لمحة عن المستنقعات وعرب المستنقعات جيهان سيد رجب عرض: د. سامية حبيب تصوير: طارق سيد رجب

لمحة عن المستنقعات وعرب المستنقعات

عندما تتصفح هذا الكتاب المصور, الذي لا يضم من الكلمات إلا صفحات قليلة, تتصور أنك أمام كتاب يصور الحياة في بدء الخليقة في بقعة جميلة من أرض الله, ولكن ستكتشف أنك لم تغادر عالم المستنقعات.

في تواضح شديد تقدم المؤلفة جيهان السيد رجب كتابها تحت عنوان (لمحة عن المستنقعات وسكانها العرب) وهم من يطلق عليهم (الأهوار), لكنها في هذه اللمحة تمر عبر آلاف السنوات مستطلعة أحوال هؤلاء البشر وأساليب عيشهم والمهن التي يعملون بها, طعامهم وشرابهم وأمراضهم, كل شيء بتفاصيل دقيقة. ويعود هذا إلى أنها - أي المؤلفة - وأسرتها ذهبوا بالفعل للعيش هناك عام 1960 حين استأجروا منزلا صغيرًا وسط مزارع النخيل.

في هذه الرحلة حملت جيهان رجب قلمها وقلبها بينما حمل زوجها المثقف الكويتي طارق سيد رجب الكاميرا ليخرجا لنا هذا الكتاب المميز.

يبدأ الكتاب بإهداء من سطر واحد يقول (إلى أهل المستنقعات ولطريقتهم في الحياة), كتب تحت صورة لوجه سيدة عجوز ذات ابتسامة خجلى أبرزت وجها أسمر حفرت تجاعيد الزمن عليه خطوطها, وذقن حمل دقة وشم باللون الأخضر, أحاطت الوجه عمامة وطرحة سوداء بالية, ظهرت تحتها على استحياء ضفيرة لشعر أسود ناعم. بينما حمل رأس العجوز سلة من القش بها ما بها, تركتنا الصورة نخمن, أن ابتسامة الرضا مفتاحنا إلى عالم الكتاب.

يعود تاريخ العرب سكان المستنقعات إلى عصر (السوماريين) قبل حوالي خمسة آلاف عام, حيث بدأت كمأوى للهاربين والفارين للانزواء بعيدا عن المطاردة. ومنذ عهد (ساراجون) الملك الآشوري العظيم, وإلى الثوار الزنوج وعصيانهم, حتى الخلافة العباسية وصولاً إلى العصر الحديث, فإن كثيرا من الحكومات اعتادت النظر إلى سكان المستنقعات وظروف معيشتهم باستخفاف وعدم اهتمام, لذا يضطرون إلى الاعتماد على أنفسهم وتدبير شئون حياتهم في هذه البيئة الفريدة, حيث تمتلئ المستنقعات بالغابات فيقوم السكان بإنشاء جزر صغيرة في الماء مستخدمين خامات البيئة مثل: الطمي وجذوع الأشجار من أجل إقامة منزل من أعواد الغاب يصلح مأوى لهم.

لكن هذه الجزر غير ثابتة وسرعان ما تتلاشى عند ارتفاع مستوى الماء. وتذكر المؤلفة أن المكان الوحيد في العالم الذي يمكن العيش به كجزيرة متحركة هو في كشمير حيث يعيشون بها على الزراعة.

في ضيافة أهل المستنقعات

ولأننا غرباء ولسنا من سكان المستنقعات فإن أول شيء نقابله في كتاب جيهان رجب بعد أن عرفتنا على تاريخ المنطقة هو المضيفة, ذلك البناء الذي يحتل مكانه لدى السكان لأن فيها يستقبل الضيوف الغرباء على المنطقة, وفيها يجلس الرجال إلى شيخهم لمناقشة أمور حياتهم. المضيفة من الخارج بناء ذو مدخل نصف دائري, يمتد إلى مساحة طويلة. يقوم بناء هذا الصرح الضخم على أعواد الغاب والحصير المجدول, أما من الداخل فيستخدم نوع جديد من الغاب كديكور لتجميل المضيفة.

ما إن تدلف إلى داخلها حتى تجد بسطا مفروشة على الأرض تحمل ألوان الأحمر والأسود والأبيض نسجت من خيوط الصوف بأيدي النساء. فوقها مساند طرية لتجعل الجلوس أكثر راحة, صفت البسط إلى جوار جانبي المضيفة, لكي يجلس الرجال متقابلي الوجوه للترحاب والحديث.

في الوسط يوجد بعض الحطب المشتعل دائمًا وضع فوقه وعاءان للقهوة, أحدهما كبير والآخر صغير, يتحلق حوله الرجال باسترخاء لاحتساء القهوة بعد يوم طويل من العمل. بعد أن استرحنا واحتسينا القهوة الساخنة, تأخذنا الكاتبة في جولة للتعرف على معالم المنطقة. هذه هي الغابات الكثيفة بها أشجار الصفصاف وأشجار الزان التي تنتج الخشب, الذي يستخدم في بناء القوارب وإقامة الدعامات في الماء أو على الأرض. هناك أيضا أشجار عرق السوس وهي قديمة الوجود في المنطقة وتنمو حتى ارتفاع ستة أقدام.

