الحلم الأمريكي على الشاشة العربية بشار إبراهيم

الحلم الأمريكي على الشاشة العربية

منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين, على الأقل, بدأ الحلم الأمريكي يراود العديدين من أبناء الفئات الوسطى في المجتمع العربي, وقد تعزّز هذا الحلم في تلك الفترة التي شهدت تصاعدا لعصر الانفتاح وازدياد روح الاستهلاك والأحلام الفردية, وكان من المنطقي أن ترصد السينما ما يدور في أحشاء المجتمع.

في رصدنا لمسيرة السينما المصرية, في هذا الصدد, سنجد أن ثمة توقُّفات مختلفة ومتعددة بصدد هذه الظاهرة التي غدت ما يشبه السمة في المجتمع المصري, كنموذج للعربي, الذي ذهب بعض أبنائه نحو مغازلة هذا الحلم, وبذل الكثير في سبيل تحقيقه. ولم يتوقّف هذا الأمر عند شريحة معينة, بل لعله شمل أنماطا مختلفة, عمرية ومهنية وثقافية, الأمر الذي يتجلّى بوضوح في فيلم (أمريكا شيكا بيكا) الذي ساهم فيه مجموعة من الفنانين أمثال المطرب المتميز بحضوره محمد فؤاد, وشويكار وعماد رشاد ونهلة سلامة وأحمد عقل, حيث يرصد الفيلم قصة مجموعة من الأفراد المصريين الذين بذلوا ما لديهم في سبيل الذهاب إلى أمريكا.

سنرى فيهم تنوعا عمريا ومهنيا وثقافيا, بدءا من الرجل ابن البلد, والشباب المهني, حتى المثقف الطبيب, والراقصة, جميعهم حدتهم الظروف أولا, والأوهام ثانيا, على الانخراط في رحلة غامضة نحو بلاد الحلم, أمريكا, علَّهم يجدون فيها حلا لمشكلاتهم, وتحقيقا لأحلام مستقبلية. ولما كانت رحلتهم/المغامرة, ستمرُّ عبر رومانيا, فإن أحداث الفيلم ستدور في ذاك البلد, في رومانيا/المحطة على الطريق نحو أمريكا, حيث يلاقي المجموع أحداثا مفارقة, مفجعة, فيتعرضون لحوادث النصب والخداع, ويفقدون أموالهم, وقود رحلتهم, حتى باتوا أشبه بمتسولين في ذاك البلد الغريب.

وهناك سيعودون لاكتشاف حقيقة أحلامهم, ووطنهم, وواقعهم, ولم يجدوا في حلم أمريكا إلاّ وهما كبيرا. حتى لو كان ذلك من خلال نصَّاب من أبناء جلدتهم.

أرض الأحلام

ويتناول المخرج داود عبد السيد في فيلمه (أرض الأحلام) الذي قامت ببطولته سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة, والفنان يحيى الفخراني, وعدد من نجوم السينما المصرية, ذات الموضوع, من خلال قصة سيدة تجد نفسها في لحظة مضطرة للالتحاق بأولادها الذين سبقوها إلى (أرض الأحلام) أمريكا; وفي ليلة مترعة بالأحداث, وهي تتهيأ للسفر, سنجدها تتأرجح بين ذكرياتها في بلدها, وحميمية العلاقات والصداقات, والذكريات العميقة في الوجدان, وبين سؤال الهجرة والاغتراب,

في هذا الفيلم ثمة خيط خفيٌّ يشدُّ المرء لموطنه, يغالبه بالركض, وراء معالجة الشخصية, أو وراء رغبات من هم حولها, ويهتمون بها. تبدو أرض الأحلام في هذا الفيلم, تماما باعتبارها أرض الأوهام, كما ظهرت أيضا في فيلم (أمريكا شيكا بيكا). والفيلم ينطلق من نزعة واضحة, في رفض الحلم الأمريكي, دون الذهاب نحو أمريكا, أو إظهارها, أو إظهار أي من رموزها على الشاشة, فأمريكا في هذه الأفلام غائبة حاضرة, ليس من حضور مباشر لها على الشاشة, ولكنها تحضر في حلم وأذهان شخصيات الفيلم, وسيؤكد الفيلم أنها مجرد وهم.

