صفحات مشرقة من تاريخ العرب إبراهيم بيضون

صفحات مشرقة من تاريخ العرب

حرب الثغور صراع لا يهدأ صيفًا ولا شتاء

حروب الشواتي والصوائف هي تلك الحروب المتواصلة التي شنها بنو أمية ضد بقايا الإمبراطورية البيزنطية دفاعًا عن حدود العالم الإسلامي وتعزيز المكانية.

بعد أن توالت الفتوحات الاسلامية انهارت تمامًا إمبراطورية الفرس, وامتدت الفتوحات بعيدا في الشرق, وتراجعت القوة الأخرى (البيزنطية), غربًا وانكفأت طويلاً على ذاتها, متحصّنة بالموقع الفريد لعاصمتها القسطنطينية, وببعض (الثغور) التي بقيت لها خطّاً دفاعيًا في آسيا الصغرى, حيث كانت مواجهة طويلة وصعبة مع الأمويين الذين كان فتح العاصمة البيزنطية, أحد أبرز الأهداف العسكرية لمعظم خلفائهم. ولكن التفوق البحري تصدى للطموح الأموي, متجسدًا على الخصوص في حملتي معاوية وسليمان, فانتهت كلتاهما إلى الفشل.

بيد أن البيزنطيين لم يكونوا دائمًا في الموقع الدفاعي, فلطالما تحفزّوا للتوسع شرقًا في آسيا الصغرى, وما برحوا يراودهم حلم العودة إلى الشام, حيث حضورهم الإمبراطوري, والأماكن المقدسة التي تمنحهم (شرعية) التمثيل للمسيحية على المدى الغربي, قبل أن تنكسر بعد انسحاب هرقل في أعقاب معركة اليرموك الحاسمة. وفي المقابل لم يؤد الإخفاق الأموي في الوصول إلى القسطنطينية, إلى الانكفاء العسكري عن آسيا الصغرى التي ظلت جبهة ساخنة بفضل جهود الخلفاء لتحصين الثغور فيها, ومن ثم ضخّها بالحملات, لتصبح جدارًا صلبًا أمام المحاولات البيزنطية للتقدم نحو الشرق.

ولقد واجه الأمويون تحديات كبيرة على هذه الجبهة ذات الطبيعة القاسية والمسالك المعقدة, مما جعل قواتهم تعاني صعوبات في تحركها, بعيدًا عن مراكز انطلاقها في الشام.

وفي ضوء ذلك كانت الحاجة إلى نظام حربي يجعل مواقعهم الحدودية آمنة من الهجمات البيزنطية المفاجئة, وهو ما عرف بنظام الثغور, حيث أقيمت مراكز تمّ شحنها بالمقاتلين في مواجهة (الأجناد) البيزنطية. والثغر لغةً, هو (الموضع الذي يكون فاصلا بين بلاد المسلمين) والأعداء, كما جاء في (لسان العرب).

معاوية وتقاليده الحربية

وكان معاوية بن أبي سفيان, أول المبادرين إلى اعتماد هذا التقليد الحربي, موجِّها الحملات صيفا وشتاء - وأحيانا في الربيع - وذلك في سياق توقيت محدّد من كل عام. وكان يقوم بمهامها (أهل الخبرة من الثغريين), حسب توصيف قدامة بين جعفر, الذي أورد أن الغزو في الصائفة كان يتم في العاشر من يوليو, ممتدًا, إلى حين قفول المقاتلين, شهرين, فيما الشاتية تكون في آخر فبراير حتى نهاية مارس. وقد اتخذت الحملات في معظمها سمة بريّة إذ لم يكن للعرب المسلمين قوة بحرية, حينذاك, متكافئة مع قوة البيزنطيين, ولكن معاوية, وهو بعد وال على الشام, سرعان ما تنبّه إلى هذه الثغرة, فبادر إلى إنشاء أسطول في عكا, أسهم في تحقيق شيء من التوازن في هذا المجال.

