الثقافة.. وتحجيم المخاوف

الثقافة.. وتحجيم المخاوف

أعتقد أن أزمة الثقافة العربية كما أراها - مختلفا باحترام وتقدير مع غيري ممن يرونها مشكلة ليس إلا - ممتدة منذ سنوات طوال, ربما أبعد مما ذهب إليه د. سليمان إبراهيم العسكري رئيس التحرير في مقالته التي افتُتِح بها العدد (538) من مجلة (العربي) لشهر سبتمبر من العام الماضي في مقاله الذي حمل عنوان (في مأزق الثقافة العربية الراهن) عندما ربط بينها وبين كتاب العميد طه حسين - طيب الله ثراه - (مستقبل الثقافة في مصر) الذي نشره عام 1938.

إنها أزمة قديمة ومستحكمة وتمسك بخناق المجتمع كله, بالرغم من أن الكثيرين حاولوا على امتداد العقود أن يجدوا لها حلا دون جدوى, وليست مشكلة لأنها ليست طارئة, فقد سطرت من أجلها الكتب والدراسات وصدرت التوصيات. وأزمة لأنها لا تخص جانبا من المجتمع دون آخر, بل تشمل كل جانب من جوانبه سواء كان سلطة أو تيارات وجماعات معارضة ومن بينهما المثقفون الذين يقع على عاتقهم ملاحظة هذه الأزمة وسبر أغوارها والتصدي لأسبابها بشجاعة انطلاقا من دورهم الريادي على مستوى المجتمع الثقافي العربي كله.

وهي - أي الأزمة - في رأيي ليست فقط بسبب التباس العلاقة بين المثقفين والسلطة, ولا بسبب التضارب بين فلسفات الحكم التي تهيمن على مصائر الشعوب العربية وتنتقل من نهج إلى نهج آخر ربما يكون مغايرا أو متناقضا مع سابقه, وإنما لسبب جوهري يطفو فوق كل هذه الدوائر الخلافية وأعني به (عدم قبولنا جميعا بعضنا بعضا). وجميعا هنا أقصد بها المجتمع العربي كله ممثلا في السلطة الحاكمة بكل مؤسساتها وأدواتها ونفوذها, وكل تيارات المعارضة وجماعاتها على اختلاف توجهاتها, والمثقفين بكل ألوان الطيف التي يمثلونها انتماء أو ادعاء.

المنهج الإملائي

وإذا بدأنا بأنظمة الحكم, سنجد أنها تسعى عبر مسلسل من الممارسات المتلاحقة, إلى فرض إرادتها بكل السبل التي تملك زمام أمرها بين يديها, وهذا الفرض يُملي نهجه على أبناء المجتمع دون أن يتيح لهم فرصة للاستماع إلى رأي آخر ينقد هذا النهج الإملائي, وفي الوقت نفسه وبشكل متواز مع ممارستها تبذل قصارى جهدها لإبعاد (الآخرين) عن الساحة, مهما كانوا ومهما كان وزن وقيم أفكارهم, وهي على استعداد لرجمهم ونعتهم بأبشع الأوصاف إذا ما تمكنوا بطريقة أو بأخرى من أن يسمعوا صوتهم إلى الواقعين تحت هيمنتها لإيضاح بعض ما خفي عليهم من نهجها, هذا لا لشيء إلا لأنهم (آخرون) وفي هذا الكفاية.

أما المعارضة بكل أشكالها وأطرها التي تتحرك من خلالها, فلأنها مسلوبة الحق بلا ذنب جنته في التعبير عن نفسها, نجدها تتمحور في جميع الأحوال حول وسائل الهجوم باعتبارها خير وسيلة للدفاع, والحال عندها أن كل ما تنطق به أنظمة الحكم فساد ومغرض ولا يخدم إلا القائمين على أمرها ويحقق لهم البقاء على كراسيهم إلى ما لا نهاية, كما يقوي ساعد المرتبطين بهم في شكل علاقات أسرية أو تجارية أو استثمارية ظاهرة أو باطنة. إشكالية المعارضة أنها ليست طيفا واحدا لذا نجدها متضادة ومتخاصمة, وفي كل الأحوال متحاربة, وما ينطق به فريق, يقوم الآخرون بالتقليل من شأنه والسخرية منه, وما يدعو إليه فريق يعارض من الكل, وما يطرحه فريق يقابل بالاستهزاء من البقية, وفي كل الأحوال تضيف أنظمة الحكم إلى هذا التعارض من المواد الحارقة ما يزيد اشتعال الحالة المأزومة التي تعيشها المعارضة العربية بكل أشكالها وأطرها التي تتحرك من خلالها.

