من رقع مرتبط بعضها مع بعض مثل كرة القدم.

جاءت هذه الاستنتاجات نتيجة تطوّرين: الأول تحليل بيانات فلكية لدى مرصد باريس تشير إلى أن الكون له حدود, ويتشكل من مضلعات خماسية يرتبط بعضها مع بعض, وتأخذ شكل الكرة. أما التطور الآخر فهو توصل العلماء في مرصد وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) إلى أن رسم خرائط الإشعاع المتخلف عن الانفجار الكوني الكبير المعروف بـ Big Bang الذي وقع قبل حوالي 15 بليون سنة, لا تتفق مع نظرية لامحدودية الكون.

وقد أثار هذان التطوران مخيلة العلماء, لأن تساؤل الإنسان حول الكون وما إذا كان متناهيا أو لامتناه قديم قدم الوعي البشري. وبحسب جيفري ويكس - الحاصل على زمالة مؤسسة ماك آرثر في كانتون بنيويورك - فإنه الآن وبعد أكثر من ألفي عام من التخمينات قد تجيب بيانات الملاحظة أخيرا عن هذا السؤال القديم.

حتى الآونة الأخيرة كانت هناك ثلاث نظريات حول منشأ الكون, وتشترك جميعها في أنها تأخذ بعين الاعتبار أن الكون يتمدد ولكنها تختلف في تفاصيل أخرى:

الأولى هي نظرية (الانفجار الكبير) (big bang) والقائلة إن الكون بدأ بانفجار كبير, وأن المجرات آخذة بالتوسع بصورة لامتناهية إلى أبعد مما تستطيع أدواتنا مراقبته, ومن دون العودة فيما بعد إلى نقطة مركزية مفترضة. هذه النظرية تفترض أن جميع العناصر قد ولدت في نصف الساعة الأولى من الانفجار, ولا يتم بالتالي ولادة أي مادة جديدة.

الثانية هي نظرية (الحالة الثابتة) (Steady state) وتقول إن الكون يتمدد منذ الأزل بمعدل ثابت, وأن مادة جديدة تولد بصورة مستمرة. وبالتالي فإن هناك دوما مقدارا ثابتا من المادة في أي مساحة من الفضاء. واستنادًا إلى هذه النظرية, فإنه لم يكن هناك إطلاقا (انفجار كبير) وإن المجرات لن تعود, في نهاية المطاف, إلى نقطة مركزية مفترضة للكون.

أما النظرية الأخيرة فهي نظرية (الكون النابض) (pulsating universe), وتقول إن المادة تتطاير متناثرة, انطلاقا من كتلة مضغوطة, ولكنها سوف تتوقف في النهاية وتبدأ بالتقلص بتأثير الضغط الجاذبي المشترك لأقسامها المختلفة. وفي النهاية سوف تصل المادة إلى درجة من التركيز تتفجر معها من جديد. وخلال هذه العملية المتكررة فالمادة تخلق ولا تزول بل يعاد توزيعها مرة تلو أخرى.

وتلقى نظرية الانفجار الكبير إجماع العلماء اليوم, ويعود الفضل فيها إلى العالم الآب البلجيكي (جورج لوميتر) الذي كان أول من وضع, منذ العام 1927 تصورا علميا للاتجاه القائل إن الكون لابد أن يكون قد نشأ من انفجار كبير. يومها قال إن الكون قد نشأ إثر انفجار كتلة كثيفة جدا من الطاقة أطلق عليها اسم (البيضة الكونية) أو (الذرة البدائية), وأنه ترافق مع هذه الولادة ضجيج عظيم. ولكن التسمية التي اشتهرت بها هذه النظرية, وهي (الانفجار الكبير) تعود إلى العالم البريطاني (فرد هويل) وهو من أشد معارضي النظرية ومن أنصار نظرية (الحال الثابتة).

ولم تأخذ نظرية (الانفجار الكبير) صياغتها العلمية الكاملة إلا عام 1948 وذلك على يد العالم الأمريكي (جورج جامو) وزميليه (رالف آلفر) و(روبرت هيرمان). وقد نشر جامو نظريته هذه عام 1952 في كتاب ذائع الصيت استحوذ على خيال الرأي العام لعنوانه المثير (خلق الكون).