وعلى الرغم من توثيق هذه الحملات, لاسيما في تاريخ الطبري, فإن أخبارها كانت مقتضبة, ولم تحمل - باستثناء حالات قليلة جدًا - تفاصيل ميدانية, فيما خص موازين القوى, والصدامات المسلحة, والتغيير الجغرافي على جبهة الثغور. فلم تتعد غالبا الإشارة السريعة إلى توقيت حدوث الحملة, وقائدها, وصفتها, شاتية أو صائفة, على غرار ما ورد في أخبار سنة اثنتين وثلاثين لدى الطبري. إذ يقول: (وفيها كانت غزوة معاوية... مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة من بني نوفل بن عبد مناف). ولعل سبب ذلك عائد إلى أن هذه الجبهة ظلت الحرب على مساحتها في نطاق سجالي, مع أرجحية ما للعرب المسلمين الذين تجرأوا فبلغوا في غزواتهم القسطنطينية أكثر من مرة, خلافا للجبهات الأخرى التي شهدت معارك حاسمة, أسهب الإخباريون في مروياتهم عنها, سواء في المشرق أو في المغرب.

وعلى نحو ذلك كانت الإشارة في المقابل إلى عملية خطرة قام بها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل, ربما مستغلا حراجة الوضع الداخلي في أواخر عهد الخليفة عثمان (35هـ), فغزا (في ألف مركب يريد أرض المسلمين, فسلّط الله عليهم قاصفًا من الريح فغرقهم..), حسب الرواية التاريخية. ويبدو أن هذه الحملة, وهي آخر محاولات البيزنطيين حينذاك لاستعادة الشام, قبل أن تعصف الصراعات بهم, كانت حافزًا مباشرًا لتشكيل نظام حربي ثابت, يضع حدا للتهديدات البيزنطية, ويشكل بالتالي انطلاقة للمشروع الأموي الهادف إلى فتح القسطنطينية.

التعبئة والاستنفار

ومن اللافت أيضًا أن الشواتي, أكثر ما أتى على ذكرها الطبري, إذ بلغت اثنتي عشرة في عهد معاوية, بينما الصوائف لم تتعد الثلاثة, عدا غزوات لم تندرج في هذه أو تلك, منها غزوة يزيد بن معاوية إلى القسطنطينية في العام التاسع والأربعين للهجرة على سبيل المثال. هذا النظام الذي فرضته التحديات البيزنطية, ظهرت بوادره في العهد الراشدي, حين تقدم العرب المسلمون في آسيا الصغرى, وفرضوا سيطرتهم على بعض حصونها, مثل المصيصة وطرسوس وعمورية. ولكن هذه التي عرفت اصطلاحا بالثغور, ارتبطت بالعهد الأموي ورسخت في تقاليده وخططه وأهدافه. ومن هذا المنظور, كان التحول الذي أصاب بنية القوة المقاتلة في الشام, من التعبئة, أو الاستنفار في حالات معينة, فتحا أو تصديا لفتنة, إلى جيش محترف يرابط في الثغور أو يتوغل في ما يليها من المواقع البيزنطية. وقد شدد الخلفاء الأمويون على توسيع المشاركة في هذه الحملات, ولم يستثنوا منها أبناء الأسرة الحاكمة, إذا كان على المتخلفين عنها من الأخيرة, إرسال بدائل عنهم, حسب مروية الطبري.

ولعل من الدوافع المباشرة لهذا النظام الحربي, توغل تلك الفرقة البيزنطية في الشام, في وقت كان معاوية منهمكا في شئون دولته الداخلية, وهي المعروفة, تواترا, بـ (المردة).

وقد اعتاد المؤرخون عموما, الخلط بين هؤلاء المردة و(الجراجمة) في جبل اللكام, واعتبارهم مجموعة واحدة, شكّلت ما يسميه (ثيوفانس) الجدار النحاسي أمام هجمات العرب المسلمين.

وإذا رجعنا إلى (حولية) المؤرخ البيزنطي, سنجد أنه يعرّفهم بالمرديين من دون أن يقرنهم باسم آخر, فيما البلاذري يطلق عليهم (خيل الروم), بمعنى الفرقة العسكرية التي (ضوت إليها - حسب تعبيره - جماعة كبيرة من الجراجمة وأنباط وعبيد أبّاق من عبيد المسلمين), مما يؤكد الاختلاف بين المجموعتين السالفتين. وما يعنينا هنا, أن معاوية, وهو منهمك في أحداث العراق, صالح الإمبراطور البيزنطي على مالٍ يؤديه إليه, مقابل انسحاب تلك الفرقة من الشام. ولم يكد يستتب الأمر في أرجاء الخلافة, حتى كانت الغزوات تأخذ مسارها الاعتيادي إلى (أرض الروم), مخترقة خطوط البيزنطيين باتجاه عاصمتهم المنيعة.

