نقولا زيادة.. شيخ مؤرخي العروبة والإسلام محمد مخزوم

نقولا زيادة.. شيخ مؤرخي العروبة والإسلام

مؤرخ موضوعي, يطرح الإشكالية التاريخية ويعالجها من مختلف زواياها وينفذ من خلال الاستنتاجات إلى مقاربة الحقيقة.

في سنة 2002 أصدرت الدار الأهلية للنشر والتوزيع في بيروت الأعمال الكاملة للدكتور نقولا زيادة في ثلاثة وعشرين جزءا, تعتبر القسم الأعظم من نتاجه العلمي الذي بلغ واحدا وأربعين كتابا باللغة العربية على مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين, إلى جانب ما صدر له من كتب باللغة الإنجليزية وعددها ستة كتب بالإضافة إلى العديد من الكتب المترجمة من الإنجليزية إلى العربية وإلى المئات من المقالات والبحوث والندوات أكثرها تناولت موضوعات تاريخيه خاصة بالحضارة العربية الإسلامية.

ولد نقولا زيادة بدمشق في الثاني من ديسمبر عام 1907 من أبوين أصلهما من الناصرة بفلسطين وتلقى دروسه الابتدائية في مدارس دمشق والناصرة وجنين, والثانوية بدار المعلمين الابتدائية (الكلية العربية فيما بعد), ثم أكمل دراسته الجامعية في جامعة لندن وحاز على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي في موضوع الحياة المدنية في بلاد الشام 1000 - 1400م. وهو يتقن إلى جانب العربية والإنجليزية اللغة الألمانية.

زاول نقولا زيادة التعليم في مدرسة عكا الثانوية, ثم محاضرا في الكلية العربية والكلية الرشيدية في القدس, وبعدها في مركز دراسات الشرق الأوسط في القدس, ثم قارئا في قسم اللغات الشرقية في جامعة كمبردح. كما عمل مساعدا لمدير المعارف في برقة. وفي سنة 1949 عين بدائرة التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت (أستاذا مساعدا), وفي سنة 1958 أصبح أستاذا, وشغل هذا المنصب حتى سنة 1973. وهو اليوم أستاذ شرف في تلك الدائرة.

عمل نقولا زيادة أستاذا زائرا في عدة جامعات منها: هارفارد, عليكرة الإسلامية بالهند, كلية كانو الجامعية, جامعة زاريا (في نيجيريا), ثم عين شمس والجامعة الأردنية والجامعة اللبنانية. كما شغل منصب أستاذ في كلية اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت, ومشرفا على رسائل الدكتوراه في التاريخ بجامعة القديس يوسف, كما شغل عضوية جمعية المستشرقين الأمريكية وأكاديمية العصور الوسطى الأمريكية والمجمع العلمي العراقي وجمعية المستشرقين الألمانية.

هل كان من قبيل الصدف أن تنشأ في الغرب الأوربي وتحديدا في فرنسا, مدرسة الحوليات (Les Annales) التي تأسست عام 1929 على أيدي مارك بلوخ ولوسيان فيفر وبروديل الذي تابع نهجهما فيما بعد, بموازاة الفكر التاريخي الذي نهجه نقولا زيادة في مشرقنا العربي, بدءا من سنة 1930 في أول مقال علمي نشرته له مجلة المقتطف?

لقد رفضت مدرسة الحوليات التاريخ السياسي السائد آنذاك محاولة التركيز على قضايا المجتمع والانفلات من وصاية الدولة على المعرفة, ولا سيما المعرفة التاريخية, مؤكدة على وجوب توسع الدراسات في حقل العلوم الاجتماعية: الألسنية, التحليل النفسي, الأنثروبولوجيا, وخاصة علم الاجتماع, الذي شدد دوركهايم على وجوب دراسته مع عدم إنكاره لدور التاريخ وأهميته, معتبرا أن على المؤرخ (أن يكتفي بجمع الرحيق الذي يجعل منه عالم الاجتماع عسلا).

فالموضوعات المتعددة والمختلفة التي تضمنتها الأعمال الكاملة لزيادة لم تتخذ منحى أحاديا, بل إنها تتقاطع مع هذين القطبين, لكون هذه الموضوعات عالجت القضايا الاجتماعية والتاريخية المعاصرة للحدث في الزمان والمكان, فأصبحت بذلك على موازاة أطروحة ماكس فيبر بتقديمها أنماطا من الدراسات التي تجمع في إطار معرفي واحد, دراسة الدين والقيم والثقافة والتاريخ والقانون والاقتصاد وعلم الاجتماع دون أن تتجاهل علم السياسة.

