حكايات (مولانا) جلال الدين الرومي سليمان مظهر

حكايات (مولانا) جلال الدين الرومي

لعل قليلين جدًا مَن سمعوا عن مدينة (قونية) عندما تناولت وسائل الإعلام أخبار انهيار عدد من المباني السكنية في قلب المدينة, والحرائق التي لم تكد تندلع حتى انطفأت فجأة في أوائل فبراير من العام الحالي, والذين سمعوا عن هذه المدينة القابعة في قلب الأناضول تذكروا أنها كانت إحدى عواصم الدولة السلجوقية الإسلامية التي وقفت في وجه الروم البيزنطيين, ثم استدارت لتواجه جحافل جيوش التتار التي زحفت على المدن الإسلامية في الشرق, تدمّر وتخرّب وتريق دماء المسلمين في كل مكان بين القرنين 11و12 الميلاديين, حتى استقر الأمر للسلاطين السلاجقة. وبلغت قونية أمجادها خلال حكم السلطان علاء الدين كيقباد خليفة سلجوق زعيم قبيلة الغز القادمة من تركستان, حتى سيطروا على نواحي ما وراء نهر سيحون في خوارزم وإيران.

المهم هنا أن قونية هي مقر وضريح ومتحف ومسجد وتكية دراويش الطريقة المولوية الذين تتلمذوا على يد شيخهم الشاعر الصوفي الفيلسوف جلال الدين الرومي. وأهل المدينة يقولون الآن إن بركات (حضرة مولانا) هي التي حالت دون مزيد من انهيارات المساكن, وأوقفت زحف الحرائق التي وقعت غير بعيد من مقر (سكن) الدرويش الصوفي. والغريب في قونية أن دراويش المولوية مازالوا يقومون بما تعارفوا عليه حتى أيام (مولانا). فهم يؤدون رقصة (السجا) التي مازلنا نراها حتى اليوم في بعض الموالد الدينية وهم يرقصونها بطرابيشهم الطويلة الأسطوانية وعباءاتهم البيضاء ذات التنورة المفتوحة من الأمام. ولايزال الكثيرون من أهل المدينة يتبرّكون بالضريح الذي يضم رفات (ساكنيه) وحوله أضرحة مريديه وتلاميذه التي يبلغ عددها خمسة وستين, بخلاف ضريح زوجته (كير) خاتون) وابنته (ملك خاتون). والناس لا يزالون يذهبون إليه للزيارة والتبرّك على عرباتهم التقليدية التي تجرها البغال, بالرغم من قرار مصطفى كمال أتاتورك عام 1926 بإلغاء الطرق الصوفية وتحويل تكاياها إلى متاحف أثرية..!

قصة (مولانا)

لم يكن يخطر على بال الفتى جلال الدين وهو ينطلق وبجواره زوجته الصغيرة كير خاتون وهما يتشبثان بجوانب العربة ذات البغال التي يسرع بها الأب هربا من زحف التتار في الطريق الصحراوي الجبلي عبر أفغانستان, ولم يكن يخطر على باله أن هذا هو الطريق الذي سيقوده لأن يكون شاعرًا فيلسوفًا وشيخًا لطريقة صوفية تجتذب إليها الآلاف من المريدين والتابعين. ولم يكن الفتى يدري أنه بسبيله في ذلك الوقت ليختار التصوف والحب الإلهي طريقًا لحياته العملية التي تتميز بفلسفة روحية لفكره وفنه. وكان لابد من أن تمتزج حياته الفكرية بحياته العملية فتجعل من تصوّفه مزيجًا من الفلسفة والحكمة من أجل مجد الإنسان. ومن هذا المنطلق أفاء ضريحه على المدينة طوال ثمانمائة عام قيمة مميزة كمركز ديني كبير, وجعلها مزارا للمريدين المتغنين بالمثالية والروحانية في عالم مادي جامد هو في أشد الحاجة إلى عودة الروح.

