تحديات الناقد المعاصر

تحديات الناقد المعاصر

أعتقد أنه في ضوء المتغيرات الجذرية التي حدثت على امتداد الكوكب الأرضي بوجه عام، وفي عالمنا العربى بوجه خاص، لابد من إعادة النظر في واقع الحياة الثقافية والأدبية، وعلى رأسها النقد الأدبي من حيث وظائفه وعلاقته بأوجه الواقع المختلفة، وذلك على نحو يكشف لنا عن التحديات التي يواجهها الناقد، ويجب عليه مواجهتها والتصدي لها بالتشخيص والتحليل في آن . وأهم هذه التحديات، في تقديري، ثلاثة، أولها التحدي النصي، وثانيها التحدي المنهجي، وثالثها التحدي الاجتماعي والسياسي، ويمكن أن نلحق بهذه التحديات الثلاثة تحديًا رابعًا هو التحدي الثقافي.

وعندما نتحدث عن التحدي الأول فإننا نصبح في مواجهة النص الأدبي الذي هو مجال عمل الناقد، سواء كان هذا النص شفاهيًا أو كتابيًا، عاميًا، أو فصيحًا: مقسمًا على أجناسه أو أنواعه التي تشمل المسرح والرواية والشعر، فضلاً عما أصبح يطلق عليه «نص» فحسب، بالتنكير أو التعريف، وهو نوع من الكتابة الأدبية المتحررة من قيود الأنواع أو الأجناس، ولا هدف له إلا خلق كتابة موازية أو معبرة عما يشعر به كاتبها في موقف من المواقف . والحق أن الناقد الأدبي ظل يهرب طويلاً من مجال عمله النوعي، وهو النص، إلى مجالات أخرى سياسية أو اجتماعية، متجاهلاً النص من حيث كونه نقطة البدء والختام لعمله والفضاء الحقيقي الوحيد لممارسته التطبيقية أو حتى تنظيراته التي تعرض لهوية النص الأدبي وحدوده وأجناسه على السواء مؤكد أن النص الأدبي هو مهنة الناقد ومجاله الاحترافي. وكما يلتزم الجراح بالجسد الذي يجري عليه وفيه عملياته الجراحية، فإن الناقد ملتزم بالنص الذي يجرى عليه ممارساته النقدية وفي هذا المجال لابد من تحديد الفارق بين وجهات نظر التيارات النقدية المختلفة في فهم النص ذاته وعلاقاته بالعالم . وهنا تتباين مدرسة النقد الجديد التي كان من أعلامها شعراء مثل ت . إس . إليوت وأرشيبالد ماكليش وبروكس، وكان النص عند أمثال هؤلاء العلة والمعلول، الهدف الأول والأخير، فالنص قائم بذاته، مكتفٍ بنفسه لا يحتاج في تحليله إلى أي شيء من خارجه، فيكفي الناقد أن يتأمل مجال الحضور النوعي للنص أو حال وجوده، وعندئذ يمكن أن يعثر في الحضور الذاتي المستقل لهذا النص على مفاتيح تحليله وتفسيره، فضلاً عن عملية تقييمه التي تتحدد آليًا بمجرد انتهاء عمليتي التحليل والتفسير،وبالاعتماد عليهما. وقد شاع هذا الفهم بين أنصار النقد الجديد في العالم العربي من أمثال رشاد رشدي وتلامذته وأشباهه في العالم العربي، وكان يواجه هؤلاء تيار آخر يرى ممثلوه أن النص ليس مستقلاً بنفسه، ولامكتفيًا بذاته، لأنه نص متولد من كاتب، ينتسب إلى طبقة اجتماعية لابد أن يعبر عنها ويعكس همومها في الواقع الذي تعيشه. وفي موازاة هذا النوع من النقاد كان هناك نقاد التعبير المقترنون بالمدرسة الرومانسية الذين كانوا يرون أن العمل الأدبي تعبير عن وجدان صاحبه، وأنه خرج من هذا الوجدان كما يخرج الماء من أصله، أو كما يخرج الضوء من مصدره الداخلى في المصباح. وكان نقاد التعبير بهذا الفهم الساذج يوازون نقاد المحاكاة الذين كانوا قبلهم، والذين ثاروا عليهم، أعني النقاد الذين كانوا يذهبون إلى أن النص الأدبي مرآة ينعكس عليها كل ما يواجهها وكل ما أدى إليها في آن.