المؤرخ.. جامع الرصيق

يعالج زيادة هذه القضايا من كونه محترفا دراسة التاريخ والتراث. فهو لا يقف عند الحدود الضيقة للمعرفة التاريخية, بل يتعداها إلى عمق المسألة الثقافية والفكرية. فتنوع الكتابات التاريخية عند زيادة يدل على إلمامه العميق وثقافته الموسوعية وإحاطته الكاملة بالمسائل التي عالجها متدرجا بها من العام إلى الخاص, ومن الكل إلى الجزء, جاعلا حركة التاريخ في ذهاب وإياب بين الماضي والحاضر. فمفهوم الثقافة التاريخية بالنسبة له هو في تخطي الاصطلاح المتداول لها إلى الكشف عن العلاقات الإنسانية والسمات الثقافية العامة وشتى أساليب الحياة التي تمارسها الجماعات البشرية.

أما أسلوب زيادة في الكتابة التاريخية فيصعب وصفه تمامًا كصعوبة تقليده. فهو يتجاوز أسلوب التوصيف وسرد الأحداث. أما أسلوبه اللغوي فيتميز بالسلاسة والفصاحة, لتصبح مفرداته ذات إيحاء خاص ضمن فضاء رحب. فلا تغيب عنه الدراسة الأكاديمية البحته والالتزام بالمنهج التاريخي من حيث التبويب والإسناد إلى المصادر والمراجع المتنوعة.

ميزة مؤرخنا الوضوح بعيدا عن التعقيد, والاستنتاج عنده خلاصة جهد من التقصي للمعرفة العلمية واستنطاق الأحداث. لا مسلمات لديه إلا ما يؤكده البحث الرصين. فدينامية الحضارة تقتضي استقصاء الحقائق وفهم العبر والاطلاع على النشاط الإنساني عبر التاريخ. فالموضوعية وتواضع العالم يرد على لسانه (ما زلت أكتب في الموضوعات التاريخية, وأنا أتعلم من أخطائي حتى الآن).

أما المضمون الغالب لأعمال نقولا زيادة فيدور حول التاريخ الإسلامي والعربي خلال العصور التاريخية, من العصور القديمة حتى تاريخنا الحالي. ويمكننا تقسيمها إلى مجموعات عدة: عربيات, شاميات, مشرقيات, مغربيات, لبنانيات, إسلاميات. ولما كان من الصعوبة تقديم خلاصات وافية عن هذه الأعمال فإنه يمكن الإشارة إلى بعضها كنماذج.

ففيما يتعلق بكتاب (شاميات, دراسة في الحضارة والتاريخ) يعالج مؤرخنا بعدة مقالات ودراسات تطور تفسير التاريخ من الأسطورة إلى التفسير الديني, ومن ثم تعدد المذاهب والمدارس التاريخية التي اختلطت بالاتجاهات السياسية والعقائدية, مما جعل - والكلام لزيادة - بعض المؤرخين يقعون فريسة النظرة الواحدة والزاوية الواحدة. في حين يؤكد لنا أن بحوثه التاريخية لا تخضع لأي من هذه القيود, مما جعلها تتصف بالموضوعية والاستقلال بالرأي. كما يعالج (شاميات) الأسباب الكامنة وراء تفكك بنية الدولة العثمانية, مجيبا عن بعض التساؤلات المطروحة حول ما إذا كان الأمر متعلقا بنظام الحكم, أم أن الحكم العثماني لم تكن له فلسفة بنى عليها سلطانه, أم بسبب اختلال موازين القوى بينه وبين الدول الأوربية في القرن التاسع عشر.

أما الكتاب الموسوم بـ (مشرقيات) فهو في معظمه يحتوي على أبحاث تتناول فصوله ما يتعلق بالماضي, الذي نبشه علماء الآثار في بلاد الرافدين وما إلى الشرق منها, بالإضافة إلى الصلات التجارية بين المشرق العربي والديار الشرقية. إلا أن أهم ما يتضمنه هذا الكتاب هو العلاقات التجارية عبر العصور بين العرب والصين. مما جعل العديد من الكتاب الصينيين يضعون كتبا عن أخبار العرب وعاداتهم وتقاليدهم وديانتهم استقوها من التجار العرب الوافدين إلى موانئ الصين وما كانوا يتاجرون به من السلع والبضائع: (فتاريخنا طويل في الزمان متسع في المكان, وحري أن نفتش عنه حتى ولو في الصين).

