لماذا يفضل الاكتئاب النساء أكثر من الرجال? سامر جميل رضوان

لماذا يفضل الاكتئاب النساء أكثر من الرجال?

الاكتئاب مرض يمكن أن يصيب كل فرد فينا, غير أنه يظل الاضطراب الذي يفضل النساء أكثر, ليس لأسباب بيولوجية فحسب, ولكن لأسباب اجتماعية أيضًا.

الاكتئاب: عملية من أجل توفير الطاقة النفسية! والسؤال المطروح هو: هل الاكتئاب عبارة عن ردة فعل طبيعية على ظروف الحياة القاسية والمقيتة أم أنه مرض ليس له أي وظيفة?

تختلف الآراء بالطبع. ففي حين يرى بعض الخبراء أن للحالات الاكتئابية معنى, يرى آخرون أن هذه الرؤية لا تمثل سوى تجميل غير مبرر لحالة المعنيين.

يرى البروفيسور راندولف نيس من جامعة ميتشيجان أن لبعض أشكال من الاكتئاب معنى ووظيفة, حيث يمكن لهذه الأشكال أن تكون مفيدة للمعنيين. فالمشاعر الاكتئابية يمكن أن تكون ردة فعل على مواقف خطيرة ومهددة وغير مرغوبة. ويسوق المثال التالي على رؤيته: فعندما يعيش شخص ما في علاقة غير مرضية على الإطلاق, فإنه سوف ينسحب شيئًا فشيئًا عن شريكه, وسوف يفقد الاهتمام به وينعدم الاهتمام بالجنس وسيصل إلى مرحلة يندر فيها أن يتلفظ بكلمة واحدة مع شريكه. وفور أن تنتهي العلاقة فإن المزاج الاكتئابي سيختفي بالضرورة. ويعتقد نيس أن هذا المثال يوضح أننا لا نبدد طاقتنا على الأشياء التي لا تهمنا والتي تبدو بالنسبة لنا عديمة المعنى. فالأعراض الاكتئابية المتمثلة في فقدان الدافعية والسلبية يمكن أن تكون مفيدة في بعض المواقف, التي لا ينفع فيها التصرف بل يمكن أن يكون خطيرًا. ويستشهد نيس على ذلك بأمثلة من عالم الحيوان. فعندما تتكاثر الثلوج وتنخفض درجة الحرارة وتقل الموارد, فإن البحث عن الطعام يصبح شاقًا ومبددًا للطاقة. ومن أجل عدم استهلاك المزيد من الطاقات بلا طائل فإن الحيوانات تتوقف عن النشاط وتبقى ساكنة تنتظر حتى لو كانت جائعة.

حتى القردة

والاكتئاب لا يقتصر على الإنسان فقط. ففي دراستها على القرود تمكنت كارول شيفلي من مدرسة الطب التابعة لجامعة ويكفوريست في شمال كارولاينا والمتخصصة في بيولوجيا السلوك من إثبات أن القرود كذلك تصاب بالاكتئاب.ففي عالم القرود يسود تنظيم هرمي صارم, حيث تعيش القرود في مجموعات, قد يصل عددها إلى عشرين قردًا في المجموعة الواحدة أحيانًا. والقرد الخاضع لهذا النظام, عليه أن يخوض صراعًا عنيفًا مع زعيم المجموعة من أجل الحصول على الطعام أو على أنثى. وهو يخاطر في هذا بأن يصاب بأذى قد يصل إلى حد الموت. بالإضافة إلى ذلك تتولد مشاعر عدائية شديدة تجاهه من قبل أعضاء المجموعة الآخرين الأضعف منه. فحياة القرود التابعة حياة مرهقة جدًا. وهذا ما يؤكده وجود كميات كبيرة من هرمون الإرهاق (الكوليسترول) في دمائهم.

غير أنه يبدو أن بعض الحيوانات قد طورت لنفسها مضادات للإرهاق المزمن. فهي تنسحب من المجموعة وتعنزل عنها وتقضي الكثير من الوقت وحدها, وتتجنب الاتصال الجسدي مع القرود الأخرى. إنه قرار حكيم! فمن خلال هذا السلوك لا تحمي القرود الأضعف نفسها من العدوان الجسدي فحسب, بل وتحمي نفسها أيضًا وتحافظ على مركزها ضمن المجموعة, وقد تمتلك فرصة, وإن كانت محدودة, من أجل التكاثر. وعلى الرغم من أن سلوكها هذا لا يمكن عده مثاليًا فإن الانسحاب يضمن لها البقاء. وبما أن مجموعات القرود تتغير باستمرار, فهناك فرصة ما, أن يأتي وقت من الأوقات يحظى فيه القرد الأضعف بوضع اجتماعي أفضل في مجموعة جديدة من القرود.