حتى جزيرة رودس

وكان العام الخامس والأربعون للهجرة, إيذانًا ببدء العمل بهذا النظام الحربي, حيث أخذت الشواتي تنطلق سنويا, بدءا من غزوة عبدالرحمن بن خالد, ثم غزوات مالك بن عبدالله الخثعمي (46هـ), ومالك بن هبيرة السكوني (47هـ), وعقبة بن عامر الجهيني (لم يُذكر أنها شاتية أو صائفة) في العام 48هـ, ومالك بن هبيرة أيضًا (49هـ), وغزوة ليزيد بن معاوية - كما سبقت الإشارة - غير مندرجة في الحملات التقليدية في العام نفسه, شارك فيها الصحابي الشهير أبو أيوب الأنصاري, وأبناء الصحابة: عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير, كما ذُكرت في هذا العام أيضا, شاتية لفضالة بن عبيد, وأخرى بحرية ليزيد بن شجرة الرهاوي. ويبدو أن الغزوات توقفت بعد ذلك حتى العام 52 للهجرة, حين استؤنفت الشواتي بقيادة سفيان بن عوف الأزدي, أو بسر بن أبي أرطأة, ثم توقفت مرة أخرى إلى أن كانت شواتي سفيان بن عوف (55هـ), وجنادة بن أبي أمية (56هـ) وعبدالله بن قيس (57هـ), ويزيد بن شجرة (في البحر), فضلا عن مالك بن عبدالله الخثعمي (58هـ). وكانت آخر الشواتي في عهد معاوية, بقيادة عمرو بن مرة الجهني, قبل أن يُختتم بغزوة جنادة إلى جزيرة رودس. وثمة ما يمكن ملاحظته بشأن هذه الغزوات, أنها ارتبطت بمجموعة من القادة تفرغوا لهذه المهمة على جبهة الثغور, إذ تكررت أسماؤهم أكثر من مرة, سواء في البر أو في البحر.

ولعل هذه الظاهرة تؤكد المنحى الاحترافي للجيش الأموي, بما يتواءم وطبيعة المرحلة وخصوصيتها, فضلا عن جدية المشروع الهادف إلى فتح القسطنطينية, الذي أصبح من ثوابت السياسة الحربية لدى الخلفاء الأمويين. وكانت الريادة في هذا السياق, اختراقا لخطوط العدو, معقودة لعبدالرحمن بن خالد بن الوليد الذي أخذ عن أبيه الجرأة والقيادة الفذة, مما جعل لانتصاراته ذلك الدوي لدى أهل الشام.

كما يأتي مالك بن هبيرة السكوني في طليعة قادة الشواتي الذين توغلوا بعيدا في (أرض الروم), متفردا بغزواته البرية والبحرية على السواء. وفي ضوء ذلك يصبح هذا النظام من ضرورات السياسة الحربية, مثبتا أهميته في اتجاهين: الأول, يصب في تحصين الجبهة الشمالية الأكثر خطورة, والثاني يعبّر عن طموح الخليفة المؤسس إلى السيطرة على العاصمة البيزنطية.

ولم يطرأ في الواقع تغيير على هذا النهج في العهد المرواني من الخلافة الأموية, والذي تأسس في ظل أزمات داخلية معقدة, مما فرض بدايةً جمود العمليات الحربية على هذه الجبهة. ونتيجة لذلك, فإن ما حدث في مطلع عهد معاوية, يتكرر في بدايات حكم عبدالملك بن مروان, حين قام البيزنطيون, مستغلين الاضطرابات في الحجاز والعراق, فضلا عن الشام (محاولة انقلاب عمرو بن سعيد بن العاص), بدفع عصابات المردة إلى التوغل في الأخيرة وتهديد أمنها. كما يشير ثيوفانس إلى طاعونٍ أصاب حينذاك المنطقة, مما حمل عبدالملك على عقد اتفاق مع الإمبراطور البيزنطي, على غرار ذلك الذي تمّ في عهد سلفه السفياني, وقضى بانسحاب هؤلاء المردة وزوال خطرهم نهائيًا عن الشام.