أما المخرج يوسف شاهين فهو يبني جزءا من سيرته الشخصية في فيلم (إسكندرية ليه?..) حيث يصارع بطل الفيلم (يحيى) مع أفراد أسرته وأصدقاء الأسرة لتحقيق حلمه في الذهاب إلى أمريكا, ودراسة السينما هناك; وعلى الرغم من غنى العلاقات وتشابكاتها في هذا الفيلم, فإن المخرج رأى أن ينهيه عند وصول بطله (هو ذاته بالطبع) إلى حافة أمريكا, تماما قبل أن تطأ قدماه شواطئ الساحل الأمريكي. فبعد لهاث أحلام, وحركة, وتكافل الجميع في مصر, من أجل تأمين مستلزمات الرحلة, سيذهب البطل (يحيى) على متن باخرة تمخر عباب البحر نحو أمريكا. وفي الوقت الذي يكون فيه يحيى مترعا بالأحلام والأماني, ويترك خلفه أسرة وأصدقاء متعلّقين بحلمه, وعودته ظافرا, سوف ينهي يوسف شاهين فيلمه بمشهد بالغ الدلالة. لقد تحوَّل تمثال الحرية الشهير عند الشطّ الأمريكي إلى عجوز شمطاء, منخورة الأسنان, قبيحة المرأى, تضحك ببلاهة وسخرية فاجعة.. أمريكا تسخر من حلمه, والمخرج يوسف شاهين, إذ يقفل فيلمه على هذه الضحكة الساخرة, لكأنما يريد أن يقول, دفعة واحدة, الكثير مما يقال عن الحلم الأمريكي. فبعد كل الجهود المضنية والإمكانات المبذولة, والآمال المتعلقة, لن يُقابل يحيى إلا بضحكة ساخرة مريرة, والأكثر فجيعة أن تمثال الحرية/الرمز, هو الذي يطلق هذه الضحكة, ويكشف هذه الخديعة. إنه تكثيف ذروة الآخر في نظرته إلى الأنا, مهما كان ذلك الآخر يتلبس إشارات المساواة والعدالة.

دمار الحلم

يصل (يحيى) بطل يوسف شاهين في (إسكندرية ليه?..) إلى الشواطئ الأمريكية, ولا تغادر بطلة (أرض الأحلام) لداود عبد السيد, مصر, وينتهي المطاف بأبطال (أمريكا شيكا بيكا) في رومانيا. وبين هذه المواقع الثلاثة, أي في مصر, ثم في محطة على الطريق إلى أمريكا, ثم عند الشاطئ الأمريكي, ستكون ذات النهاية, وذات المرارة, والفجيعة. فالحلم الأمريكي, وهمٌ معلّق في الهواء, وعلينا أن نبحث عن أحلامنا في مكانها الحقيقي, الذي قطعا ليس هو أمريكا, فهي بالتأكيد (تلاعبك ع الشناكل.. وتخلي عاليك واطيك).

مع ذلك فإن هذا التحذير يذهب هباء عندما نرى ما يقدمه سعيد حامد مخرج الفيلم المصاغ خصيصا لمحمد هنيدي (همام في أمستردام), حيث يذهب محمد هنيدي نحو هولندا, هذه المرة, لتحقيق الأحلام التي أفلتت من يديه في مصر, وهناك يتسلَّق السلم من مجرد عامل صغير في مطعم, ليصبح المالك لواحد من أكبر المطاعم في أمستردام, وعلى الرغم من النغمة القومية التي يتلبُّسها الفيلم, عندما يحشد شخصيات عربية متعددة, وعندما يحنّ الدم, كما في موقف الخال المفاجئ, فإن الفيلم يجانب الحقائق الموضوعية في تجسيد هذا الحلم, وفي عدم ارتكازه على أسس موضوعية كافية يمكن أن تصبح منهجا, لأيّ شاب مصري أو عربي, يريد أن يغزو هولندا ببساطته وإمكاناته المحدودة, ليصبح كما أصبح الهنيدي.

لقد وقع (همام في أمستردام) في مطب النزعة الفردية التي تعزز إمكانية أن يستطيع الفرد تحقيق ما يحلم به, حتى لو كان ذلك الحلم استثنائيا, بكل ما للكلمة من معنى. إنها محاكاة مبسَّطة وساذجة للنزعة الغربية الفردية التي تصوّر بائع زجاجات فارغة وقد أصبح (سوبر ستار) من طراز جون ترافولتا. ومتشرِّد في أحياء السود, وقد أصبح نجما عالميا كمايكل جاكسون, أو مايك تايسون, ولاعب كرة في الأحياء الفقيرة, نجم قرن من طراز بيليه, هذه النزعة التي ترى سبل الخلاص, فرديا, هناك, لا جماعيا, وليس هنا.

قد يكون التحقّق الفردي صحيحا, ولكن في حالات فردية محدَّدة, ولأسباب وظروف, وربما مصادفات ما, ولكن ماذا لو عزَّزنا هذه النزعة, وهذا الحلم والأمل عند المجموع? وترى أي ثقافة تقدمها السينما حينذاك? وأي قضية تتبناها? إنه السؤال المفتوح الذي ينبغي للسينما الإجابة عنه. ومن المثير أنه في فيلم عادل إمام الذي صوره في أمريكا كجزء ثالث من سلسلة (بخيت وعديلة) وجاء تحت عنوان (هاللو أمريكا) نجد مساهمة أخرى, في ذات السياق, بل إن الرجل الذي لا يخلو من بلاهة ظاهرة يتمكَّن من اختراق أسوار المؤسسة العليا في الإدارة الأمريكية.

إنها السينما التي تتغذَّى من الحلم الأمريكي, الذي سيبقى يراود أبناء العالم الثالث, جيلا بعد جيل, مادام هناك عالم اسمه (عالم ثالث)!. ومادام هناك من لا يستطيع أن يحقق أحلامه في وطنه, فينشدها وراء البحار, بل في أمريكا تحديدا, ولكنها أيضا السينما التي تحتقن بالوهم, دون أن تفكّر في تفكيكه.

 

بشار إبراهيم 




يوسف شاهين (اسكندرية ليه?)





فاتن حمامة (أرض الأحلام)





عادل إمام (هاللو أمريكا)