أما المثقفون فقد نسيت الغالبية منهم دورها الأساسي, ورسالتها القائمة على حتمية الإمساك بالغد الذي يمثل الأمل والعمل بدأب ومصداقية لها شفافيتها الخاصة على تطوير المجتمع العربي عن طريق الثقافة إلى الأفضل بالتنوير والانحياز دائما إلى مصلحة الإنسان العربي, في الحرية والعدل والكرامة. اختار بعض هذه الأغلبية الارتباط بالسلطة منذ بداية طريقه عن اقتناع أو تمسحا أو تملقا, ونقل البعض الآخر نشاطه إلى جانبها بعد أن أضنته المسيرة وفقد الأمل في الغد الذي ظل ممسكا به سنوات دون أن يرى بارقة أمل عند نهاية النفق, واختار بعضهم أن يعبر عن أيديولوجية نمطية سقط عمودها الأول في أعماق التيه الإنساني, ولم ينجح عمودها الثاني في أن يجد له مكانا مستقرا بين أفكار القطاع الأعرض من أبناء المجتمع الذين يرونه السبب المباشر لما يعانونه من فقدان للحريات السياسية والاجتماعية وانتفاء استقلالية القرار.

المتابع لحالة الثقافة العربية سيلاحظ أن كلا الجبهتين اللتين تمثلان المثقفين رافضة للأخرى, فلا جماعة السلطة راضية عن المثقفين الأيديولوجيين, ولا هؤلاء يعترفون بأن أولئك مثقفون, وكلتاهما تختم الثانية عندما توجه إليها الخطاب بخاتم (الارتزاق). ومن نافلة القول أنها لا تسمع لها أو تحاورها في لقاء أو يجمعهما مكان, حتى لو كان تحت شعار (المصلحة العامة/ رؤية مستقبلية).

أما الرسائل التي تصدر عن هؤلاء جميعا - أنظمة حاكمة وتجمعات معارضة - إلى أبناء المجتمع, فأهم ما يميزها عندما نحلل مضمونها:

- أنها لا تعترف بالآخر كأنه غير موجود وغير مؤثر, وإذا ما تطلب الأمر لسبب أو لآخر الإشارة إليه أو التعرض له من خلال السياق العام للرسالة نعته القائم على أمرها بكل ما يؤمن عن يقين أنه سيقلل من قيمته المعنوية والمادية لدى متلقي هذه الرسالة.

- وأنها تسفه وتحقر من النهج الذي يقوم به الآخر وتطبيقاته في كل ما يتعلق بالمصلحة العامة وتركز على العيوب التي يحتويها وفي غالب الأحيان تلجأ إلى تزييف الوثائق والتقارير لدعم وجهة نظرها, وربما استعانت بشهادات خارج الوطن لا أحد يعلم مدى مصداقيتها ولا شفافية مصادرها.

يوسع من دائرة أزمة الثقافة العربية أن هذا التضارب بين الأنظمة الحاكمة وتيارات وجماعات المعارضة يزداد عمقا مع تباعد تمتع المواطن العادي بحقوقه السياسية والاجتماعية, لأن كل طرف يدعي أنه يملك وحده الحقيقة!! متناسين أن الحقيقة التي لا جدال فيها أنه لا يوجد من يملك, بمفرده, الحقيقة. وادعاء كل طرف بامتلاك هذا الغير مملوك له يزيد من مساحة رفضه للآخر, ويزيد من ازدرائه له ومن مواصلة إقصائه, اعتمادا على إيمان لا يتزعزع بأنه يملك القدرة وحده على تصعيد الصراع القائم مع هذا الآخر, حتى يعترف بهزيمته ويعلن انصياعه لنهجه: السلطة عن طريق طمس معالم كل المناوئين لها وبرمجتهم, والمعارضة بإبعاد السلطة عن الكرسي والجلوس عليه بعد طول انتظار لتولي المسئولية ثم البدء فورا في إغلاق الأبواب أمام تيارات وجماعات المعارضة الجديدة الناشئة التي ستناوئها الحكم!!

الإصرار على عدم الاعتراف بالآخر, وإنكار حقه في المشاركة في كل ما يخص الوطن والمواطن - في رأيي - هو أخطر أسباب الأزمة التي تعاني منها الثقافة العربية منذ عدة عقود, وفي رأيي - أيضا- أن عودة المثقفين للقيام بدورهم (التنويري) الذي ابتعدوا عنه لأسباب مختلفة, ومختلقة, سيساهم في خلق رؤية جديدة متطورة لدى طرفي المعادلة, وأعني بهما السلطة وتيارات وجماعات المعارضة, تقوم على الاعتراف بوجود الآخر والإقرار بأهمية هذا الوجود والاقتناع بقدرته على التفعيل, ومن ثم بإمكان مشاركته المؤثرة في الانتقال بالمجتمع إلى الأفضل.

(الهو والآخر) لا غنى لأحدهما عن الثاني, وهما ضروريان معا حتى تتمكن الثقافة العربية بكل طاقاتها من أن تعمل, من خلال منظومة تتسم بالصدق القائم على الحقيقة غير الملونة, والشفافية المعتمدة على إنكار الذات وعلى الحق في محاسبتها, وعلى البساطة في التناول المرتبط بحقيقة البنية التحتية للمجتمع العربي, على البدء في تحقيق مطلب الحرية والعدل والكرامة, وفي الوقت نفسه تعويد المجتمع على مواجهة المخاوف التي تعترض طريقه سواء كانت نابعة من داخله أو تلوح بها قوى خارجية.

د. حسن عبد ربه