ولقد كان النقد الجديد يرفض كلا الاتجاهين السابقين على السواء ويرى في فهمهما للنص الأدبي قاسمًا مشتركًا هو قاسم المحاكاة التي تحاكي ما في خارج النص، سواء الواقع في الخارج، كما ذهب أنصار المحاكاة الكلاسيكية، أو في الداخل كما فعل أنصار نظرية التعبير التي فهمت النص الأدبي بوصفه محاكاة داخلية ، أو تعبيرًا يخرج ما في داخل المبدع للخارج، قصة أو قصيدة..إلخ. وكانت النزعة الآلية لهذين التيارين تدفعنا إلى الإقبال على النقد الجديد والتأثر به، فأخذنا نردد عبارات من مثل:«إن العمل الأدبي مكتفٍ بنفسه»، وأنه «مستقل بوجوده»، وأنه خُلق ليوجد في عزلة، كائنًا جديدًا مخلوقًا، لا علاقة له بأصله أو دوافعه أو حتى ما يأتي بعده، أو ما يمكن أن يترتب عليه، وقد ظلت هذه النزعة الجمالية في نظرتها إلى النص قائمة، في مواجهة الفهم الاجتماعي أو الواقعي للنص الأدبي الذي أصبح انعكاسًا للواقع، إلى أن قامت حرب 1967، التي غيرت الوجه الأدبي والثقافي للعالم العربي، فارتحلت مع الهزيمة النظرتان المتناقضتان: النص مستقل بنفسه، في مقابل النص انعكاس للواقع الاجتماعي، وحلت محلهما نظرتان أو فهمان متضادان أولهما فهم البنيوية الشكلية، وثانيهما البنيوية التوليدية وكلا الفهمين يبدأ من البنية، لكنهما يختلفان في كيفية فهم ماهيتها، أما البنيوية الشكلية فرأت أن النص الأدبي بنية، وفهمت البنية على أنها وظيفة، من حيث هي تصور تخيلي يقدم حلاً أو كشفًا لمشكل اجتماعي تعانيه الطبقة، وتنتجه الذات المجاوزة للفرد، لتسهم به عن طريق أديب متميز في صياغة مأزق اجتماعي، يتشكل في رؤية عالم تبدعه العبقرية الفردية الإبداعية لشعراء أو روائيين أو مسرحيين ينتمون إلى طبقة أو شريحة اجتماعية تعاني مأزقًا أو مشكلة. وإذ فهمت البنيوية التوليدية النص بوصفه بنية متولدة عن رؤية عالم بعينها، وأنه لا يمكن فهم بنائها إلا بردّ مكونات البنية الأدبية أو النص الأدبي إلى البنية الكبرى للوعي الاجتماعي الذي تولدت منه وعنه، فإن البنيوية الشكلية فهمت البنية على أنها مجموعة من العلاقات الشكلية التي تتكون حول محورين: محور رأسي ومحور أفقي، وأن هذه البنية هي علاقاتها المكونة، والتي لا يمكن فصلها عنها رأسيًا ولا أفقيًا. هذه البنية لها وجودها الذاتي المستقل عن أي شيء، وهي تصنع أدبية الأدب، وشعرية الشعر، ومسرحية المسرح، وقصية القص. وكأن الهدف الأول من هذه البنيوية الوصول من داخل البنية الجزئية إلى البنية الكلية التي تجعل من الشعر شعرًا ومن المسرح مسرحًا ومن القصة قصًا. وقد عاش البنيويون الشكليون الأُول في هذا الوهم ردحًا من الزمن، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم يسعون إلى الإمساك بالريح.