للمرأة أسبابها

لا يختلف اثنان من العلماء اليوم حول الحقيقة القائلة: إن النساء أكثر تعرضا للاكتئاب من الرجال. ويُعتقد أن الأسباب تمتد من التغيرات الهرمونية, كتلك التي تحدث في الدورة الشهرية أو عند الولادة أو في سن المرحلة الارتدادية (اليأس!), مرورًا بالمشكلات المتعلقة بالدور الأنثوي وصولاً إلى التمييز والظلم الاجتماعي الذي مازالت تتعرض له المرأة حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية!! وتظهر نتائج دراسة حديثة أجرتها كل من سوزان نولن - هوكزيما وكارلا غريسون ويوديت لارسون على 1100 راشد بين 25 و75 سنة أن النساء يشعرن أكثر من الرجال بمشاعر الشك والحيرة واللاحول والسلبية. ويكمن السبب في أنهن يشعرن بقلة السيطرة على مجالات مهمة من الحياة. الأمر الذي يقود من ناحيته إلى إرهاقات مزمنة, تستجيب لها النسوة بانشغال سلبي وليس إيجابيا. ومن ثم ينزلقن في حلقة مفرغة مسببة للمرض. فالانشغال يرفع من الإرهاق المزمن, والضغط المتزايد يقوي من الانشغال.. وهكذا.

والانشغال السلبي أو الخامد يزيد من الإرهاق لأنه يستهلك من الإنسان دافعيته وطاقته وقدرته على حل المشكلات, ومن ثم تصبح النساء غير قادرات على تحسين المواقف غير المرضية بطاقاتهن الذاتية. أما مصادر الإرهاق فقد أمكن تحديدها بالإرهاقات المنزلية وتربية الأولاد بالإضافة إلى الأعباء المهنية للنساء العاملات خارج المنزل. إنهن أكثر (حملا للهم), وهذا يعني أنهن لا يفكرن بحياتهن الخاصة فحسب بل ويحملن هم الآخرين. وعلى الرغم من البذل والتضحية الكبيرة التي تقدمها النساء فإنهن يشعرن بأنهن لا يحظين من أزواجهن بالاعتراف الكافي. ومن الطبيعي أن الإرهاق بحد ذاته لا يقود للاكتئاب, وإنما الأسلوب الذي تتم به مواجهة الإرهاقات والصراعات.

اكتئابات الولادة

وعندما تنزلق امرأة ما بعد الولادة في حالة اكتئابية, فإنها غالبًا ما تلقى الصد والرفض وعدم التفهم من المحيطين حولها, إذ إن التصور هو صورة الأم السعيدة بطفلها.

فالطفل المنتظر قد ولد أخيرًا ويتوقع الجميع من الأم الخارجة للتو من المخاض أن تكون سعيدة إلى أقصى مدى. أما أن تحزن الأم أو تكتئب بعد الولادة, فهذا لا يتناسب على الإطلاق مع التصور الشائع حول الأم. مع أن الدراسات تشير إلى أن حوالي 80% من النساء يعانين بعد الولادة أعراضا اكتئابية لأوقات محددة. ولدى 10 حتى 20% منهن ينطبق عليهن تشخيص (اكتئاب ما بعد الولادة).

يمكن لصيرورة الأم أن تشكل خطرًا ممكنًا على المرأة, ذلك أن هذا الحدث يمكن اعتباره حدثًا متطرفًا, سواء من الناحية الجسدية أو من الناحية النفسية. ويعد وقت التحول إلى أم وقت التحولات الكبيرة في حياة المرأة. فحياة المرأة كلها تنقلب رأسًا على عقب, وعليها أن تعيد تحديد هويتها (تماهيها) كأم وأن تتقبل هذا الدور وتمارسه. ومن هنا فليس من المفاجئ لنا أن نلاحظ ظهور (ذهانات النفاس) أو (اكتئابات ما بعد الولادة) تتكرر بعد ولادة الطفل الأول بالتحديد, حيث تشكل هذه النسبة حوالي 75% من الحالات.

