الحمد لله الذي خلق القراءة والكتابة مرزاق بقطاش

الحمد لله الذي خلق القراءة والكتابة

- تنفس بعمق, يا عمو مرزاق!

قناطير مقنطرة من الحزن العميق أحس بها تجثم على صدري, وصدري في تلك اللحظات هو الكون كله. سطوة الحزن لا علاقة لها بما اعتاده البشر. هي قسوة فيزيائية, فيها الكثير من اللون البنفسجي والدكنة الليلكية, وفيها الكثير من السقوط في أعماق حلزونية متكسرة. صدقوني, لقد أبصرت بها وهي تنداح قبالتي وتتغور في الوقت نفسه.

أحسب أن الحزن انتابني في تلك اللحظات كان أشد رهبة من الموت, من المرض القاتل, من فقدان عزيز ما.

... أشهد أن لا إله إلا الله.

... والعصر إن الإنسان لفي خسر.

- تنفس بعمق, يا عمو مرزاق!

ويجيء جيش الأسئلة في شكل أمواج صقيعية:

من أطلق الرصاصة? من صنعها? ومن ألف من.. قالت لي والدتي وهي تطل من سمائها بعد ربع ساعة مما حدث:

- لا تخف, يا مرزاق!

وأقسم بالله العلي العظيم أنني ما دريت ما الخوف ساعتها.

الخوف ضاع في مجرة أخرى. هذه ثاني مرة أواجه فيها الرصاص. الأولى كانت عام 1956 في قلب حَيِّنا, ولكن طلقات الرشاش أخطأتني وصفرت على الأسفلت. غير أن هذه الثانية, فيها الكثير من الحزن, والحزن ما كان عاديا والله! هو حزن أشبه ما يكون بالرصاص الذائب أو الحمم النارية التي تقذفها البراكين. فيه الحرارة وفيه السخونة. أراه بعيني كلتيهما, ألمسه لمسا.

قال الطبيب الهمام وهو يخيط قفاي ثم صدغي الأيمن:

إنها لمعجزة المعجزات أن تظل على قيد الحياة!

وبعد أسبوعين من الواقعة, قال لي صديقي الشكاك وهو يسير إلى جانبي على طرف البحر: عندما أقف إلى جانبك, أشعر بوجود الله!

سنقيم (السبوع), قالها لي المناضل الحاج علي, سفيرنا السابق في السنغال. سألته: ولماذا? فأجابني بلغة أمازيغية قحَّة: لأنك ولدت من جديد!

وقال لي صديقي الصحفي: ألا تريد أن تترك لنا شيئا? لقد تجاوزت إرنست همنجواي نفسه.

الرصاصة تنزلق من القفا على بعد ملمترين اثنين من العمود الفقري, وتخرج من أعلى الصدغ الأيمن بعد أن تفتت جزءا من الفك السفلي. مسار هندسي عجيب يحار فيه إقليدس وأبناء موسى بن شاكر!

قالوا: أنت طاغوت! قلت: ونعم بالله. الإسلام متحته من منابعه الصافية, واللغة العربية تعلمتها تحت وقع الرصاص وفي زمن ما كان لها من مستقبل آخر سوى القراءة على أرواح الموتى! وقالوا وقالوا. واحتملت الحكم بالإعدام ورحت أنتظر التنفيذ خمسة عشر شهرا وثمانية أيام, إلى تلك العشية من 31 يوليو عام 1993.

وأنا منذ تلك اللحظة أقيم (السبوع) في أعماقي دون أن أُشْعِرَ بذلك أحدًا حوالي.

ما كان في صدر أمي حليب عندما جئت إلى هذه الدنيا في الثالث عشر من يونيو 1945. أهوال الحرب العالمية الثانية فيما قيل لي أهْلَكَت الحرث والنسل وجففت أثداء الأمهات في كل صقع. ليس لدي أدنى معرفة بما تعنيه كلمة السلم. الحل الوحيد لكي أحصل على مثل هذه المعرفة هو أن يخلقني الله خلقا جديدا. الفرنسيون في جهة ونحن في جهة أخرى. نار الثورة الجزائرية تشتعل سبع سنوات ونصف السنة. نار الصراع بين الإخوة توقد بعد استقلال الجزائر. نار الزمن الاشتراكي المزعوم المفروض بالقوة والحديد. نار الديكتاتورية, كلهم يتشابهون. أين هو شكل السلم في هذه الجدارية القبيحة?

توابل الأسئلة

كيف تقرأ? كيف تكتب? كيف تفكر? كيف تتأمل الحياة الصخابة الموارة حواليك?

