مختارات من: الأمير الصغير أنطوان دو سانت اكزوبري ترجمة: يوسف غصوب تقديم: شوقي عبد الأمير

مختارات من: الأمير الصغير

قبل ستين عامًا بالضبط, وفي هذا الشهر بالذات في 12/7/1944 رحل الكاتب الفرنسي الشهير أنطوان دو سانت اكزوبري Antoine de Saint Exupéry في حادث سقوط طائرته, وكان من روّاد الطيّارين في مرحلة بدء مغامرة الطيران. وبهذا يكون إصدارنا احتفاءً بالكاتب العالمي الكبير الراحل أنطوان دو سانت أكزوبري, كتب العديد من المؤلفات أهمها (أرض البشر), وكانت أولى قصصه القصيرة تحمل عنوان (الطيّار).

في مقدمّة (الأعمال الكاملة) التي نشرتها جاليمار في سلسلة (لا بليّاد) نقرأ هذه السطور بقلم الناقد الفرنسي ميشيل كسنل Michel Quesnel وهي تترجم إلى حدّ كبير خصوصية كتابات دو سانت اكزوبري:

(إن مواجهة الإنسان للإنسان إنما تكمن حيث يكون الانطباع والشعور في موقع يتعارض مع التجريد ومع الميراث الدقيق للخطوط المطمئنة وسط موكبها الذي يلاحقها من المشاعر والأحاسيس.

وفي لحظة التصادم هذه فإن العين هي التي تتصدّر المشهد الذي لا تكون له أهمية إلاّ عندما يحلّ محله طقس الذاتية الذي يطبق عليه. ليست هي الواقعية الموضوعية. بل طريقًا أكثر حدّة والتهابًا للأنا, هو ما يبحث عنه أنطوان دو سانت اكزوبري.

الأشياء في ذاتها ليست ذات شأن كبير لا توجد إلاّ الانطباعات وانطلاقًا من عناصر مبعثرة يقدمها لقاؤنا بالأشياء ينبعث وجود هذه الأخيرة في حدود النظر. يكتسب العالم, حينئذ, هذا التوحد الذي لا تعوضه لا هيكليّة البناء الكلاسيكي ولا ثقل الأسلوب إنما الانطباع الذي ينتج عن الشيء الذي نراه في حدود الرؤية.

هنا يكتسب الروائي لهجته الخاصة التي تجد طريقها في اللونيّة التي يُلبسها لكل ما يحيط به).

كانت حياة دو سانت اكزوبري موزعة بين عشقه الهائل للطيران والكتابة التي لجأ إليها في مراحل حياته الأولى كسبًا للعيش, ونحن إذ نقدم لقرائنا اليوم واحدًا من أهم كتب دو سانت اكزوبري (الأمير الصغير) الذي يعد في الواقع من أهم الكتب (الشعرية) التي تحاول ببراءة الطفل اختراق مجاهيل الذات الإنسانية التي حوّلها الكاتب هنا إلى (كوكب) صغير تارة وكبير أخرى. هذا الأمير الصغير الذي يخرج في صحراء سقطت فيها طائرة المؤلف ليبدأ حوارًا معه حول الذات الإنسانية, ندر مثيله في النصوص الأدبيّة التي سبقته, ومن هنا تأتي أهميّته وفرادته.

(الأمير الصغير) ليس كتابًا للأطفال, إنه قصيدة لكل قارئ وفي كل مكان وزمان, وهكذا هي الآن بعد أن ترجمت إلى أغلب لغات العالم وبيعت بمئات الملايين من النسخ.

إن إصرار (كتاب في جريدة) على إعادة نشرها متأتٍ من كونها نصًا كليًا يخاطب العقول صغارًا وكبارًا بلغة وإيقاع من الصفاء, والعمق بحيث تتحول الكائنات إلى كواكب, نجوم ونجيمات تدور في مدار اللغة والحلم والحقيقة.

كما أن هذا النص الذي تُرجم عشرات المرّات إلى لغتنا العربية لم نجد بينها أروع من ترجمة الراحل يوسف غصوب لنقدّمها لقرّائنا.

تختلط في (الأمير الصغير) أيضًا رموز الكتابة بين الحرف والتشكيل, حيث يرسم المؤلف ويكتب معًا, وهو بهذا يؤكد أهميّة الثنائية في اللقاء بين الحرف كتجريد ناقل للدلالة وبين الرسم كتجريد ناقل للمعنى.