ما الذي تقوله هذه النظرية?

تفيد نظرية (الانفجار الكبير) أن (بذرة) لا يزيد حجمها على رأس الدبوس وتحتوي كل ما في الكون من مادة وطاقة انفجرت بأسرع من وميض البرق ناثرة المادة إلى مختلف الاتجاهات, مضاعفة حجمها مرة كل عُشر (بضم العين) كوادريليون من الكوانتيليون من الثانية (10 من الثانية) إلى أن تحولت إلى هذا الكون الظاهر الفسيح.

وخلال تمدد هذه المادة وتوسعها نشأت تموجات غازية من الطاقة توزعت من نسيج الكون الكبير, ثم أخذت, بمرور ملايين السنين, بالتجمع والاتحاد بفعل قوة الجاذبية مشكلة عناقيد أصبحت فيما بعد المجرات والنجوم والكواكب التي نراها في السماء وكذلك المخلوقات.

ويطلق العلماء على ساعة الصفر هذه بزمن (بلانك) وهي أول لحظة فعلية يمكن الحديث عنها ووصفها بدقة. وهي فترة في منتهى الصغر مدتها . من الثانية (أي الرقم 1 وعن يساره 43 صفرا ثم فاصلة) حيث كان الكون برمته أصغر من نواة بما يتراوح بين 10 إلى 20 مرة. وربما كانت هذه النواة جزءا من كل أكبر مجهول, هذا ما لا يستطيع العلماء أن يتيقنوا منه. وقد استمرت مرحلة التوسع للفترة بين و من الثانية تضاعف فيها الكون بمعدل 10 للقوة 50 ضعفا أي من حجم الذرة إلى ما يوازي حجم البرتقالة الكبيرة. وهكذا دواليك إلى أن تكونت الفوتونات والكواركات الحرة, ثم أخذت هذه بالتجمع على شكل عناقيد. وخلال الدقائق الثلاث الأولى تشكلت أولى النوى الذرية. ثم مضت مائة ألف سنة على أقل تعديل قبل أن تظهر الالكترونات تمهيدا لتشكيل ذرات كاملة.

وتعتبر المرحلة الممتدة من الوقت الذي أصبح فيه عمر الكون ثلاث دقائق إلى 300 ألف سنة (مرحلة البلازما), التي تحول الكون فيها إلى ما يشبه سحابة مليئة بالجسيمات المتحركة, بعد أن بلغ عمر الكون ثلاثمائة ألف عام أخذ يبرد. وبعد مليون سنة تحول الكون إلى بحر من الهيدروجين وغاز الهليوم, وأصبح يتميز بمناطق ذات كثافة عالية, وأخرى منخفضة واضعا بذلك حجر الأساس لظهور عناقيد المجرات والأنظمة النجومية.

غرفة المرايا

ويرى ستيفن هوكينج أن تاريخ الكون ليس أكثر من هيام لانهائي فوق سطح كرة لا حدود لها بلا بداية ولا نهاية. إنها حال يطلق عليها (حال اللاحدود). وها قد أخذ الآن ما يذكي نقاشا قديم العهد حيال ما إذا كان الكون محدودًا أم لا نهاية له.

ثم جاء النبأ بأن بعض العلماء توصل منذ فترة وجيزة إلى تصوّر مفاده أن الكون هو فعلا صغير نسبيا أشبه بحجرة من المرايا الخادعة التي تحملنا على الاعتقاد بأن الفضاء يمتد إلى ما لانهاية. هذا النبأ جدّد النقاش القديم, ودفع بالمؤسسات العلمية عمومًا إلى الانكباب على محاولة حل هذا اللغز. ويقول (ويكس): (إذا ما حللنا هذا اللغز, وأكدنا أن الفضاء محدود, فقد يشكل ذلك خطوة عظيمة إلى الأمام في فهمنا للطبيعة).

في وسط النقاش ملاحظات رصدها مسبار (ويلكنسون لموجات الميكرو) أطلقته وكالة الفضاء الأمريكية عام 2001 لقياس رجع الصدى في (الخلفية الميكروموجية الكونية) وهو الإشعاع في الأفق الذي نجم من الانفجار الكبير.