أما الأمهات اللواتي يسعدن بمهمتهن الجديدة كأمهات, فإنهن يجدن أنفسهن فجأة أمام توقعات ضخمة, في أن يكن أمهات كاملات. فكل الفضائل والصفات التي يتوقع للأم أن تتمتع بها بما في ذلك الصبر والسهر وتحمل انتقادات الآخرين (الأخريات صاحبات الخبرة في التربية والتعامل مع الأطفال??!!) لا بد وأن تتصف بها بشكل بديهي. ولكن ما يحدث في الواقع أن كثيرا من النسوة يشعرن - وبشكل قد يثير فيهن الرعب - بدلاً من هذه المشاعر في أعماقهن بنمو مشاعر الرفض والعدوانية تجاه الطفل في أعماقهن. الأمر الذي يقود لديهن إلى مشاعر الذنب, بسبب غياب الإحساس بذلك الحب العظيم المتوقع تجاه الطفل.

إنها مجموعة كبيرة من العوامل, الجسدية والهرمونية والبيوكيماوية والنفسية والاجتماعية تلك التي تشكل هذه الحالة المعقدة من المشاعر.

وقت (النفاس) أصبح مقننًا

يتوقع كثير من الناس من المرأة اليوم أن تقف على قدميها بعد أسبوع من الولادة على أبعد تقدير وتعود لممارسة نشاطاتها المعتادة. أما الفترة التي تطلق عليها فترة النفاس والتي كانت تستمر لأربعين يومًا فلم تعد تولى أي أهمية, وأصبحت مجرد ممارسات لا معنى لها من مخلفات الماضي.

يحتاج العبور الفاعل نحو الأمومة إلى الوقت والدعم. وكثير من المجتمعات, منها مجتمعاتنا الريفية, مازالت تدلل الأم بعد الولادة, إنها عملية اكتسبتها مجتمعاتنا القديمة بالفطرة والخبرة وجعلت لها طقوسًا تتم رعايتها وصيانتها. وهي ليست عديمة المعنى على الإطلاق. وما تمت ممارسته لأجيال عديدة بصورة طبيعية يعاد اكتشافه وتصديره وتسويقه من جديد. ففي هذا الوقت تتم رعاية الأم بشكل (أمومي), ذلك أنها قد عانت الكثير أثناء الحمل والولادة. ولا بد من الاعتناء بالأم وتدليلها إن صح التعبير, يُطبخ ويُغسل لها وتُطعم... إلخ, وعليها طوال اليوم ألا تفعل شيئًا سوى الاعتناء بطفلها والتعرف إليه وإلى حاجاته, وتتآلف مع دورها الجديد في الحياة. وفي هذه المجتمعات يندر للمرأة أن تعاني الاكتئاب بعد الولادة.

غير أن الموقف يختلف كلية في المجتمعات الصناعية والمدن الكبرى. فالولادة تتم في المستشفى, حيث يندفع الجميع بعد الولادة لزيارتها في المستشفى دون أن يتركوا لها مجالاً للراحة والتأمل, ويتم فصل طفلها عنها لفترة زمنية تطول أو تقصر, تتولى أثناءها الممرضات رعايته, وبعد الخروج من المستشفى يغلب أن تقضي الأم غالبية الوقت وحدها مع طفلها, في حين يكون الزوج مهتمًا بشئونه الخاصة. فتجد نفسها فجأة وحدها دون خبرة, خائفة وحريصة على حياة رضيعها, تثقل كاهلها مخاوف الفشل, مما يدفعها بسرعة إلى أزمة, وحتى اليوم لا يوجد أي جيل من النساء استطاع أن يتغلب على هذه المخاوف وحده. أما في الليل فقلما تجد الهدوء والسكينة, إذ عليها الاستيقاظ مرارًا من أجل إرضاع طفلها أو تغيير ثيابه المبللة. ويشكّل النوم المتقطع - إذا استمر لفترة زمنية طويلة - شكلاً من أشكال التصفية الجسدية والنفسية. فليس من المفاجئ أن الأمهات الشابات يبدأن ضمن هذه الظروف بالشك في أنفسهن, وأن يصبحن فاقدات الرغبة ومرهقات ومُتعبات ومتوترات, ويصبح مزاجهن متقلبًا ويعانين صعوبات في التركيز, والأرق.