هذا كما أن أنطوان دو سانت اكزوبري يلقي الضوء على لسان (أميره الصغير) على إشكاليات غاية في المعاصرة والحداثة اليوم, في عصر العولمة وما يعرف بـ (حوار الحضارات) أو (صراعها) كما يريد البعض, عندما يقول عن عالم فلكي تركي:

(أثبت فلكي تركي بأدلة قاطعة في مؤتمر فلكي دولي اكتشاف كوكب عام 1909, غير أنه لم يجد أحدًا يصدّقه, لأنه كان مرتديًا ثيابًا تركيّة...

ثم إنه - لحسن طالع الكوكب - قام في تركيا (دكتاتور) فرض على الشعب تحت طائلة الموت ارتداء الألبسة الأوربيّة فارتدى الفلكي التركي لباسًا أوربيًا أنيقًا وأدلى في سنة 1920 ببيانه وأدلته عن اكتشافه فانضم الجميع إلى رأيه هذه المرّة).

بهذه الكلمات البسيطة, وهذا الأسلوب الساحر يعود سانت اكزوبري إلى ساحة الحوار بعد ستين عامًا من رحيله, ليلقي بصرخته هذه في وجه الجبروت والكبرياء الغربي وليضيء بحكايته هذه أعماق الصراع الإنساني.

رأيت, وأنا في السادسة من عمري, صورة رائعة في كتاب عن (الغابة العذراء) يدعى (قصص حقيقية) وكانت الصورة تمثل ثعبانًا (بُوَا) يبتلع وحشًا.

في أعلى الصفحة نسخة عن تلك الصورة.

وقرأت في الكتاب: (إن الثعابين تبتلع فريستها بكاملها, من دون أن تمضغها, فإذا ابتلعتها عجزت عن كل حركة ونامت مدة ستة أشهر حتى تنتهي من هضمها.

وبعد أن فكّرت مليًا فيما يقع في الغابات من الحوادث, أخذت قلمًا فيه رصاصة ملونة وخططت أول رسم رسمتُه وهو كما ترى.

ثم أريتُ باكورة فنّي الكبار من الناس (أعني الكبار في السن) وسألتهم قائلاً: أما يُخيفكم هذا الرسم?

فأجابوا: متى كانت القبعة تخيف الناس?

ما كان رسمي يمثّل قبعة بل ثعبانًا يهضم فيلاً. ثم رسمت باطن الثعبان عسى أن يفهم الكبار فإنهم في حاجة دائمة إلى الإيضاح. وكان رسمي الثاني كما ترى:

فلما أبرزته لكبار الناس نصحوا لي بأن أدع جانبًا رسم الثعابين من الخارج والباطن.

وقالوا: الأفضل لك أن تعنى بدرس الجغرافيا والتاريخ والحساب وقواعد اللغة. فأهملت, وأنا في السادسة من عمري, مستقبلاً باهرًا في فن التصوير لأن رسمي الأول والثاني لم يروقا كبار السن. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئًا من تلقاء نفوسهم فلابد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرّروا. ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء.

اضطررت إلى اختيار مهنة أخرى, فتعلّمت قيادة الطائرات وطرت هنا وهناك في مختلف أنحاء العالم. ومما لا ريب فيه أن الجغرافيا كانت لي خير معوان في طيراني, فكنت أفرّق, لأول وهلة, ومن دون أي تردّد, بين بلاد الصين وجبال أريزونا. وفي هذا فائدة جلّى ولاسيما إذا ضلّ الطائر طريقه في الليل.

واتصلت, في مجرى حياتي, بكثير من أهل الرزانة والوقار, ولابست كبار الناس ملابسة حميمة, غير أن سوء رأيي فيهم لم يتبدّل تبدّلاً يذكر.

كنت إذا لقيت أحدهم وبدا لي أنه على شيء من صفاء الذهن امتحنته بالرسم الأول الذي احتفظت به, لأرى مقدار ما عنده من الفطنة, والإدراك, فإذا قال: (هذي قبعة) أضربت عن الكلام على الثعابين والغابات العذراء والنجوم, وانحططت إلى مستوى فهمه فحدثته عن (البردج) وعن (الجولف) وعن ربطة العنق وفي السياسة, فيسرّ سرورًا كثيرًا لتعرفه إلى رجل على هذا الجانب من التعقل.

وظللت هكذا وحيدًا لا أجد من أتحدث إليه حديثًا صادقًا حتى اليوم الذي تعطلت فيه طائرتي في الصحراء وقد مرّ على هذا الحادث ست سنوات. وكان العطل في المحرك ولم يكن في الطائرة ميكانيكي ولا ركاب, فتأهبت لإصلاح العطل بنفسي على ما في إصلاحه من الصعوبة, على أن في إخفاقي أو نجاحي موتي أو حياتي. ولم يكن لديّ من الماء إلا ما يكفيني مدة ثمانية أيام.