علاقات البنية والنَّص

وقد حدث ذلك عندما جاء من بعدهم مَن أمعن التأمل في علاقات البنية أو النص، وتروى إزاء فهم المحور الأفقي والمحور الرأسي . وقد تعلمنا من هؤلاء أن المحور الأفقي هو علاقات حضور، كأن أقول: «حضر سليمان العسكرى إلى مقر مجلة العربي». فمن المنظور الأفقي، يرى القارئ كل كلمات الجملة مطبوعة على سطر واحد، وعلاقاتها الأفقية هي علاقة خطية، تبدأ بالفعل «حضر» وبعده الفاعل «سليمان العسكري»، وبعده «إلى» الجار والمجرور الذي يقود إلى الكلمة الأخيرة. وكل هذه الكلمات بينها علاقات حضور أفقي، أولاً: لأننا نراها في هذا النص مكتوبًا ومطبوعًا. وثانيًا:لأنها تترتب فيما بينها أفقيًا بما ينتج معنى مفهومًا على امتدادها الخطى المتتابع نحويًا وصرفيًا وصوتيًا وطباعة. لكن يقابل علاقات الحضور هذه علاقات الغياب، فنحن قلنا في الجملة «حضر» وليس «ركب» أو «طار». وقلنا سليمان العسكرى وليس جابر عصفور أو كمال أبو ديب.. إلخ . ويعني ذلك أن كلمات الجمل المتتابعة على المستوى الأفقي لا تفهم إلا في مقارنتها ضمنيًا أو لاشعوريًا بما هو غائب عنها، ويعين على إدراك ما هو حاضر منها. والمثال الأوضح لذلك إشارات المرور التي لا يمكن أن نفهم الحاضر الذي نراه منها إلا في علاقته بما هو غائب، فاللون الأحمر، في أضواء إشارات المرور، يعني الوقوف وعدم العبور، ليس في ذاته ولكن لأنه ليس الضوء الأخضر. و الضوء الأخضر بدوره يعني العبور لأنه ليس الضوء الأحمر الذي يعنى عدم المرور.

وعندما نتأمل النص من حيث هو بنية في ضوء ما سبق، سرعان ما نكتشف أن هذه البنية ليست مغلقة ولا مكتفية بنفسها، فكل علاقة من علاقات حضورها لا تفهم إلا في ضوء علاقات غيابها. ولذلك أطلق صديقنا كمال أبوديب على أحد كتبه التي تتناول نصوص الشعر القديم عنوان «جدلية الخفاء والتجلي». وهو عنوان يشير إلى الجدل أو أوجه التفاعل بين علاقات الحضور (المحور الأفقي) وعلاقات الغياب (المحور الرأسي). وأهم من ذلك أن التأمل الأطول في علاقة محوري البنية سوف يقود إلى فتحها على غيرها وليس انغلاقها: لا من حيث إن البنية دال مدلوله يقع خارجه، بل من حيث إن كل علاقة حضور في النص تقود إلى علاقة غياب خارج النص. هكذا انفتح الباب أمام نظريات ما بعد البنيوية، مثل التفكيك ونظريات الخطاب، وأخيرًا النقد الثقافي.