وقديما استغل السكان هذه الغابات في تحويلها إلى قطع خشبية كحطب للتدفئة وتاجروا فيها مع الإسبان. أيضًا يكثر في المستنقعات نبات الغاب والنباتات البرية التي يصل طولها إلى عشرة أقدام, وبين جذورها تحيا مجموعات منوعة من البط والأسماك داخل الماء, الأمر الذي يغري كثيرا من السياح الأمريكيين والإنجليز إلى رحلة صيد يتبعون فيها مرشدا من أهل المنطقة, قاصدين البط والخنزير, ثم يتحلقون حول النار في المساء لشي لحوم الأغنام. في الربيع إذا كان المطر غزيرًا, تنمو الزهور البرية والزرع فنشاهد لوحات رائعة رسمت بزهور السوس البنفسجية, والخشخاش القرمزي والأقحوان الذهبي, والصفصاف الأصفر تمتد عبر مساحات كبيرة تتقاطع مع مساحات الماء وتتحد معها, مما يسبب مشكلة لأي شخص يسير بقاربه في اتجاه القرية أو المدينة.

المرأة والطبيعة

إن هذه الطبيعة الساحرة التي حباها الخالق (سبحانه وتعالى) لهذا المكان, لابد أن تنقل للناس جمالها ومفاتنها, وهذا ما تؤكده الكاتبة, حين تقول (أمام هذه الطبيعة الساحرة بألوانها وتشكيلاتها أبدعت المرأة التي تسكن القرى والمستنقعات في صنع وتطوير ملابسها والمفروشات خاصة (الإيزار), حتى ليعجب المرء من جمال التكوينات اللونية والخطوط والخيوط التي تنسج بهذه المهارة).

وتضيف (إن النساء يأخذن الوحدات التطريزية والدرجات اللونية من الطبيعة الجميلة المحيطة بهن, فنجد في رسومهن على القماش كل مفردات البيئة المحيطة بهن مثل الدجاج والديوك الصغيرة بذيولها المتداخلة الألوان, والجمال والأحصنة والماشية, وأيضًا نجد السيارات والطائرات, ونجد المآذن والمساجد وشجرة الحياة أيضا, وحدات تطريزية سائدة في المنسوجات الشعبية, أيضا نجد نخيل البلح, لا تندهش فالنخيل وحدة جمالية ليس في العراق وكل الدول العربية فحسب بل في الشرق الأوسط كله).

كذلك تطرز النسوة ملامح وجوه النساء والرجال بجانب زهور السوسن والنرجس, وتختلف الكاتبة مع بعض الآراء التي وردت في كتب سابقة عن عرب المستنقعات, حول معاني بعض الوحدات المرسومة في السجاد والمفروشات والبسط, حيث رأت هذه الآراء أن السمكة أهم وحدة زخرفية في تطريز النساء. تقول الكاتبة جيهان رجب (أجدني غير متفقة مع هذا الرأي, فالوحدة الزخرفية الأكثر أهمية كتميمة ذات معنى مهم هي اليد مع العين بداخلها, فهي ذات دلالة لدى أهل المنطقة, في دفع الشر القادم بعيدًا عن صاحب التميمة, إنها فكرة قديمة جدًا منتشرة في كل الشرق. بل في البحر المتوسط, ولذا نراها في هذه البلاد معلقة فوق ملابس الصغار), وقد وجدت بعض المفروشات التي خلفتها القوات البريطانية بالمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى تحمل هذه الزخارف والطرز مما يدعو للدهشة والإعجاب, فقد حازت هذه المنسوجات اليدوية الإعجاب منذ سنوات طويلة.

وتأسى الكاتبة على مجموعة كبيرة من (الإيزار) بلغ عددها (350) قطعة جمعها زوجها من الأهالي أثناء رحلاتهم, لأنها سرقت أثناء العدوان الغاشم على الكويت عام 1990.

يعمل الرجال بالزراعة والصيد وجمع المحاصيل, خاصة الغاب والأشجار للتجارة بأخشابها. تحتل صناعة القوارب أهمية خاصة في مجتمع المستنقعات, لأنها وسيلة الانتقال من مكان لآخر هناك, وعليها يعتمدون في نقل الخامات للخارج وفي الصيد أيضا. ولأن الحياة شاقة داخل هذا المجتمع يفضل - كما في المجتمعات البدائية - إنجاب الأولاد على البنات. وتعلق الكاتبة على هذا بقولها (لكن الفتيات في هذا المجتمع يقدمن حقيقة مهمة وهي أنهن قويات ويساهمن في الحياة بإصرار أكبر من المعتاد. أما الحقيقة التي لا تقبل الجدل فهي أن اولئك الفتيات هن من ينجبن الأطفال وبذا يصنعن الحياة الإنسانية في الحاضر والمستقبل).