ولكن هذا الاتفاق الذي (كان سلمًا في ظل حرب مستمرة), كما يصفه الدكتور إحسان عباس, لم يتعد الحالة الطارئة, إذ سرعان ما عادت الغزوات تتخذ مسارها التقليدي, وبوتيرةٍ أكثر دينامية من العهد السابق. فقد استعاد عبدالملك حينئذ وحدة الخلافة الأموية, ولم يعد ما يعوق استئناف الغزوات نشاطها, الذي انطلق في مواجهة البيزنطيين, على محورين: الأول, أكثر صخبا على الجبهة الغربية (إفريقية),. حيث شهدت مبكرا عمليات عاصفة ضد قبائل البربر, تساندها القواعد الحربية البيزنطية, والثاني شابه تقطّع حينذاك إذ تطلب تعبئة استثنائية, على الجبهة الشمالية.

أبناء الخلفاء في الحرب

ولم يدخّر الخلفاء المروانيون جهدا في إحياء نظام الثغور, وتفعيله بما يتجاوز العهد السابق, وهو ما تجلى خصوصًا في انخراط أبناء الأسرة الحاكمة على نطاق واسع في الغزوات التقليدية. ولعل هذه الظاهرة أضافت تقليدا جديدا في السياسة الحربية للأمويين, حين تولى أبناء الخلفاء, فضلا عن إخوتهم غالبية هذه الغزوات, التي اتسمت حينذاك بالدينامية وتوهّج الروح القتالية لدى الجنود المشاركين فيها. ومن هؤلاء محمد بن مروان الذي عرف بـ (قائد الصوائف), إذ حقّق في إحداها انتصارا على البيزنطيين (73هـ) وتصدى في ثانية لهم, بعد تجاوزهم خط الحدود من مرعش (75هـ). وتتقطع بعد ذلك أخبار الغزوات, في وقت كان الخليفة (عبدالملك) منصرفا إلى تنظيم شئون دولته, خصوصا على الصعيدين الإداري والاقتصادي, وذلك حتى السنة الرابعة والثمانين للهجرة, حين كانت غزوة لابنه عبدالله, انتهت إلى فتح المصيصة, على حد رواية الواقدي, التي ربما استعادها البيزنطيون خلال توقف الحملات في السنوات التسع السابقة.

ولكن هذه الجبهة لا تلبث أن تستعيد حيويتها, فتستأنف الغزوات مجددا حركتها التقليدية, ابتداءً من العام السادس والثمانين, في ظل رعاية مباشرة من أبناء الأسرة الحاكمة.

ويتجلى حينذاك أعظم قادة الأخيرة, وهو مسلمة بن عبدالملك الذي اقترنت باسمه معظم الحملات في عهد أخيه الوليد وما بعده. بيد أن هذه وإن اتخذت مسارها المنتظم إلا أنها لم تحمل, إلا قليلا, توصيفها السالف في الروايات التاريخية. فقد اندرجت غالبا تحت عنوان الغزوات, التي استهلها مسلمة بحملة توغلت في (أرض الروم) وثانية إلى حصن سوسنة (87هـ) في ناحية المصيصة, مفتتحا عددًا من الحصون بالقرب من طوانة, التي تمّ فتحها على يده في غزوة ثالثة (88هـ), وكان معه ابن الخليفة العباس بن الوليد. ولعل من أبرز الحملات حينذاك, تلك التي حدثت في العام التسعين, حين غزا مسلمة, ومعه العباس أيضا, (أرض الروم), فافتتح الأول حصن سورية, والثاني حصن دورلية, حسب رواية الواقدي, وفي رواية أخرى, أن مسلمة تابع سيره إلى عمورية, فافتتحها بعد معركة طاحنة مع البيزنطيين.

وبهذه الوتيرة استمرت منتظمةً حملات مسلمة, حتى إذا كانت سنة إحدى وتسعين, عادت الروايات إلى ذكر (الصائفة) في وصفها لغزوةٍ قام بها مصحوبا بابن آخر للخليفة (عبدالعزيز بن الوليد), ثم تُمِسك عن ذلك في غزوة العام التالي (92هـ), وهي بقيادة مسلمة أيضا, وصحبة الابن الثالث للخليفة (عمر بن الوليد), حين افتتحا معا ثلاثة حصون في (أرض الروم). ويحمل لنا العام الثالث والتسعون, ثلاث غزوات في هذه الجهات, إحداها بقيادة العباس بن الوليد, أسفرت عن فتح سمسطية, والثانية, بقيادة مسلمة, مفتتحا أربعة حصون في ناحية ملطية, والثالثة بقيادة ابنٍ رابع للخليفة ارتبط اسمه بهذه الجبهة, وهو مروان بن الوليد, الذي افتتح حصن خنجرة. وما تبقى من عهد الوليد, فقد اقتصر على غزوتين بقيادة العباس (94 و95هـ), وثالثة وُصفت بالشاتية تولاها الابن الخامس للخليفة (بشر بن الوليد) في العام السادس والتسعين فيما كانت صائفة في آخر هذا العهد تفتتح حصن عوف بقيادة مسلمة.