ونمت في الليلة الأولى على الرمل وبيني وبين أقرب بلد آهل ألف ميل, فكنت في عزلتي أشد انفرادًا من غريق على طوف في عرض المحيط. وشدّ ما كنت دهشتي عندما استيقظت في الصباح على صوت نحيل غريب يقول:

- ارسم لي, إذا شئت, خروفًا.

قلت: ماذا?

قال: صوّر لي خروفًا.

فاستويت على قدمي مذعورًا كمن انقضّت عليه الصاعقة, وأخذت أفرك عينيّ. ثم نظرت فإذا ولد صغير غريب الهيئة يحدق إليّ بإنعام ورصانة. وقد صوّرتهُ فيما بعد صورًا عديدة غير أن الصورة التي ترى هي أفضلها. لكنها هيهات أن تدانيه فتونًا وجمالاً. وما يرجع إليّ الذنب في تقصيري فإن الكبار قد ثبطوا عزيمتي عن مسلك التصوير يوم كنت في السادسة من عمري, وما كنت تعلمت من هذا الفن سوى رسم الثعابين من ظاهرها وباطنها.

نظرت إلى هذه الـ (الرؤيا) بعينين ملؤهما الدهشة والحيرة. ولا غرابة فأنا على بعد ألف ميل من كل ناحية معمورة وما من شيء يدل على أن هذا الولد ضلّ طريقه أو أنه يهلك جوعا أو عطشا أو أنه يموت عياء أوخوفًا. وما من شيء ينبئ أنه ضائع في قلب هذه الصحراء على بعد ألف ميل عن كل بلد آهل. ولما عاد إليّ روعي واستطعت الكلام قلت:

- وأنت... ماذا تصنع هنا?

فلم يجب عن سؤالي بل كرر عليّ طلبه الأول كأنه يعلّق عليه أهمية كبيرة.

قال: ارسم لي, إذا شئت, خروفًا.

فحيال هذا السر الغامض الذي أثّر في نفسي تأثيرًا بليغًا ما جرؤت على عصيان أمره بل تأهّبت لتلبيته على ما فيه من الغرابة في مكان يبعد ألف ميل عن كل بلد معمور وعلى ما يحيق بي من خطر الموت. فأخرجت من جيبي ورقة وقلم الحبر ثم ذكرت أني درست على الأخص الجغرافيا والتاريخ والحساب وقواعد اللغة. فقلت للولد الصغير بنبرة فيها شيء من الامتعاض: إني لا أحسن الرسم فقال:

- لا بأس في ذلك, ارسم لي خروفًا.

ولم أكن رسمت من قبل خروفًا فرسمت له أحد الرسمين اللذين في متناول قلمي. وهو رسم الثعبان في هيئته الخارجية. وما أشدّ ما كانت دهشتي عندما سمعت الولد يقول:

- لا,لا. أنا ما أردت فيلاً في ثعبان. فالثعبان شديد الخطر, أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير, صغير جدّا. أنا بحاجة إلى خروف, فارسم لي خروفًا.

فرسمت له خروفًا.

فأنعم النظر فيه ثم قال:

- لا, لا.هذا خروف مريض. وقد تفاقم مرضه فارسم لي غيره.

فرسمت له غيره.

فابتسم ابتسامة حلوة وقال مترفّقًا بجهلي:

- ألا ترى... ليس هذا خروفًا. هذا كبش ذو قرنين.

فرسمت له خروفا آخر.

فلم يرضَ عنه بل رفضه كما رفض الخروفين السابقين وقال:

- هذا خروف قد شاخ وأنا أريد خروفًا فتيًا يعمر طويلاً.

ففرغ عندئذ صبري. وكنت أنوي الإسراع في تفكيك المحرّك فخربشت له الصورة التي ترى وقلت:

- هذا هو الصندوق. أما الخروف ففي داخله. ونظرت إليه فإذا وجهه يتهلّل حبورًا, فعجبت لأطوار هذا الولد الذي جعل نفسه حكمًا في تصويري. ثم قال:

- هذا ما كنت أبتغي. ولكن أتراه يحتاج إلى كثير من العشب?

قلت: ولماذا?

قال: لأن موطني صغير جدًا.