حرارة الأمة العربية

أما الدراسات الثماني التي تضمنها كتاب (عربيات) فهي تنضح بالعروبة وتكشف عن حرارة الأمة العربية, والإسلامية وتراثها. ويتولد ذلك من فهمه العميق للعلاقة الجدلية بين الإسلام والعروبة: (علينا أن نعنى بتاريخنا, وفهم هذا التاريخ يتطلب من كل واحد منا أن يفهم الإسلام فهما صحيحا, لأن الإسلام كان الدافع الأول والباعث الرئيسي إلى توحيد العرب وإخراجهم من جزيرتهم وانتشارهم في فضاء الله الواسع ليؤدوا رسالتهم نحو العالم كله). علينا أن نتقن لغتنا: (وإتقان هذه اللغة يقضي بأن يُقبل كل واحد منا على القرآن الكريم فيفهمه فهما صحيحا. أما المسلم فله عن ذلك أجره عند ربه, وأما الباقون فلهم على ذلك, أجرهم عند نفوسهم وعند أبنائهم الذين يربونهم عندئذ تربية عربية خالصة). فالعرب الذين تنصروا ظلوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم ومفاهيمهم سواء القبلية أو الحضرية. وفق ما كان عليه بقية العرب الذين ظلوا على جاهليتهم, لكونهم ربطوا بين المسيحية والدولة البيزنطية التي رفضوا الولاء لها. وقد ظهر ذلك, برأي زيادة, جليا في موقف مسيحيي بلاد الشام ومصر (غساسنة وأقباطا) من الفتوح الإسلامية. إذ كان ثمة ما يجمع بين الطرفين من وحدة العنصر واللغة والقربى, فانعكس ذلك إيجابا على مكانة العرب المسيحيين في الدولة الأموية ودورهم المميز في حركة النقل والترجمة لمختلف علوم اليونان وإسهامهم بالتالي في قيام ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى. فبالرغم من محاولة الغرب إضفاء هالة من القداسة على الحروب الصليبية, فإن آثارها كانت مدمرة على المسلمين والمسيحيين المحليين على حد سواء. أما التحولات التي أصابت المسيحية في العهد العثماني المتأخر فيعزوها زيادة إلى الانعكاسات السلبية لنشاط المبشرين الذين ارتبط معظمهم بدوائر السياسة الأوربية. هكذا تتجلى مقدرة مؤرخنا الفذة على التحليل السياسي مبينا, في الوقت نفسه, بواطن الداء المتأتي من الهيمنة والنفوذ الأوربيين في بلادنا على غير صعيد.

أما قصة الاستعمار في العالم العربي فيفرد لها مؤرخنا حيزا خاصا يتناول فيه بموضوعية تاريخ الاستعمار البرتغالي في الخليج العربي والبحر الأحمر والمنافسة القوية التي قامت بين دول أوربا حولهما لكونهما محطتين رئيسيتين على طرق التجارة مع البحار الشرقية, مستعرضا بعدها تاريخ استعمار العالم العربي, حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى وتنفيذ معاهدة سايكس ـ بيكو.

رحلات العرب

ومما يلفت القارئ لمجموعة (الأعمال الكاملة) كتاب (الجغرافيا والرحلات عند العرب) وهو من الأدبيات التي اشتهر بها نقولا زيادة. يتضمن الكتاب تحليلا دقيقا لما اهتم به العرب بعد أخبار المغازي والفتوح, وقد ظهر ذلك جليا في اهتمام الرحالة العرب بتسليط الضوء على ثروات المناطق ومقدرتها على دفع الضرائب, ومن ثم تطور اهتمام الرحالة ليتناولوا دراسة الأقاليم والمناطق التي زاروها أو سمعوا قصصها أو أبحروا إليها دراسة وافية. فالرحلة كانت عنصرا قويا في حياة المجتمع الإسلامي في عصوره الزاهرة. فقد رحل الناس لزيارة مهبط الوحي وفي طلب العلم في حواضر العالم الإسلامي مشرقا ومغربا, حيث كان طلبة العلم يتحملون المشاق في سبيل الحصول عليه. كما رحل القوم في سبيل الاتجار برا وبحرا في الأسواق الإسلامية المرتبطة بعضها ببعض كل الارتباط. وتقدم لنا رحلات كل من البكري وابن حوقل صورة واضحة في وصفهما للسودان الغربي ومدينة غانا.