خلال مسيرة الطريق حتى الوصول إلى (بلخ) من أعمال أفغانستان عرف من أبيه (العلامة بهاء الدين ولد) أنه لم يهاجر فقط هربا من التتار, ولكن أيضا هربا من السلطان خوارزم شاه الذي استسلم للحاقدين والحاسدين الذين استطاعوا أن يوغروا صدر السلطان عليه بعد أن تزايد حوله عدد الدارسين والتابعين لسماع خطبه وأحاديثه في المساجد ودور العلم, حيث عرف باسم (سلطان العلماء). وكان أبرز هؤلاء الحاقدين هو العلامة فخر الدين الرازي الذي كان يدس عند السلطان ويقول له: (هذا البهاء الدين قد استمال قلوب رعاياك, حتى أصبحوا لا يلقون بالا إلى سلطانهم وفقدوا احترامهم لمولاهم بسبب ما يلقيه على أسماعهم من نقد لحكمك, وتشويه لنواهيك وأوامرك. وحتى فقهاء هذا البلد ليخشون أن يطمح هذا الدعي في عرشك ويسعى إلى كرسي حكمك). وبينما كان السلطان يستمع إلى هذه الوشايات في ذلك الوقت من عام 1212م-606هـ. كان التتار قد بلغوا أسوار بلخ, وبدأوا يجتاحون المنطقة. وكان بين هؤلاء بهاء الدين ولد وقبيلته الصغيرة التي اتجه بها إلى حدود دولة الروم السلاجقة الذين كانوا يحكمون الأناضول.

رسالة الحب الإلهي

في قونية عاصمة الروم السلاجقة في الأناضول استقبل السلطان السلجوقي كيقباد العلامة الشيخ واحتفى به وبولده ودراويشه وافتتح لهم مدرسة يقيمون فيها ويمارسون إلقاء الخطب والدروس الدينية, وكان الفتى جلال الدين ينضم إلى التابعين على دروس أبيه يتلقى العلم ويقرأ ليل نهار من أجل مزيد من المعرفة. وحين ودع أبوه الدنيا بعد سنتين خلفه ولده النابغة جلال الدين الذى بنى له السلطان مدرسة عرفت باسم (خواندكار) أوقف عليها أوقافا واسعة وولاه رئاستها. واستمر جلال الدين في التدريس والوعظ والإرشاد برعاية درويش من دراويش أبيه هو برهان الدين الترمذي, حتى تفوق التلميذ على أستاذه الذي قال له: (لقد تدربت بما فيه الكفاية, والآن تمضي لتفتح عيون الناس على الحقيقة ومعرفة الله وتحمل إليهم رسالة الحب الإلهي).

يستمر جلال الدين ويواصل مهمته دون أن يمنعه ذلك من التوسع في الدراسات والتبحر في العلوم, والسفر بين الحين والحين إلى حلب ودمشق ليشارك في مجالس العلماء الذين أقرّوا له بالنبوغ وسعة الاطلاع, بينهم الشيخ محيي الدين بن عربي وسعد الدين الحموي وصدر الدين القونوي.

وذات يوم التقى جلال الدين صوفياً كبيراً من رفاق لأبيه هو شمس الدين التبريزي, الذي درس على يديه الكثير طوال سنوات, وكان وراء سر التحول الكبير في حياة جلال الدين. كان أبرز ما علّمه له أن الحب خالد لا يجدر إلا بالخالد, وأن الحق حي لا يموت, وهو الذي يفيض بالحياة على كل الوجود, أما حكاية الحب فهي لا تنتهي وتفنى الدنيا ولا تنقضي عجائبه لأن الدنيا لها نهاية وغاية, والحب وضع من لا يفنى ولا يموت.

ولا يدري أحد سر الأحاديث الطويلة التي كانت تدور طوال شهور خلال الخلوة بين جلال الدين وأستاذه التبريزي, التي لم يخرج منها حتى كان قد امتلأ بروح جديد, وانكشف له عالم جديد من الحقائق والآفاق. وخرج من ذلك شاعرًا صوفيًا وحكيمًا أخلاقيًا وفيلسوفًا إنسانيًا نزاعًا إلى التأمل الروحي العميق, والذي عبّر عنه بقوله في إحدى رباعياته: (عندما اشتعلت نيران الحب الإلهي في صدري اخترق لهيبها كل ما كان في قلبي).

كن ما تكون

كانت فلسفة الرومي تقوم على ما كان يعلنه للجميع: (كن ما تكون وسواء كنت مسيحيًا أو وثنيًا أو يهوديًا, فبابنا مفتوح لك. ليس بابنا باب القنوط وإنما هو باب الإيمان). وكان يقول: (لو كفرت مائة مرة وأردت أن ترجع إلى الله فتعال...فبابنا مفتوح...والله سبحانه من صفاته العفو التواب).