قلت: مهما كان صغيرًا فكن على يقين من أن عشبه يكفيه فإني أعطيته خروفًا على غاية من الصغر.

وحنى رأسه على الرسم وقال:

- لا أراه صغيرًا بقدر ما تتوهّم... انظر فإنه قد نام.

هكذا عرفت الأمير الصغير.

قضيت مدة طويلة قبل أن أعرف من أين كان مجيئه. فإن هذا الأمير الصغير كان يلقي عليّ الكثير من الأسئلة ولا يصغي إلى ما أطرح عليه منها وما عرفت عنه ماعرفت إلا من خلال ألفاظ كان ينطق بها مصادفة. ومن ذلك أنه عندما رأى طائرتي لأول مرة (لا أرسم الطائرة فرسمها معقد يعجز عنه قلمي) سألني قائلا:

- ما هذا الشيء الذي أرى?

وكنت فخورًا عندما أنبأته بأني أطير.

فصاح عندئذ:

- ماذا! أتكون هبطت من السماء?

قلت متواضعا: نعم.

قال: زه. زه. هذا أمر غريب.

ثم ضحك الأمير الصغير ضحكة صافية امتعضت منها امتعاضًا كثيرًا فأنا أكره الاستخفاف بما ينزل بي من المصائب. ثم أردف قائلا:

- وأنت أيضًا أتيت من السماء! فمن أيّ الكواكب أنت?

فعلى ضوء كلامه هذا انكشف لي شيء من سر وجوه في تلك الصحراء فبادرته قائلاً: أتكون هبطت من أحد الكواكب?

فلم يجب وأخذ يهز رأسه هزّا وئيدًا وينظر إلى طائرتي ثم قال:

- ما أراك تستطيع المجيء من بلد قصي على مثل هذه الطائرة.

ثم استسلم لبحران متماد. ولما آب من بحرانه أخرج الخروف من جيبه وجعل ينظر إلى (كنزه) ويتأمله تأملا عميقا.

إن ما فاه به الأمير الصغير عن (الكواكب الأخرى) أثار فضولي وزاد في حيرتي فحاولت أن أعرف عنه فوق ماعرفت فقلت:

- من أين جئت يا عزيزي الصغير? وأين موطنك? وإلى أين تذهب بالخروف?

ففكر قليلا ثم قال:

- من حسنات هذا الصندوق الذي أعطيتني إنه يصلح أن يكون له مأوى في الليل. قلت: هذا مما لا ريب فيه. وإني لأعطيك, إن كنت لطيفًا, حبلاً لتربطه في النهار ثم وتدًا.

وكأنه اغتاظ مما عرضت عليه فقال:

- أيربط الخروف? إنها لفكرة غريبة!

قلت: إن لم تربطه ذهب في كل مذهب وضاع.

فأغرب صديقي الصغير ضحكًا ثم قال:

- وأين تراه يذهب?

قلت: يذهب في كل مذهب: يذهب توّا في اتجاه وجهه.

فترضّن الأمير الصغير وقال:

- لا بأس في ذلك فإن موطني على غاية من الصغر.

ثم أردف بصوت فيه بعض الكآبة.

- من سار في اتجاه وجهه لا يبعد كثيرًا.

وعرفت هكذا شيئًا آخر ذا شأن عن كوكبه وهو أن هذا الكوكب يكاد حجمه لا يتجاوز حجم بيت من البيوت.

وما كنت لأعجب لهذا الأمر, ففي الفضاء ما عدا السيارات الكبرى التي سميت بأسمائها كالأرض والمشتري والزهرة والمريخ. مئات من السيارات الأخرى, بعضها على جانب من الصغر يصعب معه رؤيتها حتى بالمجهر.

فإذا اكتشف فلكيّ سيارة منها أعطاها بدل الاسم رقمًا فدعاها مثلاً السيارة رقم 3251.

أعتقد أن الكوكب الذي جاء منه الأمير الصغير هو الكوكب رقم ب612 ويرتكز اعتقادي على أسباب وجيهة. فإن هذا الكوكب لم ير في المجهر إلا مرة واحدة في سنة 1909 وكان الذي رآه فلكيًا تركيّا.

أثبت الفلكي اكتشافه بأدلة قاطعة في مؤتمر فلكي دولي غير أنه لم يجد من يصدقه لأنه كان مرتديا ثيابا تركية: وهذا دأب الكبار فما الحيلة?