ميلاد التفكيك

وقد وُلد التفكيك رسميًا في مؤتمر عقدته جامعة جون هوبكنز الأمريكية حضره كل من جاك ديريدا ورولان بارت وتلميذ تزيفتان تودوروف ولوسيان جولدمان وغيرهم . وفي هذا المؤتمر قدم رولان بارت بحثه الذي جعل فيه النص بمنزلة فعل لازم كما يقول الاصطلاح النحوي. يقصد إلى الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول به. وبنية النص مثل هذا الفعل اللازم بنية منغلقة على نفسها مكتفية بحضورها النصي المستقل. وهو مفهوم نقضه ديريدا في بحثه عن «البنية والعلاقة واللعب في العلوم الإنسانية»، وقد قمت بترجمة هذا البحث عن اللغة الإنجليزية، وراجعت الترجمة على أصل البحث الفرنسي زميلتي الدكتورة هدى وصفي، وذلك ضمن ملف للتعريف بجاك ديريدا والتفكيك في مجلة «فصول»، التي كانت أشهر دورية في النقد الأدبي في الثمانينيات والتسعينيات. وأهم ما في التفكيك أنه كان، ولايزال، يفتح البنية المغلقة، وذلك من خلال علاقات التناص التي جعلت من كل نص كونًا صغيرًا منفتحًا على الكون اللانهائي من النصوص، وذلك على نحو جعل من كل نص نصًا متناصًا بالضرورة، كأنه كتابة على كتابة، وكما لو كان كل نص يستعيد النصوص اللانهائية السابقة والمعاصرة، ويعيد كتابتها على نحو يبرز موهبة صاحبها بالقياس إلى معاصريه أو سابقيه. وأضيف إلى التناص الذي فتح بنية النص على غيرها من بنية النصوص، فكرة الدال الذي ليس له مدلول محدد، لأن الدال نفسه حائم، كأنه يندفع عبر أمواج من الدلالات والمدلولات ولذلك لا ينغلق النص على نفسه، ولا يقبل تفسيرًا واحدًا أبدًا، فالنص مفتوح، يمكن الدخول إليه من أي مكان أو اتجاه أو حتى منظور. يضاف إلى ذلك أن النص ليس بنية مفتوحة فحسب، وإنما هو، فضلاً عن، ذلك بنية تنطوي على تعارضات وتناقضات، وكلما قمنا بالتركيز على وجه من وجوه علاقاته المتصارعة خرجنا بمعنى جديد، فالنص حمال أوجه إلى ما لانهاية، لا حدود لتنوعه أو انسياب دواله الحائمة . والتضاد بين البنيوية والتفكيك في السياق العام لهذا المنظور هو أن البنيوية تريد أن ترى الجمال في النظام، والنظام في الفوضى، فهي نزوع عقلي يريد أن يحبس كل شيء في نسق حتى يجعله مفهومًا، دائرًا على مركز بعينه، أما التفكيك فهو نقيض المركز . وإذا كانت البنيوية تسعى إلى تفكيك النص بما يجعلنا نفهم سر تركيبه فإن التفكيك هو نقض مستمر لهذا البناء الذي نتخيله متماسكًا ذا مركز . فليس هناك مركز للنص ولا بناء مغلق، والحق أن التفكيك ترجمة اجتهادية، لكنها ليست دالة على الأصل الذي أقرب الكلمات إلى ترجمته: «النقض Deconstruction » ولكن الترجمة التي شاعت هي التفكيك بمعنى الدخول والخروج إلى النص من كل مدخل، وعدم تثبيت النص في معنى واحد أو دلالة ثابتة، فكل ما هو صلب في النص يذوب في هوائه، والنص كالهواء سيال وغير ثابت وينقض بعضه بعضًا.

أما نظريات الخطاب فما يجمع بينها هو فهم النص بوصفه تشكلات لغوية اجتماعية، وذلك على نحو لا يمكن الفصل فيه بين الخطاب وفاعله ومستقبله على السواء. والنتيجة هي فتح النص المغلق على العالم السابق على تشكله والعالم اللاحق على تشكله. والمسافة غير بعيدة بين هذا القول ونظريات الاستقبال التي تفهم النص بوصفه رسالة موجهة من مرسل إلى مستقبل أو متلقٍ . لكن مع تتبع تغير أحوال الاستقبال والسياقات المتغيرة التي تتم فيها بما يؤدي إلى تولد مؤثرات تترك أثرها في فهم دلالات القارئ ببعض الذي يستقبله، ومن المؤكد أن لكل عصر عدساته الخاصة التي تفرض نفسها على عملية استقبال النص، فضلاً عن أن المؤثرات الثقافية لكل بيئة تسهم في الطريقة التي يستقبل بها أبناء كل بيئة نصًا من النصوص. والعلاقة بين فاعلية القراءة، والعوامل التي تتدخل من خارجها كي تؤثر في عملية الفهم، خلال فعل الاستقبال والتلقي هي عوامل تصل بين نظريات الاستقبال ونظريات الهرمنيوطيقا المختلفة.