ولعل ما يستوقفنا في هذا السياق, أن عهد الوليد, بلغ ذروة الاستقرار والرخاء في خلافة بني أمية, مرتكزًا من دون شك على جهود سلفه في هذا المجال, ممّا أتاح له توسيع دائرة الفتوحات على مختلف الجبهات, بما فيها الجبهة البيزنطية. وقد اتسمت العمليات - كما رأينا - على مساحة الأخيرة بالانتظام, الذي يشبه ما شهدته بلاد ما وراء النهر بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي, إذ كانت ترمي إلى إنهاك مواقع العدو, تمهيدا لعملية حاسمة تستهدف القسطنطينية, على نحو ما جرى - بالأسلوب عينه - من استهدافٍ لبخارى وسمرقند وغيرهما من المدن على الجبهة الشرقية. ولم يحدث ذلك بمعزل عن المناخ الذي ساد المرحلة, محفّزا على الجهاد الذي استعاد حينذاك بريقه مع رموز من النخب القيادية, ولم يحدث أيضا دون الالتزام الأموي بهذا المبدأ ومن ثم المشاركة اللافتة من أبناء الأسرة الحاكمة, لاسيما أبناء الخليفة, وأخيه قطب المرحلة مسلمة في الحملات المكثفة.

الخليفة الغامض

وفي ضوء ذلك, لم يكن مفاجئا تكريس الخليفة الجديد (سليمان بن عبدالملك) جهوده لهذه القضية, مستفيدا من اختلال التوازن لمصلحة الأمويين على جبهة الثغور. فلم يكد يتولى مهامه, حتى كانت صائفة بقيادة ابنه داود تشق طريقها في هذه الجبهة, مفتتحةً أحد حصونها, ثم تعقبها غزوة على رأسها أخوه مسلمة, وشاتية بحرية لعمر بن هبيرة الفزاري (97 هـ), توغلت كلتاهما في (أرض الروم) ومهّدت للحملة الكبرى التي كان الخليفة حينذاك في صدد الإعداد لها. ومع حلول العام 98هـ, كان سليمان الذي انتقل إلى دابق, حيث اتخذ معسكرا له, قد أنهى إعداد حملته التي جعل مسلمة - الأكثر خبرة في الحرب ضد البيزنطيين - قائدا لها, (وأمره - حسب رواية الطبري - أن يقيم عليها (القسطنطينية) حتى يفتحها).

إن ثمة غموضا يكتنف شخصية هذا الخليفة في المرويات التاريخية, فلم تُحط هذه تماما, ربما لقصر عهده, بما رهص به الأخير من تغيّرات مهمة, تجلّت ملامحها على الخصوص في اختياره لعمر بن عبدالعزيز خليفة له, خارقا العرف في تقاليد أسرته. وقد جاءت حملته الشهيرة معبِّرة عن هذا النهج في السياسة الأموية, وذلك بوضع حد لحروب الثغور الطويلة, والتي ما برحت تستنزف طاقات الخلافة, من دون الوصول إلى نتائج حاسمة. ومن هذا المنظور, أخذ قراره بفتح العاصمة البيزنطية, بما يعنيه ذلك أيضا من امتياز لم يتحقق لأسلافه, مكتنها, في الوقت عينه, أهمية هذا الإنجاز - لو تحقق - وانعكاسه على بنية النظام الذي كان في أمس الحاجة حينئذ إلى حركة إصلاحية شمولية.