فكان هؤلاء الرحالة أول من عرفنا وعرّف العالم بالبحار الشرقية وشواطئها وأهلها ومتاجرهم وعاداتهم ورسولهم. ويستخلص زيادة من هذه البحوث صورا اجتماعية انثروبولوجية واقتصادية بالإضافة إلى ما قدمته تلك الرحلات لعلماء الاجتماع من صور عن حياة الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم.

أما مصنفه (رحلات العرب) فهو عبارة عن دراسة لثلاثة كتب في موضوع الرحلة. أول هذه الكتب كتاب منسوب للتاجر سليمان وعنوانه (أخبار الصين والهند) والكتاب الثاني من وضع أبي زيد السيراني بعنوان (من أخبار الهند والصين), أما الثالث الموسوم بـ (عجائب الهند) فيعود لبرزك بن شهريار.

ومع إصرار زيادة على ما كان عليه الماضي العربي الإسلامي من الازدهار, ومدى مساهمة ذلك في الحضارة الإنسانية فهو يدعو إلى استلهام التراث واستخلاص إبداعات السلف لتعزيز ثقافتنا التاريخية, والتأكيد على الذات العربية وتنمية مشاعر الانتماء إليها. إلا أنه يحذر من التقوقع في التراث داعيا إلى الانفتاح على الحضارات الأخرى. ومن أجل ذلك أصدر كتابا يتضمن ترجمة لعدد من النخب العربية على مر العصور إيمانا منه بأهمية التراث وبأهمية النخبة في المجتمعات لكونها تجسد أقصى درجات الوعي فيه. ويقع هذا السفر تحت عنوان (أعلام عرب), ممن فاقت شهرتهم حول مختلف العلوم من فقهاء وفلاسفة ومؤرخين وجغرافيين وعلماء وشعراء وأدباء وأطباء....

ولعله من المناسب الإشارة إلى كتاب (عالم العرب) الذي يتضمن اثنين وعشرين مقالا نشرتها مجلة (شئون عربية) التي أصدرتها الجامعة العربية في الثمانينيات احتوى كل مقال منها على دراسة لإحدى دول الجامعة, من حيث الأرض والشعب والتاريخ والاقتصاد وإن غلب التاريخ على الكثير منها, إلا أن أهمية الدراسة لا تقتصر على الناحية التاريخية فقط بل تتعداها إلى دراسة الواقع الاجتماعي, وخاصة تلك الدول التي استقلت حديثا كدول المغرب العربي والتي كانت مجتمعاتها تضم فئة كبيرة اعتنقت الفكر الغربي, وذلك لأن الدول المستعمرة حرمت السكان على مر السنين من الإسهام في الأعمال الأدبية والفكرية بقصد طمس الهوية العربية لهذه الدول. أما الدول الأخرى فظلت محافظة في عاداتها وتقاليدها وتراثها الثقافي الإسلامي.

عصرنة اللغة

أما الجزء الواقع تحت عنوان (عربيات حضارة ولغة) فتدور فصوله حول ثلاثة محاور: أولها جزيرة العرب, وما دفعت به إلى الخارج, وما انطوت عليه مما عرفته وولدته ومما دخلها, وثاني هذه المحاور هو القسم المتعلق بالناس إدارة واجتماعا واقتصادا, وفي المحور الثالث لم يغب عن باله معالجة شئون اللغة العربية في فتراتها التاريخية, وفيه دعوة إلى تطوير اللغة وعصرنتها عبر وضع معاجم يمكن الاعتماد عليها في فهم المصطلحات العلمية المترجمة, متوجها بكلامه وبحرارة إلى سدنة اللغة طالبا منهم أن يوسعوا آفاقهم وصدورهم, بحيث يسمحون للغة العربية بالانطلاق بحرية في ميادين افتراس الكلمات الأجنبية التي لا مقابل لها عندنا, لأننا إذا تهاونا في شأن اللغة وحجزناها في وعاء من الزجاج لتبدو براقة لماعة لا حياة فيها, فإننا نقضي على العنصر الأساسي في حياتنا العاطفية والروحية والفكرية.