هذه هي الأسئلة التي صارت نوعا من التوابل في حياتي كلها. لا بد منها في الصباح وفي المساء لكي يستقيم لي وجودي.

وتأتي كوكبة أخرى من الأسئلة المحيرة: ولِمَ هذه الهزيمة كلها? لم لا تنطلق صواريخنا لتنفذ من أقطار السماوات والأرض? ولم, يا ترى, تظل الجماليات العربية القديمة مختفية في بطون التاريخ لا يكاد يتمتع بها إلا من أوتي حظا من القراءة? ولِمَ يقتل العربي أخاه العربي مشرقا ومغربا? ولِمَ ألف سؤال وسؤال? غابات من الأجوبة تترامى أمامي غير أنها لا تجدي نفعا ولا تشفي غليلا.

ولكن الحمد لله الذي خلق القراءة والكتابة وأعطاني حظا منهما!

منذ عهد الصبا الأول والسفارات تجري بيني وبين والدتي. وهي في حقيقتها سفارات تقوم على شفرة واحدة ليس إلا: القراءة والكتابة. ولا أحسب أن هذه الشفرة السرية العجيبة تغيرت أو قد يعروها التغير في يوم من الأيام. تناقلت نسوة الحي خبر الواقعة ورددن فيما بينهن: الرصاص لا يرحم!

والقصد كان واضحا بطبيعة الحال: الإنسان يفقد توازنه العقلي إذا ما أصابته رصاصة في رأسه!

تزورني والدتي أول مرة في المستشفى ولا تقول لي شيئا, بل تحدق في وجهي مدة نصف ساعة وتنصرف.

وتعودني مرة ثانية صحبة الجراح الذي أعمل مباضعه في قفاي وفي صدغي الأيمن وفي أجزاء من لثتي. يتبادل الجراح معها بعض الكلمات ثم يبلغني صوته:

- دخلت عليه قبيل الفجر فوجدته يطالع كتابا.

وترفع والدتي يمناها مدللة بذلك على أن الأمور على مايرام. هي تعرف معنى القراءة, فلقد ألقمتني قطعة سكر ذات يوم بارد من عام 1949 قبيل ذهابي إلى مسجد الحي لحفظ القرآن الكريم. قطعة السكر تعني أن مقدرتي على الحفظ ستكون بإذن الله في مثل حلاوة تلك القطعة الخرافية. عقلي لم يتزحزح عن مكانه, هذا إن كان للعقل حيز فيزيائي يشغله حقا. الشفرة السرية العجيبة في مكانها هي الأخرى, لم يطرأ عليها أدنى تغير. وهل هذه الشفرة سوى القراءة والكتابة? لا شك في أن والدتي ارتدت خمسا وأربعين عاما إلى الوراء لتبصر بي منبطحا أقرأ في كتاب ما على جري عادتي كلما عدت من المدرسة.

أهواء ومطامع

هل أنا متيقن من أن الأفكار والمشاعر بقيت متناغمة متكاملة فيما بينها بعد كل الذي حدث?

والجواب يجيئني هذه المرة من العالم الخارجي: الواقع الاجتماعي والسياسي لعبت به الأهواء والمطامع, والأفق الذي تنشده, يا هذا, يلفه الضباب والغموض! السفينة التي ركبتها لم تعد فيها بوصلة, والخرائط التي كنت تسترشد بها نالتها الرطوبة وساخ مدادها.

أين الموئل والمرجع?

تنظر إلى الجزائر حواليك فترى تاريخها القريب ينأى عنك. وهل تاريخها سوى هذه الثورة الشاقة العنيفة التي تمثل شهادة ميلادك الحقيقية في هذا الزمن?

وتحدق في الواقع العربي الشامل فتدهمك المرارة: سياسات تبتلع سياسات دونما سبب, ومن ينافقون بعضهم بعضا, وشعوب تتأرجح بين الشك واليقين.

ويحدثك بعضهم عن الحداثة فتنفر من هذه الكلمة لأنك كنت ومازلت تراها محصورة في نطاق زمني جغرافي محدد. وتفضل عليها كلمة التقدم لأنها أوسع وأشمل وفي مقدورك أن تسحبها إليك سحبا وتشارك في صياغة حروفها وقولبتها.

لقد حدث الزلزال الفكري في أعماقك, يا هذا! انزلقت قارات وقارات وتزحزحت عن أمكنتها. ولكن الشيء الذي لم يتغير, والحمدلله, إنما هو تلك المرجعية التي تظل مستمسكا بها, معتزا بها إلى أن تسلم الروح: أنت تنتمي إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين. الواقع الجزائري والعربي الراهن ترفضه, تمجه مجا. الواقع السياسي العالمي لا يرضيك, لا لأنه يقتحم دارك وعقلك عنوة فحسب, بل لأن أجدادك أخطأوا الطريق منذ القرن الرابع عشر الميلادي ولم يشاركوا في صياغته. لا عولمة ولا هم يحزنون! الموت أفضل!