وهكذا, فإن هذه الحملة لم تكن مجرد عمل عسكري توسعي, يحقق الشهرة للخليقة الطموح فحسب, بل كانت في بعدها السياسي تحمل مشروعا غير منفصل عن الجبهة الداخلية التي عانت الانقسامات القبلية, عدا الصراع - ربما غير الظاهر حينئذ - على السلطة. وفي هذا السياق ندرك أهمية القرار الذي اتخذه سليمان, متفرغا إلى حد كبير لهذه المهمة, ومشددا بكل السبل على إنجاحها, وباثّا بالتالي روح الحماسة في قادته وجنوده, إذ (أعطى الله عهدا - حسب مروية الطبري - ألا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية).

الحملة تنسحب

ولكن الأهداف الكبيرة قد تصاب بخيبات أمل كبيرة, إن لم تتوافر لها المعطيات والظروف الملائمة, فتصبح حينئذ الآلة العسكرية وحدها عاجزة عن تحقيق النصر. فقد ردّت الروايات العربية تعثرات الحملة إلى عامل خارجي, إذ تزامنت مع وفاة الإمبراطور البيزنطي, ودعوة بطارقة القسطنطينية, (اليون) من أرمينية, إلى أن يكون ملكا عليهم, مشترطين دفع خطر القائد الأموي عنهم. فاستدرج اليون مسلمة إلى مفاوضات, تظاهر فيها بقبول سيادة العرب المسلمين على العاصمة البيزنطية, مقابل اعترافهم به إمبراطورا, ولكنه لم يكد يتوّج في القسطنطينية, حتى أخذ في تنظيم مقاومتها, متصدّيا بكل الوسائل للحصار الأموي. في هذه الأثناء, كان مسلمة يتابع تنفيذ خطته, متقدما بعد السيطرة على عمورية, إلى برجاموس وسرديس, ومن ثم متاخما أسوار القسطنطينية صيف العام 98هـ/716م. وقد دام حصار المدينة نحوا من عام, وكان شديدًا على الطرفين, ولكن العرب المسلمين الذين عانوا برودة المناخ وصعوبة وصول الإمدادات, كانوا أكثر مكابدة للصعوبات, لاسيما أن البيزنطيين مازالوا حينئذ يملكون زمام التفوق في السلاح البحري. كما أن وفاة سليمان المفاجئة أسهمت في تعقيد الموقف, في وقت غزا الإحباط عناصر الحملة, وهم على وشك مواجهة شتاء جديد, غير مؤهلين له, الأمر الذي حدا - بناء على هذه المعطيات - الخليفة الجديد (عمر بن عبدالعزيز) على إصدار أمره بانسحابها.

ولم يخل فشل الحملة من تأثير سلبي واضح على الحرب مع البيزنطيين, والتي طُوي في سياقها لوقت طويل مشروع السيطرة على عاصمتهم, ولكن حرب الثغور, وإن خفت, بصورة ما, وتيرتها, ظلت تتخذ مسارها شبه الاعتيادي حتى أواخر عشرينيات القرن الثاني للهجرة. فما برحت هذه من ضرورات السياسة الحربية للخلفاء الأمويين, متابعين تسيير الحملات إلى هذه المنطقة, تحصينًا لخطوطهم الدفاعية, وحفاظًا على موازين القوى التي ظلت غالبًا لمصلحتهم فيها. وإذا كانت لعمر بن عبدالعزيز نظرته الخاصة في هذه السياسة. وذلك في عزوفه عن متابعة العمليات التوسيعية, موليًا الأهمية للوضع الداخلي, فإن هذا القرار لم يشمل, بالصورة عينها, الجبهة البيزنطية, انطلاقًا مما يشكّله ركودها من خطر على دولته. بيد أن المرويات لم تحمل إلينا, سوى خبر عن غزوة واحدة كانت صائفة, بقيادة الوليد بن هشام (100هـ), من دون الإشارة إلى مداها في (أرض الروم) والنتائج التي أسفرت عنها.

وفي عهد خليفته (يزيد بن عبدالملك), وهو لم يدم سوى بضع سنوات أيضا, تفجّرت الصراعات التي رهص بها عهد سليمان, وأثارت قلق خليفته, فكانت وراء موقفه الخاص من حركة الفتوح. فقد انصرف يزيد إلى مواجهة هذه الاضطرابات في العراق وبلاد ما وراء النهر, مستعينًا بقادة الثغور, من أمثال مسلمة بن عبدالملك, والعباس بن الوليد, مما يؤكد صحة الرأي الذي ذهب إليه الخليفة السابق, بربطه حركة التوسع بقوة النظام, وخلافا لذلك, أدى ارتباك الأخير, إلى انكفاء الحرب على جبهة الثغور, فلم يرد في المرويات عن عهد يزيد, ما يتعدى صائفة (105هـ) بقيادة سعيد بن عبدالملك, (في نحو ألف مقاتل أصيبوا جميعًا), حسب الطبري, فيما اليعقوبي يشير إلى أكثر من غزوة, ولكن من دون أن تُحدث تغييرا ما على هذه الجبهة.