كان الرومي فيلسوفا مسلما وكان مذهبه يدعو إلى التسامح المطلق, والحجج والبراهين الإيجابية والخير والمحبة والموعظة من خلال الحب.

يحكي الدكتور عبدالسلام الكفافي أن الرومي كان يقول إن كل العقائد بالنسبة له ولمريديه إنما هي حق, وبنفس نظرة الرعاية التي يرى بها المسلمين, فإنه يرعى بنفس النظرة كل العقائد الأخرى. وكانت تعاليمه السلمية توجه إلى كل الناس مهما كانت أجناسهم وألوانهم وعقائدهم. وكان يقول: (إن شغلي هو المحبة وبيت الحبيب مفتوح). ومن هنا كانت أفكاره ذات عون كبير في دعوة أصحاب العقائد الأخرى لدخول الإسلام. ومن هنا لقي حبًا كبيرًا حتى قيل إن جنازته لما خرجت اجتمع عليها أهل البلد اجتماعاً كبيرًا, وشيعها أتباع كل الديانات وهم يبكون, وكان اليهود والنصارى يتلون التوراة والإنجيل في الجنازة. وبلغ ذلك حاكم المدينة, فقال لقساوستهم ورهبانهم: لماذا تفعلون ذلك وهي جنازة عالم مسلم? فكان جوابهم: به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين, وبه رأينا مسيرة الأولياء الكاملين.

حكايات المثنوي

إن أبرز الأعمال المكتوبة لجلال الدين الرومي وأعماله الشعرية, ما جمع في عهده ومن بعده, في كتاب يعتبر عند الدراويش المولوية كتابا مميزا بدأ ترجمته بالعربية الدكتور عبدالسلام كفافي وأتمها من بعده تلميذه إبرهيم شتا. وكان كفافي قد ترجم الجزأين الأولين عن الفارسية, فلما انتقل إلى رحمة الله كلف تلميذه استكمال المهمة التي لم ينته منها مع الجزء السادس إلا ورحل هو الآخر. ويضم ديوان المثنوي 350 قصيدة غزلية, كما يضم أيضا قطعًا تركية وعربية ويونانية وقصائد فارسية, ويبلغ عدد أبياته 43 ألف بيت. أما الرباعيات فينسب إليه منها 1659 رباعية أبياتها 3318بيتا. أما أقسام المثنوي نفسه فتنقسم إلى ستة مجلدات تضم نحو 25 ألف بيت. وموضوعه كله هو الوجود بصفة عامة, وكل قصائده وحكاياته تشتمل على أكثر من أربعة آلاف بيت. والمثنوي كله قائم على مجموعة من القصص لا تقصد لذاتها وإنما هي لبيان مقاصد فلسفية أو لأهداف تعليمية تربوية. ولأنه كان حكيمًا عمليًا, فقد تقبل الحياة وتعامل معها وعدها واقعا لاشك فيه, وأوجب العمل فيها. وهو يقول:

(إن الدنيا تتجدد في كل لحظة ونحن لا نحس بتجددها, وهي باقية على هيئتها الظاهرة, والعمر وإن بدا مستمرا في الجسد, فإنه يتجدد في كل لحظة كما يتجدد ماء النهر...!).

ومن أجمل حكاياته حكاية تقول: (رأيت بالأمس شيئا يدور حول المدينة كأنه يبحث عن شيء, فقلت له يا سيدي تبحث عن ماذا? قال: مللت معاشرة السباع والدواب وضقت بها ذرعا, وخرجت أبحث عن إنسان عملاق وأسد مغوار بعد أن ضاق صدري من هؤلاء الكسالى والأقزام الذين أجدهم حولي. فقلت له: إن الذي تبحث عنه عسير المنال, وقد بحثت عنه طويلا فلم أجده, فقال: إنني مغرم بالبحث عمن لا يوجد بسهولة ولا يعثر عليه في الطرقات...!