ولكن تلك الحركية العجيبة المذهلة التي سادت خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين تعيد الطمأنينة والثبات إلى نفسك. من الصحيح أن الحداثة تغزوك غزوا, وأن لا مناص منها مثلما يقول الفيلسوف مارتن هايدغر. ولكن, يستحيل أن تكون لك قدم راسخة في أرضيتها إن أنت جئتها دون زاد وعتاد. وأين, يا تراك, تجد مثل هذا الزاد? أفي الجزائر التي يتناحر فيها أبناؤها? أفي العالم العربي الذي يأكل بعضه بعضا?

أين البحر

لا تيأس, يا هذا, فدونك هذه البئر الصافية, بئر الفكر المستنير في القرنين الثالث والرابع الهجريين. امتح ما شئت من مائها القراح. وقف وقفة الاعتزاز والإباء وأنت تضع قدمك في هذا العصر.

القرآن الكريم, الحديث النبوي الشريف, التراث العربي الإسلامي, قصائد سي محند أومحند, الشاعر البربري, بول فاليري ورامبو وأضرابهما من عظماء اللغة الفرنسية, شكسبير وإرنست همنجواي وويليام فولكنر وشتاينبك وجيمس جويس وغيرهم من الذين أعادوا صياغة اللغة الإنجليزية, الأفلام الأمريكية, الأفلام العربية القديمة, محمد عبدالوهاب, موزارت وألبنيز وتاريجا وغيرهم من الذين ينسجون الحياة نسجا جديدا على آلتي البيانو والقيثار, دولاكروا وألوانه, كلود مونيه وتهويماته اللونية, ابن مقلة وجبروت الخط العربي, ثم هذه الحياة التي تتأملها تأملا مستديما لأنها أساس القراءة والكتابة, وهي التي تقوم وراء كل كتابة روائية وقصصية جميلة تتطلع إليها. ذلكم هو البحر الرجراج الذي أشق أمواجه في كل يوم دون أن أخشى الغرق فيه.

ويسألني الصحب في بعض الأحيان: وأين البحر في كل هذا الخليط من الأحاسيس والمشاعر?

ولا أحب الإجابة عن مثل هذا السؤال. لو اجتهدت وحاولت الإجابة لتذبذبت الخرائط في وجداني كله. أنا ووالدتي لنا علاقة وطيدة بهذا المخلوق الخرافي العجيب. هي زوجة بحار وتحسن قراءة الأمواج كما تجيد قراءة السحب.

وأحسب أنني تعلمت منها قراءة مثل هذه الطوالع الجميلة على الرغم من القساوة التي قد تنطوي عليها في بعض الأحيان.

وأعود إلى الرصاصة لأقول: سامح الله من أطلقها!

أشعر بعمق الشروخ التي أحدثتها في التراث الذي نشأت وتربيت عليه. كان الإسلام جميلا ولايزال, ولكن جاء من أراد استنساخه في هذا العصر فجعل من تراكيبه سقطا شائها. وكانت اللغة العربية تحفة التحف في هذا الوجود, فجاء من يبيعها في سوق النخاسة.

الرصاصة عمقت إيماني بالله. لم تنل من عقلي, بل إنها جنبتني السقوط في اللاعقل, وجعلتني أدخل أرضا أندلسية جميلة.

الرصاصة وطدت العلاقة بيني وبين القراءة والكتابة, وهي مافتئت تستحثني على تأمل الحياة حوالي وتدفعني إلى تناول القلم في الصباح وفي المساء.

الرصاصة فتحت دوني سبلا جديدة لاحترام غيري. كل شيء ينبغي أن يحترم في هذا الوجود.

والرصاصة, وهذا أهم ما في الأمر كله, تنتشلني من وهدات السوداوية التي أقع فيها بين الحين والآخر, وأتساءل من جديد: ما الكتب التي فاتني أن أطالعها? ما الموسيقى التي لم أنصت إليها? ما اللوحات الزيتية والمائية التي لم أتمعن فيها? ما الأفلام التي لم أتفرج عليها? ومن هم الناس والأقرباء الذين لم أتمكن من زيارتهم?

وأجدني حينها مدفوعا دفعا تلقائيا إلى القول: الحمد لله الذي خلق القراءة والكتابة وأعطاني حظا منهما!.

 

مرزاق بقطاش