إحياء حرب الثغور

بيد أن المعادلة استعادت بعض حيويتها في عهد هشام بن عبدالملك, الذي امتد عشرين عاما, شهد بعضه استقرارًا دفع بالخليفة إلى إحياء الشواتي والصوائف على نحو من الانتظام والفعالية. ولقد استمر في هذا العهد أيضًا, تولي أبناء الخلفاء مهمات أساسية على هذه الجبهة, مما لا نجده على الجبهات الأخرى في العصر الأموي. ففي السنة السادسة بعد المائة, غزا سعيد بن عبدالملك الصائفة, وتبعه في العام التالي (107هـ), معاوية بن هشام في الصائفة أيضا, فيما عاد مسلمة إلى استئناف غزواته (108هـ) في (أرض الروم), التي شهدت توغل الابن الثاني للخليفة (إبراهيم ابن هشام), فاتحا أحد حصونها, وفي العام التاسع بعد المائة, استهدفت البيزنطيين غزوتان: إحداهما بحرية بقيادة أحد الفهريين الذين تجلى تراثهم الجهادي في فتوح المغرب, وهو عبدالله بن عقبة, والثانية برية بقيادة معاوية بن هشام, فاتحًا أحد الحصون البيزنطية. وفيما شُغل مسلمة في العام التالي (110هـ) بحروب الترك, تولى معاوية مهمة الغزو في (أرض الروم), ففتح حصن صمالة, مُدعّما بصائفة بحرية بقيادة عبدالله بن عقبة. وفي العام الحادي عشر بعد المائة, كانت صائفتان بقيادة معاوية بن هشام, وأخيه سعيد ثالث أبناء الخليفة الذين عرفتهم جبهة الثغور, فضلا عن غزوة بحرية بقيادة عبدالله ابن أبي مريم, ولكن الرواية التاريخية لم تشر إلى تفاصيل عن هذه الغزوات.

ومن اللافت أن المرويات لم يعد يتردد فيها ذكر الشواتي, إذ أصبحت الغزوات, على ما يبدو, مقتصرة على الصوائف, وقيادتها في الغالب معقودة لمعاوية بن هشام. ولكن تلك الفترة تميزت بحركة جهادية, لم تخل من الأسطورة, في الحرب ضد البيزنطيين, وهي التي عبّر عنها عبدالله بن أبي يحيى المعروف بالبّطال. وقد ذكره الطبري لأول مرة في أحداث العام الثالث عشر بعد المائة, وذلك في سياق الإشارة إلى هزيمتهم أمام البيزنطيين ومقتل قائد الحملة عبدالله بن بخت. وفيما عدا ذلك, نفتقده في الروايات العربية التقليدية التي تابعت كعادتها, باختصار شديد أخبار الغزوات بمعزل عن هذا المقاتل الباسل, باستثناء إشارة إليه لدى الطبري أيضا في أحداث العام 114هـ, ولدى اليعقوبي في العام 115هـ. ولكن كليهما يتفق على قائدي الغزوة حينذاك, وهما معاوية وسليمان (رابع القادة من أبناء هشام), إذ كان (البطّال) على المقدمة التي هزمت الإمبراطور البيزنطي.

وكان أبناء الخليفة: معاوية وسليمان, ومسلمة (الابن الخامس), بالإضافة إلى ابن عمه مروان بن محمد, قد تولوا أمر الصوائف حتى نهاية هذا العهد الذي اختتم مسيرته بصائفة النعمان بن يزيد بن عبدالملك. ولعل غياب اسم (البطّال), مقابل الحضور البارز لأبناء الأسرة الحاكمة, عن المرويات العربية للمرحلة, يفسر بأن هذه - كعادتها - كانت أكثر اهتمامًا بالقادة من الحدث عينه, والذي ما انفك يندرج مبتسرا, خُلوًا من التفاصيل بصورة عامة في هذه المسألة. ولذلك كان علينا البحث عن مصدر آخر, للتعرف إلى هذا المحارب الجريء الذي طبع المرحلة بشخصيته الفذة, وانتزعت شجاعته الإعجاب من نفوس أعدائه, متوقفين خصوصًا عند المؤرخ البيزنطي ثيوفانس, حيث أورد في (حوليته) أخبارًا مثيرة عنه.