وحكى أيضا: سمعت أن أحد العلماء رأى في الهند جماعة من الأصدقاء, كانوا جياعًا عراة بلا زاد جاءوا من سفر طويل. ففاض العالم الهندي محبة لهم وقال: (أعلم أن المتاعب قد تجمعت عليكم من الجوع ومن وعثاء الطريق, ولكن ناشدتكم الله أيها الكرام ألا يكون قوتكم من وليد الفيل! فلا تذبحوا وليد الفيل, واسمعوا إن جراء الفيلة في طريقكم وهي شديدة الضعف والسمنة, لكن لها أم تترصدكم في مكمنها, وهي في سبيل وليدها تقطع طريقا يبلغ مائة فرسخ, ومن خرطومها ينطلق الدخان والنار. فحذار من وليدها البريء هذا...حذار. ولعلمكم فإن الفيل يشم كل فم, وما إن يجد رائحة شواء وليده في مكان ما, حتى يبدي انتقامه, وإذا أنتم أكلتم عبيد الله, فلابد أن تنالوا الجزاء. حذار. إن الخالق هو الذي يشم رائحة أفواهكم ولا ينجو بروحه إلا مَن هو صادق. وويل لذلك المخدوع الذي يكون من يشم رائحته في القبر منكر ونكير, فلا قدرة على إخفاء رائحة الفم عن هذين العظيمين, ولا إمكان أيضًا على إخفاء رائحة الفم بأي وسيلة. لقد أتيت فحسب لإبلاغ الرسالة حتى أنجيكم من الندم), ومضى في طريقه, وسرعان ما اشتد القحط والجوع, وفجأة رأوا على جانب الطريق جرو فيل سمينا حديث الولادة, فهجموا عليه كالذئاب الهائجة وأتوا عليه ثم غسلوا أيديهم: لكن واحدًا منهم لم يأكل وقدم لهم النصح بما قاله الدرويش ومنعه ذلك من أكل الشواء. وسقطوا جميعا نياما, بينما بقي ذلك الجوعان كراع في قطيع, فرأى فيلا ضخما يقترب منهم, وبادر الحارس فأسرع إليه, وأخذ الفيل يتشمم فمه ثلاث مرات, فوجد أن فمه لا يفوح برائحة غير محببة إليه, فطاف حوله مرات عدة, ومضى في سبيله دون أن يؤذيه, وراح الفيل يتشمم فم كل نائم, وكانت الرائحة تفوح منه, إذ كان قد أكل من شواء وليد الفيل, وتشمم فم كل نائم, وفي برهة من الزمان أخذ الفيل يمزق تلك الجماعة فردا فردا, وأخذ يلقي بكل واحد منهم في الهواء غير عابئ به. وعندما كان يصل إلى الأرض كان ينشطر شطرين.

فيا شارب دماء الخلق ارجع عن هذا الطريق حتى لا تأتي بك دماؤهم إلى الوطيس, واعلم أن مالهم هو دمهم على وجه اليقين, ذلك أنهم يحصلون على المال بشق الأنفس, إن آكل الرائحة فضحته, وذلك الذي يفكر في المكر, وأنت تأكل وليد الفيل ياآكل الرشوة, إنك تنام لكن رائحة ذلك الحرام تفوح فوق السماوات الزرقاء!

وقصة أخرى يحكيها الرومي في تلاميذه فيقول: لقد وهب فرعون مئات من الأملاك والأموال, بحيث ادّعى العز والجلال: لكنه لم يشك طوال حياته صداعًا حتى لا يتضرع إلى الله الحق, لقد أعطاه الله تلك الدنيا بأسرها, ولم يهبه الحق الألم والتعب والهموم, فالألم أفضل من ملك الدنيا, وذلك حتى تدعو الله في السر. ودعاء الله بلا ألم من موت القلب. ودعاؤه بألم من عبودية القلب.

وحكاية أخرى إذ يقول: في كل ناحية هناك غول يناديك قائلا: يا أخ تريد طريقا? هيا تعال معي. إنني أدلك على الطريق وأكون لك رفيقا. فأنا المرشد في هذا الطريق الدقيق, ولا هو بالمرشد ولا هو بالذي يعرف الطريق. فقلل الذهاب نحو مَن فيه طبيعة الذئب.

والحزم هو ألا يخدعك دسم هذه الدار ولا عسلها ولا فخاخها, فلا دسم لديها ولا عسل عندها, إنها تتلو سحرا وتنفثه في أذنيك قائلة: تعال يا ضيفنا العزيز, الدار دارك وأنت لنا, فتلك النحلة تعطيك جرعة من العسل مع كثير من الوخز, وعسلها يغرس فيك الجراح حتى تموت.

 

سليمان مظهر