ثم إنه, لحسن طالع الكوكب رقم ب612 , قام في تركيا (دكتاتور) فرض على الشعب, تحت طائلة الموت, ارتداء الألبسة الأوربية, فارتدى الفلكي التركي لباسا أوربيا أنيقا, وأدلى في سنة 1920ببيانه وأدلّته عن اكتشافه, فانضم الجميع إلى رأيه في هذه المرة.

قصصت عليكم قصة الكوكب رقم ب612 بتفاصيلها, وأطلعتكم على رقمه وذلك لأن الكبار يحبّون الأرقام, فإذا حدّثتهم عن صديق عرفته حديثًا أغفلوا مزاياه الجوهرية ولم يسألوك عن رقة صوته, ولا عما يؤثر من الألعاب ولا عن رغبته في جمع الفراشات, بل يسألونك في أي سنة هو, وكم عدد إخوته, وكم وزنه, وكم يربح أبوه? فإذا عرفوا كل هذا اعتقدوا أنهم عرفوه.

وإذا قلت للكبار.

(رأيت بيتًا جميلاً مبنيًا بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم...) عجزوا عن تمثل ذلك البيت, فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول:(رأيت بيتًا قيمته ألف دينار), فيصيحون قائلين: (ما أجمل هذا البيت!). وإذا قلت لهم: (دليلي على أن هذا الأمير الصغير قد وُجد حقًا هو أنه كان فاتن الطلعة, وأنه كان يضحك وأنه كان يريد خروفًا ومجرد أنه يريد خروفًا دليل على وجوده), إذا قلت لهم ذلك هزّوا أكتافهم ورفعوها وقالوا: إنك ولد صغير.

أما إذا قلت لهم: (إن الكوكب الذي جاء منه الأمير هو الكوكب رقم ب612 ) اقتنعوا بكلامك وتركوك وشأنك ولم يزعجوك بأسئلتهم. هم على هذا الدأب, فلا لوم عليهم وما على الأولاد إلا أن يتجمّلوا ويعاملوا الكبار بالحلم والصبر. هذا هو الواقع, أما نحن فنفهم معنى الحياة, ولا غرابة في أن نستخف بالأرقام. كنت أودّ لو بدأت هذه القصة كما تبدأ قصص الجنيات فأقول:

- كان في قديم الزمان أمير صغير يقطن كوكبا لا يزيد حجمه على حجم الأمير إلا قليلاً, وكان بحاجة إلى صديق.

فلو بدأت قصتي هكذا لكانت في رأي من يفهمون معنى الحياة, أقرب إلى الصواب والحقيقة.

أنا لا أحبّ أن يقرأ الناس كتابي قراءة طائشة وأن يستخفوا به, فإني أحسّ غمّا شديدًا عند كتابة هذه الذكريات. مرّت سنوات على فراق صديقي وذهابه بالخروف الذي رسمته له. فإن وصفته هنا فما ذلك إلا خوف نسيانه, ومن المؤسف أن ينسى الصديق صديقه, فالأصدقاء قليل. وقلّ من له صديق. وقد أصبح غدا كالكبار من الناس الذين لا يهتمون لغير الأرقام. فلهذي الأسباب جميعًا اشتريت علبة صباغ وأقلامًا وعدت إلى التصوير, وقد وجدت صعوبة في العودة إلى هذا الفن بعد أن بلغت من العمر ما بلغت. وما كنت من قبل حاولت رسم شيء سوى رسم الثعبان من الظاهر ومن الباطن, وكنت عندئذٍ في السادسة من عمري, ومهما يكن من أمر فإني سأبذل الجهد في تصوير الأمير صورًا تكون على قدر المستطاع كثيرة الشبه به. وما أنا واثق من بلوغي هذه الغاية, فقد أوفق في بعض الرسوم, وأخفق في البعض الآخر. ومما لاشك فيه أني أخطئ قليلاً في القياسات, ففي هذه الصورة يبدو الأمير أكبر مما يجب, وفي تلك أصغر مما ينبغي. وأتردد أيضًا في لون ثوبه فأتلمس اللون الحقيقي فأصيب تارة وأخطئ أخرى. ولا غرابة في أن يزل قلمي في بعض التفاصيل المهمة, فأرجو المعذرة على هذا الزلل فتبعته لا تقع علي, بل على الأمير الذي ما كان ليوضح شيئا من أمره, ولعله كان يحسبني شبيهًا به قادرًا على اكتشاف الغوامض. وما كان في استطاعتي, لسوء طالعي, رؤية الخرفان من وراء خشب الصناديق, فقد أكون مشبهًا للكبار من الناس, ولابد فإني قد كبرت عن سن الحداثة.

 

أنطوان دو سانت اكزوبري