ويهتم علماء الفلك بمعرفة كم كانت أحجام المويجات المختلفة قوية, باعتبارها تكشف معلومات حيوية عن الكون قديما, وقد تفيدنا في معرفة حجم الكون حاليا.

كثير من علماء الفلك يشكون في أن الكون لا نهاية له, في تلك الحال, لابد أن يكون للمويجات الخلفية الصغرى سلسلة أحجام لا حدود لها. لكن لما كانت نتائج مراقبة المسبار (ويلكنسون) للمويجات الصغيرة الحجم تتفق والرأي بأن الكون لا نهاية له, فإن القياسات الواسعة المدى لم تتفق والنظرية, فقد بينت سفينة الفضاء أن المويجات تختفي تقريبا على النطاق الأوسع.

قد يكون مرد ذلك للصدفة, ذلك أن المحاكاة الكمبيوترية التي تجري من أجل تكوين مثيل لولادة الخلفية الميكروموجية تولد هذا النمط مرة كل بضع مئات من التشبيهات, ولكن قد تعني أيضا أن الفضاء نفسه ليس كبيرا بذلك القدر لاحتواء ترددات الانفجار الكبير ذات النطاق العريض, تماما مثلما يستحيل أن تكون ترددات رنين الجرس أكبر من الجرس نفسه. وعليه فإنه لا يمكن لأي ذبذبات فضائية أن تكون أكبر من الفضاء نفسه.

يقول عالم الرياضيات ويكس وزملاؤه الفرنسيون الذين يشكلون فريقا من علماء الفلك الفيزيائيين إن نتائج مهمة المسبار الفضائي (ويلكنسون) توحي بأن الكون ليس صغيرا فحسب, بل إن الفضاء ينطوي على نفسه بطريقة غريبة, حسبما كتب في مجلة (نيتشر) أخيرا.

وعلى الرغم من أن الكون محدود, فليس له أي نوع من الطرف أو الحد. فإذا انطلقت سفينة فضاء فيما قد تراه خطا مستقيما فقد تنتهي في النهاية بالرجوع إلى المكان الذي انطلقت منه. ونظرا إلى هذه النتيجة الالتفافية الغريبة, فإن النور من إحدى المجرات قد يتبع طريقين مختلفين إلى الأرض. لذلك قد تظهر المجرة نفسها في ناحيتين مختلفتين في السماء. وقد يكون الكون بالفعل على غرار حجرة من المرايا, لها نتيجة أو أثر التفافي يولد صورا متعددة عن كل شيء في الداخل.

ويقول العالم ويكس إن النتائج التي توصل إليها المسبار تدل على وهم محدد جدا, وهو أن الكون الذي نعيش فيه يبدو على غرار مجموعة متكررة لا نهاية لها من 12سطحا خماسيا متماثلا, على غرار كرة القدم. فإذا خرجت من أحد المكعبات الخماسية, فإنك تدخل مرة أخرى المنطقة نفسها عبر الناحية الأخرى المقابلة, وتبقى تواجه المجرات نفسها مرة بعد أخرى.

ويضيف ويكس أن المقارنة بين النموذج المتكرر والمتماثل وفق نموذج كرة القدم وملاحظات المسبار مثيرة للغاية. ذلك أن النتائج كانت أفضل مما أمكن أن يتصوره العالم. فإذا تم التأكد من تلك الملاحظات التي بثها المسبار, فقد يعني ذلك أن الكون صغير نسبيا وبمقدار 70 بليون سنة ضوئية تقريبا من طرف لآخر.

وأكثر من ذلك, فإنه يمكننا نظريا رؤية الكون برمته والتأكد من أنه لا توجد فيه زوايا تستعصي على قوانين الفيزياء المعروفة. قد يلغي ذلك الأفكار المتداولة مثل التضخم الهيولي الذي يوحي بأن عالمنا المحلي ما هو إلا واحد من الفقاعات الوهمية المنتشرة التي لا يمكن إحصاؤها, حيث كل منها يتمتع بقوانين فيزيائية مختلفة قليلا. كذلك قد تنفي أيضا التناقضات الفلسفية المتعلقة بكون لا نهاية له, كالفكرة القائلة إن كل شخص على وجه الأرض يتمتع بعدد غير محدود من الثنائيات الغريبة التي تسلك حياة متوازية.