لم تحظ المكتبة العربية في المشرق العربي بمؤلفات حول المغرب العربي كما حظيت بمؤلفات زيادة, إذ تجاوزت الكتب التي وضعت حول تاريخ المغرب خمسة الأجزاء عدا المقالات والأبحاث المتعددة. فهو يؤكد في إحدى مقدماته لها أن هذا الاهتمام يعود إلى الصلة القوية التي كانت تربطه بهذه المنطقة. فقد عمل عام 1949 مساعدا لمدير المعارف في برقة, مما أتاح له التعرف إلى البلاد وأهلها ويذهب إلى القول (لا غرابة في ذلك, فأنا عربي كنت بين أهلي وعشيرتي, فلكل ربع من ربوع العرب حرمة وهوى تغلغل مني في صميم الفؤاد), ولا ينسى زيادة إبراز أهمية ودور مدن المغرب العربي, مراكش وفاس والقيروان وقرطبة وبلرمو, إلى جانب دمشق وبغداد في تطوير الحضارة الإسلامية, إما نقلا أو خلقا أو مزجا أو حفظا أو عطاء. وبسبب الدور الذي فرضه الواقع التاريخي تميزت كل منها بخصائص إما علما أو فنا أو أدبا أو صناعة.لم يغب عن بال زيادة دراسة تاريخ موطنه الثاني لبنان (كعربون محبة). وما يشد القارئ إلى الاطلاع على الجزء المتعلق (بأبعاد التاريخ اللبناني الحديث), هو الفصل المعقود حول الحياة الثقافية اللبنانية فيستعرض تطور التعليم والثقافة ونشوء الاتجاهات الأدبية وإنشاء معاهد التعليم والمدارس والجامعات التبشيرية والوطنية, وأهم من برز من رجال الفكر ورجال الصحافة الذين أنشأوا الجرائد والمجلات, ليس في لبنان فحسب, بل في العالم العربي وعالم الاغتراب. فالصحافة اللبنانية لعبت دورا مهما في بعث الحركة الفكرية والأدبية والثقافية في العالم العربي.

أما كتاب (لبنانيات) ففي مجمله شهادات عن بعض الشخصيات اللبنانية التي كان لها كبير الأثر في لبنان, من الناحية السياسية أو الأدبية أو التاريخية: (كمال جنبلاط, موسى الزين شرارة, محمد رشيد رضا, الأوزاعي, صالح بن يحيى, شكيب أرسلان, ميخائيل نعيمة...). كما يتضمن شهادات للعديد من الرحالة العرب والأجانب الذين كتبوا عن لبنان: (ابن جبير, ابن بطوطة, وليم الصوري, فولني, جون كارن...).

هذا التنوع والفضاء التاريخي الرحب عند زيادة يدلان على سعة الاطلاع من خلال دراساته المعمقة لشتى جوانب التاريخ, ولتحليله الشامل للظواهر الثقافية في المجتمع العربي خاصة المتعلق منها بالفكر العربي الإسلامي والمسألة القومية, ودور المؤرخ والدعوة إلى تخطي قدسية التراث(رغم أننا نفخر ونعتز به) فعلينا, كما يذكر زيادة, (أن نستخرج منه ما يؤدي بنا إلى السير قدما في طرق التطور), وهو بذلك يرى أن أشد الأمور خطرا على البحث التاريخي هو الالتصاق بمدرسة أو فلسفة معينة ذات أيديولوجية محددة ففي هذا (غش للتاريخ), لهذا فهو يضع في كتابه (دراسات في التاريخ) شروطا أساسية للمؤرخ الحقيقي بقوله: (تعلمت من خبرتي الطويلة والمتنوعة الاتجاهات, أن التاريخ لا يمكن أن يفهم إذا اقتصر المتخصص فيه عليه فقط. الأرض جزء من التاريخ, السهول بخصبها, والسهوب بتقلبها, والصحارى بجفافها, يجب أن تدرك بكثير من العناية والدقة كي يفهم التاريخ. الأدب بجده وهزله, والشعر بالجزل منه, والضعيف جزء من التاريخ لا يزال البعض منا يحسب أن التاريخ معارك فاصلة أو غير ذلك, لذلك ينظر إلى أحداث الزمان من خلالها. أحسب أن المؤرخ الصحيح, حتى الذي يؤرخ للشئون العسكرية أصلا, يجب أن يتعرف إلى جو المعركة الخارجي كي يفهم الأمر على علاته).

هكذا استطاع نقولا زيادة في مؤلفاته أن يسلط الأضواء بوضوح ودقة كاملين على تاريخ وحضارة العرب والإسلام عبر العصور, من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعمرانية من مفهوم خلدوني. هذه الدينامية في استقصاء الحقائق وفهم العبر والاطلاع على النشاط الإنساني عبر التاريخ, على أرضية موثقة ومشبعة بالروح العلمية والنقدية, تضمنتها أعماله الكاملة التي لا بد لكل مثقف ومتخصص من الاطلاع عليها.

 

محمد مخزوم