أصل التأويل

والهرمنيوطيقا كلمة ترجع إلى أصل يوناني قديم يعني الفهم والتأويل. وقد نشأ مجالها البحثي في دائرة النصوص المقدسة أولاً، ثم انتقلت من النص الديني إلى النص الأدبي البشري، وأصبحت علمًا مجاله الآليات والعمليات التي نمارسها لكي نفهم النص الأدبي، ونتأكد من سلامة تفسيرنا أو تأويلنا له. وطبعًا تختلف النصوص الأدبية في هذا المجال، فهناك فارق كبير بين تفسير النص الأدبي الواقعي والنص الأدبي الرمزي، وقد كتبت كثيرًا عن الهرمنيوطيقا في مجال كتاباتي عن القراءة ونظرياتها التي اجتهدت فيها. وهناك، أخيرًا ما أصبح يسمى «خطاب ما بعد الاستعمار»، وهو الخطاب الذي صاغه نقاد العالم الثالث الذين عاشوا في العالم الأول، وتأثروا بنقد الفكر الكولونيالي الخاص بالاستعمار الاستيطاني وأشكاله المتقدمة التي صاغت خطابات الكولونيالية والإمبريالية العالمية. والواقع أن المسافة بين خطاب ما بعد الكولونيالية والنقد الثقافي جِدّ بسيطة.ولكي نفهم ذلك علينا إدراك أن «ما بعد» تشير إلى ما هو ضد أو نقض، فخطاب ما بعد الكولونيالية هو الكشف عن الأفكار والقيم التي زرعتها أنواع الاستعمار في اللاوعي الجمعي للشعوب التي وقعت تحت سيطرتها، أعني اللاوعي الجمعي الذي يصدر عنه الأديب في العالم الثالث دون أن ينتبه، ولا يتضح هذا الأثر إلا عند تحليل النص من منظور خطاب ما بعد الكولونيالية أو منظور نقض خطاب الكولونيالية . وهو خطاب يكشف في النصوص التي كتبها أدباء العالم الثالث وحتى أدباء العالم الأول المتضمنة آليات الهيمنة وإيديولوجياتها التي ظل الاستعمار يبثها في اللاوعي الجمعي من خلال ثقافات تابعة، لكي تلعب دور الإيديولوجيا التي تبقي الوعي الزائف والمزيف مسيطرًا على الكتابة وموجها لها.

النقد الثقافي

والمسافة ليست بعيدة بين هذا الخطاب والنقد الثقافي الذي لايزال شائعًا وله نماذج بارزة في نقدنا الأدبي العربي المعاصر، ومن أبرز هذه النماذج كتابات الناقد السعودي عبدالله الغذامي الذي أعلن مرة، إن لم تخني الذاكرة، أن النقد الأدبي مات، وما نهض مكانه أو على أنقاضه هو النقد الثقافي. والواقع أن النقد الثقافي لا يختلف عن غيره من أنواع النقد الأدبي، لأنه نقد لايزال ينظر إلى النص الأدبي، ولكن بدل أن نفهمه على أنه نص مكتفٍ بذاته أو مفتوح على العالم، فإنه ينظر إلى النص الأدبي بوصفه منتجًا ثقافيًا. ومعنى كونه كذلك أنه منتج صاغته ثقافة المجتمع الذي أنتجه من خلال أديب متفرد، هذا الأديب لا يملك إلا أن يعبر عن تحيزاته الثقافية في حالتي الدفاع عنها أو الهجوم عليها، وبراعة هذا النوع من النقد تظهر عندما يتصدى النقد الثقافي لمراوغة النصوص الأدبية وتعدد مستوياتها التي تنطوي على مسكوت عنه، أو أكثر، يمكن كشفه أو كشفها فيما بين السطور أو في الطبقات الخفية من النص.

تعدد المفاهيم والمداخل

والحق أن كل ما قلته من قبل هو محاولة لتعديد مفاهيم النص المتغاير بتغاير المداخل التي نلج منها إليه، أو تعدد العدسات التي نتطلع من خلالها إلى النص. وهذا يقودنا في النهاية إلى تحدي المناهج التي تتخذ شكل سؤال: ما المنهج الذي يختاره الناقد ويرتاح إليه، ويرى فيه خير طريق يقوده إلى روح النص الأدبي والكشف عن أسراره أو كنوزه التي تظل دائمًا في حاجة إلى الكشف؟

الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، وهي تعتمد على درجة ثقافة الناقد ونوعها والمدى الذي يمكن أن تتيح له منظورًا أكثر شمولاً ووضوحًا وعمقًا في آن . وأضيف إلى ذلك استقلال فكر الناقد الشاب على وجه الخصوص وقدرته على وضع كل المناهج بمداخلها المختلفة موضع المساءلة التي تقرن بين النظري والتطبيقي من إنجازات كل منهج ولا ينفصل عن ذلك الوعي بأن قيمة النظرية النقدية، أو منهجها، لا تعتمد على الإغواء البراق بوعود كثيرة قد لا تتحقق في فعل التطبيق، فالأهم من ذلك هو الرؤية النقدية، رؤية المساءلة، للمنهج بما لا يفصل بين تنظيراته وتطبيقاته، فإذا وجد الناقد الشاب ما يجيب عن أكثر أسئلته الحاضرة، وما يمكن أن يجيب عن أسئلة محتملة خلال الممارسة النقدية، فإن هذا المنهج يغدو بالتأكيد أفضل من غيره، وأولى بأن يختاره هذا الناقد الشاب أوالمبتدئ. وعندما ألح على فعل المساءلة وضرورتها فإن هدفي هو تجنيب الناقد المبتدئ غواية التقليد أو الموضة، فمن الخطر كل الخطر أن يندفع هذا الناقد إلى الاختيار نتيجة رغبته العفوية في تقليد أساتذته أو النقاد الكبار في عصره، أو يسير في الاختيار وبوصلته هي ما يسود أو يشيع، فإن هذا الناقد، أو فعل ذلك، لن يحقق إنتاجًا نقديًا مؤثرًا أبدًا، وأيًا كان حظه من النجاح فإن هذا الحظ لن يعدو أن يكون صوته النقدي صدى لغيره، لا جدة ولا نضارة فيه.

ويترتب على ما وضعته من شرط المساءلة شرط عدم الأخذ الحرفي للمنهج، فما أكثر النقاد والناقدات الذين قدموا إلينا في مجلة «فصول» نقدًا كنا نرى فيه تدريبات مدرسية على قواعد البنيوية عند هذا الناقد من نقادها أو ذاك. إن البراعة ليست في الأخذ، وإنما في إعادة الإنتاج الذي لا يتوقف، فالممارسة النقدية هي حالة إعادة صنع لايتوقف لمبادئ المنهج. ولابأس على الناقد المبتدئ أن يختار ما شاء من مناهج، ويوظف المنهج الذي اختاره على نصوص، لكن على نحو مرن، يعيد فيه الناقد إنتاج المنهج في كل مرة من مرات الممارسة، فهو لا يأخذ قواعد صماء يطبقها كما هي كل مرة، فكل مرة تختلف عن غيرها في نوعية الأعمال الأدبية التي لكل واحد منها خصوصيته التي تجعل منه أشبه بالبصمة غير القابلة للتكرار. إن الناقد المثالي هو الذي يجعل لمنهجه الواحد مجاله الخاص في كل مرة يمارس فيها عملية النقد التطبيقي. وهو في ذلك أشبه برسام البورتريه الذي لن تجد بين الأوجه التي يرسمها تطابقًا، ولن تجد في كل بورتريه تطابقا بينه و بين الأصل الذي يصوره . ومع ذلك فإنك عندما تتأمل العديد من البورتريهات التي رسمها هذا الرسام ستجد ما يربط بينها، أعني الأسلوب الخاص الذي تتكرر لوازمه على نحو متباين في كل مرة، وذلك على نحو يجعلك تهتف، إذا دخلت متحفًا كبيرًا: هذه اللوحة لرينوار، أو لمحمود سعيد، أو ديجا، أو بيكاسو. وهذه هي نقطة الأصالة في النقد التي نجدها في ممارسات كبار النقاد في العالم. ولذلك ذهب واحد من منظري النقد الكبار إلى تأكيد أنك لن تجد قواعد الرومانسية ومبادئها الحرفية عند شاعر مثل كولرد، ولا الحداثة عند رامبو، فكل مبدع أصيل هو أعلى من المذهب الذي ينتسب إليه وأسهم في إشاعته. ولن تجد التطابق بين مبادئ المذهب النقدي أو المنهج إلا عند نقاد الدرجة الثانية أو الثالثة، فالناقد الكبير كالفنان الأصيل يتأبى على قيود سجن النسق المذهبي ويتمرد على القواعد التي يحفظها نقاد الدرجة الثانية أو ما دونها عن ظهر قلب.