ويقول البروفسور دافيد سبيرجل, من جامعة برنستون إنه إذا أمكننا إثبات أن الكون كان محدودا وصغيرا, فقد يكون ذلك مدهشا إلى حد بعيد, بحيث قد يغير نظرتنا إلى الكون فعلا. ولكن سبيرجل وردا على ويكس, أعلن عن سلسلة أدلة تدحض تلك النتائج, وأبرزها أنه إذا كان الكون يولد فعلا تأثيرًا وهميًا يوحي بأن الكون أشبه بحجرة ذات مرايا, فمن الممكن العثور على نمط من الدوائر المتشابهة في الخلفية الميكروموجية حيث الترددات متماثلة.

وبحسب ويكس فإن الكون يتصف بستة أزواج من الدوائر المحددة المتشابهة في السماء, إلا أن فريق البروفسور سبيرجل لم يوفق في اكتشافها في المعطيات التي بثها المسبار (ويلكنسون).

ويعمل سبيرجل وفريقه حاليا مع العالم ويكس للنظر فيما إذا كانوا بشكل ما قد أخفقوا في اكتشاف الدوائر, ويعكفون تحديدا على اختبار إضافي وهو اختبار النموذج ذي الاثني عشر سطحا, والذي من شأنه أن يفيد بأن قياسا رئيسيا لكثافة المادة في الكون, التي تتحكم بدرجة الانحناء, تساوي 1.013 حيث إن الفضاء المسطح تماما يساوي واحدا (1), في حين أن القيم التي هي أكبر أو أقل من واحد (1), قد تولد كونا منحنيا.

وتوحي ملاحظات الإشعاع الخلفية للموجة الصغرى حتى الآن بأن القيمة تكمن ما بين واحد 1.00 و1.04 ومن المؤكد أن المراقبة الإضافية بواسطة المسبار (ويلكنسون) يجب أن توفر مزيدا من الدقة خلال الأشهر القليلة المقبلة.

منذ بطليموس وإلى الآن!

منذ قديم الزمان والناس يمعنون الفكر في حجم الكون, وكان عالم الفلك المصري بطليموس قد انتهى إلى فكرة أن الكون هو كرة محدودة الحجم, والأرض تحتل فيه النقطة المركزية. كان ذلك في عام 140 م. وقد انتهى ذلك المفهوم المحدود من دون أن يتعرض إلى أي تفنيد حتى عام 1576م. عندما اقترح عالم الفلك توماس ديجس أن الكون لانهاية له, وأنه مملوء بالنجوم المشابهة للشمس. وبعد ذلك بسنوات قليلة, نشر الفيلسوف جيوردانو برونو, أفكارًا مماثلة, قبل أن تحكم عليه محكمة التفتيش الكاثوليكية بالموت حرقًا على الخازوق من أجل أفكاره الهرطوقية. أما آينشتاين فلم يكترث لذلك, فقد منحتنا نظريته العامة عن النسبية أفضل وصف للفضاء - الزمن, وكيف أن المادة تلف الفضاء. إلا أنها لا تتحدث مطلقا عن شكل الكون وحجمه عموما, حتى أن أفضل المراقيب تبين ببساطة انتشار الكون بشكل لا نهاية له. وتشكل دراسة خلفية الموجة الصغرية (الميكروموجات) الكونية أفضل أمل نعلقه عليها, حتى نكتشف في النهاية حجم الكون. فالإشعاع هو بالتالي أبعد شيء يمكن أن نشاهده, ولذلك يمكن أن يطلعنا على الكون على أوسع نطاق.

 

أنطوان بطرس 




صورة نادرة لنجم ينفجر سُجلت أخيرًا بينما الانفجار حدث عام 1841





 





آينشتاين لم يهتم كثيراً بحجم الكون وما اذا كان محدوداً أو لامتناه





خريطة حاسوبية يظهر فيها الكون على شكل كرة قدم كما تظهر توزيع الإشعاعات الميكروبية للكون المتمدد