أسطورة (البطّال)

وفي ضوء ذلك يقارب الدكتور إحسان عباس ظاهرة (البطّال), محاولا إخراجه من هالة الأسطورة, ليضعه في الصورة الملائمة, المبنية على معطيات التاريخ. فيقول معللاً الدور الذي تصدى له في وقت ما من العهد المرواني: (لم يكن البطّال في مستوى مسلمة بن عبدالملك أو غيره من القادة المشهورين في تلك الحروب, بل فارسا محارباأوتي من الجرأة والإقدام حدًا مذهلاً, حتى يخيل لمن يقرأ أخباره أنه كان مغرما بدخول المآزق, وكان لا يبالي بالأخطار). وقد ذاعت شهرة البطّال, واقعًا, في عهد الخليفة هشام, حين استعادت حروب الثغور توهجها, في ظل تعديل طرأ على الصوائف التي تفرّعت إلى اثنتين (يُمنى ويُسرى) بدل واحدة في كل عام. وكان البطّال حينئذ قد تولى ثغر المصيصة, وأخذ ينشر السرايا راصدة تحرّكات الأعداء, وممهدة بالتالي لإحدى الصائفتين.

وثمة مواقف عدّة نُسبت لهذا القائد في الحرب ضد البيزنطيين, إذ توغل, دون تهيب, في بلادهم, وحقق انتصارات مهمة على جيوشهم, حتى بات اسمه يثير الرعب في نفوس الكبار والصغار. ولكن البطّال الذي قُتل على الأرجح, في إحدى الصوائف, لم يضف, ما يتعدى الفروسية, إنجازات لافتة إلى المرحلة التي أصبح, في بعض المرويات, ظاهرتها الأسطورية.

ولكن الظاهرة حقيقة, يمثلها النظام الذي اتخذ فرادته على هذه الجبهة, حيث تصدى الأمويون من خلاله للمحاولات البيزنطية الهادفة إلى استعادة الشام, وجسّد في المقابل المشروع - الحلم لمعظم الخلفاء, وهو فتح القسطنطينية, ولم يكن ممكنا إبقاء هؤلاء زمام المبادرة في يدهم, من دون هذا النظام الذي تطلب جهدًا كبيرًا, ولكنه كان لايزال مصدر أمنهم السياسي في المنطقة. وفي ضوء ذلك لم يجد العباسيون, عند قيام دولتهم, بدًا من اللجوء إلى هذا التقليد الأموي, تحصينًا لخطوطهم الدفاعية ضد البيزنطيين. بيد أن تعديلاً طرأ على هذا النظام في عهدهم الأول, حين قاد بعض الخلفاء بأنفسهم الحملات العسكرية, لاسيما الرشيد والمأمون والمعتصم, وهو ما لم يحدث في العهد الأموي السالف.

ولم يتردد مصطلح الشواتي أو الصوائف في غزوات العباسيين, باستثناء حال واحدة عندما عهد الرشيد إلى هرثمة بن اعين بقيادة الصائفة إلى طرسوس, في العام الواحد والسبعين بعد المائة, حسب رواية البلاذري. كما طرأ تغيير على مصطلح الثغور في هذه المرحلة, فصارت الشامية منها تعرف بـ(العواصم) ابتداء من عهد الرشيد, الأكثر شهرة في الحرب ضد البيزنطيين.

ولكن العباسيين, حتى في زمن قوتهم, لم يتوخوا ما يتعدى إظهار التفوق في سياساتهم الحربية على هذه الجبهة, إلى تبني مشروع فتح القسطنطينية على غرار أسلافهم الأمويين. بالإضافة إلى ذلك, فإن مشاغلهم الشرقية, حالت دون إبداء اهتمام أكثر بهذه المسألة التي انتهت إلى ركود لم يستغله في المقابل البيزنطيون, الغارقون حينئذ في أزماتهم الداخلية.

 

إبراهيم بيضون