وعندما ينجح الناقد الشاب في مواجهة هذا التحدي المنهجي، فإن نجاحه يغدو علامة على صدقه من ناحية وجسارته التي تدفعه إلى تحديد قيمة العمل الأدبي دون خوف، خصوصًا مع ضغط الأحوال الاجتماعية التي تدفع إلى المجاملة، أو ضغط الأحوال السياسية التي قد تدفع إلى الخوف. ونتيجة الأحوال السياسية والاجتماعية التي نعيشها منذ فترة قد تطول أو تقصر، فعلم هذا عند الله، هي أن أغلب نقدنا العربي يميل إلى التغاضي عن تقدير «القيمة»، لقد تعلمنا وعلمنا طلابنا أن النقد الأدبي التطبيقي يقوم على ثلاث عمليات، أولاها: التحليل، وثانيتها: التفسير، وثالثتها: التقييم . التحليل يعني تحديد العناصرالتكوينية للنص دلاليًا أو إيقاعيًا وعلامة العنصر التكويني أو التأسيسي أنك إذا حذفته اختل بناء العمل. والتفسير هو الوصل بين العناصر التكوينية بما يكشف عن معنى أو معانٍ . ويشبه ذلك وضع مجموعة من النقاط المتناثرة على صفحة بيضاء، كلما وصلت بينها على هذا النحو أو ذاك اكتشفت معنى أو شكلاً دالاً. وتحديد القيمة هي العملية المترتبة على كل من التحليل والتفسير. وهي تحديد الناقد لموقع هذا العمل أو ذاك على درجات سلم القيمة صعودًا أوهبوطًا، وهي عملية تخضع لعلاقات غياب لا تكتمل إضاءة علاقات الحضور إلا بها، فأنت عندما تحدد القيمة تخرج من دائرة العمل الذي تم تحليله وتفسيره، وتدخل في مجال المقارنة بينه وبين غيره من الأعمال، خصوصًا المتميزة التي أجمع على تميزها الكثير من النقاد عبر أجيال مختلفة.

ولذلك فكل ناقد بعد أن يقرأ عملاً روائيًا مملاً لسين أو صاد من الناس، يقارنه واعيًا أو غير واعٍ بعشرات غيره من الأعمال التي يستدعيها الموضوع أو خصوصية البناء . وعندئذ يتشكل في وعيه ميزان للقيمة يعينه على تحديد هذه القيمة على نحو موضوعي، فإذا ارتفع العمل المنقود إلى مصاف طبقة عظماء الكتاب رغم اختلاف ما بينهم ارتفعت قيمة العمل المنقود على درجات سلم القيمة أو هبطت حسب ما يؤدي إليه التحليل والتفسير معًا. ولا شك أن الجهر بالقيمة المتدنية عملية صعبة، قد تعرقلها المجاملة الاجتماعية لمشرف على مجلة أو صفحة أدبية، أو تحول بينها عوائق سياسية، تدفع الناقد إلى الهروب من المصارحة ابتداء من التفسير وانتهاء بالتقييم، ومع الأسف فإن بعض المناهج النقدية، مثل البنيوية الشكلية على وجه التحديد، شجعت النقاد على الهروب من التقييم والاكتفاء بالتحليل والتفسير، ولكن هذا الزمن المضطرب الذي نعيشه يفرض علينا شجاعة المواجهة في كل شيء، ومن ثم العودة إلى عرض القيمة الأدبية على القارئ بشجاعة وجسارة مهما كانت النتيجة فهل تستوي روايات يوسف السباعي - مثلا - مع روايات نجيب محفوظ وهو معاصر له؟ وهل يتساوى عمل روائي مثل «شفرة دافنشي» وعمل روائي آخر مثل «اسم الوردة». هذان السؤالان يدخلان في عملية تحديد القيمة وهي عملية تكاد أن تكون أهم التحديات المطروحة على الناقد العربي المعاصر، خصوصًا مع اختلاط القيم واضطراب المعايير والمبادئ المحيطة سياسيًا واجتماعيًا.

 

 

جابر عصفور