وتعتبر الجاموسة السوداء كبيرة الحجم, التي تغوص في الماء من عناصر الحياة الأساسية لدى سكان المستنقع وذلك لأنها منتجة للحليب الذي منه يصنعون الزبد والقشدة وغيرهما مما يأكلون.

مطبخ المستنقعات

في جولة داخل مطبخ إحدى نساء المستنقع نجلس مع الكاتبة التي تصف لنا عملية حلب وتجهيز اللبن (عندما يجلب الحليب تضعه النساء في قدور كبيرة فوق نار الحطب, لذا فليس من المستغرب تفحم القاع باللون الأسود من رماد الحطب. تشعل النسوة نارا هادئة, ثم يدرن الميس أو المغرفة الكبيرة لتحريك الحليب داخل القدر. وبعد فترة تتكون طبقة كثيفة من الدسم على سطح القدر يقمن بنشلها بالمغرفة ويوزعنها في صحون صغيرة, ثم يضعن هذه الصحون في صينية ألمنيوم كبيرة يترك جزء منها لأهل الدار, ويحملن الصواني الأخرى على رءوسهن متجهات إلى البصرة لبيعها في الصباح الباكر لتؤكل على موائد الإفطار مع الدبس (عسل البلح) والخبز الطري المفرود من صنعهن أيضًا).

هناك دائما ما يعكّر صفو الحياة, وكذا حال أهل المستنقعات, فليست الحياة الرحبة الهادئة هذه خالية من المخاطر, وأهمها الحيوانات البرية المفترسة التي تهاجمهم بين الحين والآخر, خاصة الخنزير المفترس الذي قد يظهر فجأة ويهاجم أي شخص ليحوّله في ثوان إلى قطع باستخدام أنيابه الحادّة.كما أصيبت المنطقة بالأمراض الفتّاكة, خاصة الأمراض التي تتكاثر بالماء, كما حدث في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مثل الملاريا والكوليرا والجدري, وبعضها منتشر حتى الآن, مثل الإسهال والرمد الحُبيبي. وقد عانت القوات البريطانية أثناء وجودها بالمنطقة من شدة حرارة الشمس, فأصيب كثير من الجنود بـ (ضربة الشمس), لذا كانت النصيحة التي وُضعت في صالات إطعام هذه القوات, خاصة في فصول الصيف (اشرب ماء كثيرا, كل ملح كثيرا). وبعد تصفّح الصور البديعة في اختيار الزوايا والأماكن والموضوعات والأشخاص - وكأننا بالفعل ذهبنا إلى المستنقع - تضع الكاتبة في نهاية الكتاب ما تطلق عليه قاموسا قصيرا لشرح الكلمات الصعبة, وفيه تجمع بعض التعبيرات العربية العامية, وبعض التعبيرات المحلية الخاصة بأهل المستنقعات وتقدم لها مرادفا أو شرحا باللغة الإنجليزية, مثل: أولاد العم, أولاد الخال, شاي بحليب, عيد الفطر وعيد الأضحى.أما من كلمات سكان المستنقعات, فنجد ما يخفى علينا نحن أهل اللغة العربية أيضا مثل:

- جيمار: بمعنى قشدة الجاموس.

- دهن: بمعنى زبد مصفى.

- ميلس أو ميس: وهي مغرفة ذات يد طويلة في نهايته سطح عريض, مثقوب بفتحات صغيرة تستخدمه النساء في الطهي والغرف من القدور الكبيرة.

- ميليجا: وهو ماء مقطر من طلع النخل ومفيد جدا للهضم.

- سبع عيون: وهي قطعة مستديرة من الخزف الأزرق في وسطها سبع فتحات, محاطة بإطار من الفضة أو الذهب يحمل الوجه الآخر منها بعض آيات من القرآن الكريم أو آية الكرسي, وتوضع فوق صدور المواليد للحماية من الحسد.

المؤلفة جيهان سيد رجب

رحالة سافرت إلى أكثر دول الشرق الأوسط والهند وأوربا.

ولدت في البرازيل ودرست في بريطانيا, تزوجت من طارق سيد رجب وعاشت في الكويت لمدة خمسة وأربعين عامًا.

وهي متخصصة في الأزياء والحُلي الفضية الشعبية في الوطن العربي, تعمل في إدارة متحف طارق رجب والمدرسة الإنجليزية الحديثة بالكويت وأصدرت كتبا عدة حول هذا التخصص هي:

- الأزياء الفلسطينية.

- الحلي الفضية في عُمان.

- الأزياء والتطريز في سورية وشمال إفريقيا وأفغانستان.

- الأزياء في العالم العربي.

وغيرها من الكتب.

 

جيهان سيد رجب 




المضيفة أو الديوانية صنعت من أعواد القصب والحصير المجدول





المنازل المقامة بإيدي السكان فوق الجزر العائمة





صناعة القوارب





رجال من المنطقة يجلسون في المضيفة لمناقشة أمور حياتهم مع شيخهم





جاموس الماء في إحدى برك المستنقع





المرأة بالرداء الأسود





برج بابل وحسب ما جاء في التوراة ربما يكون هو المكان الذي تجلى به الله عند قمة الجبل وتحدث إلى كليم الله النبي موسى عليه السلام