تغيرات هرمونية أيضًا

بعد الولادة يحدث انخفاض سريع وشديد لهرموني الأستروجين والبروجيستيرون. وهما من الهرمونات التي يتم طرحها بكثرة في أثناء فترة الحمل. والغياب المفاجئ لهذين الهرمونين, وبشكل خاص البروجيسترون الذي يمتلك تأثيرًا مضادًا طبيعيًا للاكتئاب, يسهم في نشوء الاكتئابات في مرحلة ما بعد الولادة. ففي الحال الطبيعية, وعندما لا يحدث أي تدخل طبي في مجرى الولادة الطبيعي, يتشكل أثناء الولادة هرمون الحب المسمى (الأوكسيتوتسين), الذي يلعب دورًا مهمًا في نشوء الارتباط الأولي بين الأم ورضيعها. فالإيقاع الحيوي بين الأم والطفل يعمل في هذه الحال بصورة آلية وبشكل مثالي جدًا. ولكن ماذا يحدث إذا تم التدخل اصطناعيًا في هذا المجرى? المشكلة اليوم تتمثل في أنه قلّما توجد ولادة دون استخدام الأدوية أو الآلات أو إعطاء المحرضات الهرمونية الاصطناعية للولادة. فمن أجل تسهيل عملية الولادة يتم اليوم حقن مادة مخدرة في الحبل الشوكي, بل إن كثيرا من مستشفيات التوليد تروج لنفسها بأنها تضمن الولادة دون ألم??!!!. ومن خلال هذه الحقنة في الحبل الشوكي يتم كبح الإحساس بالألم في النصف الأسفل من الجسد. غير أن هذا الشكل من التدخل الطبي لا يخلو من العواقب, إذ إن قطع مسارات الألم يؤدي إلى عدم قيام الدماغ بإصدار الأوامر المتعلقة بعملية الولادة ومن ثم لا يقوم بتحرير المواد الضرورية للولادة أو لما بعد الولادة. وكلما ازداد التدخل في عملية الولادة سواء في أثناء الولادة أو حتى قبل ذلك في أثناء الحمل, ازدادت المشكلات. وتشير الدراسات إلى أن الولادات الطبيعية التي تتم دون تدخل طبي يندر لها أن تعاني الاكتئاب بعد الولادة. كما أن مشاعر القيمة الذاتية تكون أشد لدى النسوة اللواتي مررن بتجربة الولادة الطبيعية, اللواتي يشعرن بأنهن أنجزن عملاً صعبًا ومرهقًا. وتبرهن دراسات أجريت في هذا المجال أن التدخلات الطبية الشديدة كاستخدام الشفط أو الملاقط أو العمليات القيصرية يمكنها أن تسهل حدوث اكتئابات ما بعد الولادة. كما أن الولادة في المنزل تعد عاملا مضادًا للاكتئاب. بالإضافة إلى أنه عندما يتم كبح الألم أثناء الولادة فإن طرح الأندروفينات لا يتم بشكل كاف. والأندروفينات هي مضادات الألم الطبيعية وهرمونات السعادة والفرح. وفي دراسة ألمانية على 13 مجموعة من مجموعات المساعدة الذاتية للولادة أشارت المفحوصات إلى أن خبراتهن كانت سيئة مع الأطباء, حيث شعرن بأن الأطباء لم يتفهموا حالتهن النفسية. وعندما كن يطرحن الأسئلة على الأطباء كانت الإجابة الغالبة, إن ذلك أمر طبيعي, سوف يزول ذلك قريبًا, وتشير أنيتا ريشير روزلر من المعهد المركزي للصحة النفسية في مانهايم بألمانيا إلى أنه قلما يتم تشخيص أعراض اكتئاب ما بعد الولادة بشكل صحيح والانتباه لها من قبل الأطباء, بسبب الخجل ومشاعر الذنب من أن يتم اتهام الأم بالفشل في مشاعرها الأمومية من جهة, وبسبب قلة الاهتمام من الأطباء بهذه الأعراض.

من جهة أخرى, وفي كل الأحوال يتم التأكيد على الوقاية من خلال تعاون أطباء التوليد والمتخصصين النفسيين والأطباء النفسيين. ومن ضمن إجراءات الوقاية دعم الأمومة اجتماعيًا ونفسيًآ وعدم تحميل المرأة وحدها مسئولية مشاعرها والتحرر من الفكرة القسرية الملحة, أنه على الأم أن تكون (أما صالحة) أو (أما مثالية).

 

سامر جميل رضوان