جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

خمسون عامًا على رحيل شاعر (الأطلال)

شهد هذا العام (2004) مرور أربعين عامًا على رحيل العقاد, وخمسين عاما على رحيل ناجي. ولم تشهد الحياة الثقافية والأدبية - من فنون الاحتفال وألوان الاحتفاء التي رسّخنا لها برامج وتقاليد - لم تشهد شيئا يليق بناجي في ذكراه الخمسينية, ولا وقفة تليق بالعقاد في ذكراه الأربعينية. الأمر هنا لا يتصل باحتفال سنوي مكرور, أو وقفة روتينية لا تضيء جديدا, ولا تكشف عن خبيء غير معروف.

عاش إبراهيم ناجي (31 ديسمبر 1898-24 مارس 1953) حياته الأدبية والشعرية واحدا من ألمع شعراء جماعة (أبولّو) - التي أسسها أحمد زكي أبوشادي, وتولى (شوقي) رئاستها الشرفية لأسابيع قليلة قبيل وفاته (أكتوبر1932) - منذ نشر ديوانه الأول (وراء الغمام) الذي كتب عنه الدكتور طه حسين يقول: (إنها أشعار حسنة, ولكنها أشعار صالونات, لا تتحمل أن تخرج إلى الخلاء, فيأخذها البرد من جوانبها). وكان هذا النقد العنيف سببًا في شعور ناجي بالمرارة والإحباط, وتأخّر صدور ديوانه الثاني (ليالي القاهرة) حتى عام 1951. أما ديوانه الثالث (الطائر الجريح), فقد نشر بعد رحيله بأربع سنوات (عام 1957). وحين فكّرت وزارة الثقافة والإرشاد القومي - كما كانت تسمى في ذلك الحين - في نشر ديوان ناجي ضمن سلسلة (تراثنا) عام 1961, اختلط شعر ناجي بقصائد عدة للشاعر كمال نشأت, كانت ضمن أوراق ناجي, وظنها جامعو الديوان ومحققوه من شعر ناجي, فنشرت مع هذا الشعر, ومنذ سنوات قليلة, صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر, طبعة محققة, تضم كل شعر ناجي, وتستبعد ما نسب إليه من غير شعره, كما تضم العديد من قصائد ناجي المجهولة التي عُثر عليها محقق الديوان الشاعر حسن توفيق في العديد من المجلات والدوريات التي واكبت حياة ناجي.

وبالرغم من أن ناجي ظلّ يُنظر إليه في حياته وبعد رحيله, على أنه أحد شعراء الرومانسية الثلاثة الكبار: علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل, فإن شهرة زميليه سبقته إلى الجمهور الواسع العريض, بفضل ما أتيح لبعض قصائدهما من دوران وذيوع في ساحة الغناء. أما ناجي فلم يلتفت إلى شعره المطربون والملحنون إلا بعد رحيله بعامين, في منتصف الخمسينيات, حين تغنّى محمد عبدالوهاب بمقاطع من قصيدته الطويلة (الخريف) سمّاها (القيثارة), وبعد ذلك بسنوات طويلة تغنّت أم كلثوم بمقاطع من قصيدتيه: (الأطلال) و(الوداع) عرفها الناس باسم (الأطلال). ولم تتح لأغنية محمد عبدالوهاب من الشهرة والانتشار وذيوع الصيت ما أتيح لأغنية أم كلثوم, التي جعلت شعر ناجي يتردد على كل لسان.

حرص ناجي في تقديمه لقصيدته الطويلة (الأطلال) على أن يصفها بأنها (أطلال روح) تمييزا لها عن (الأطلال) التي لعبت دورا (وجوديًا) في العصر الأول من عصور القصيدة العربية, حين كان الوقوف والبكاء على الأطلال, مدخلا إلى العالم الشعوري للشاعر, وعزفا على أوتار النفس, يشبه التهيئة النغمية بالدندنة, قبل الولوج إلى جوهر القصيدة, وجوهر الغناء في الوقت نفسه.

من هنا, كان ناجي حريصًا على إثبات هذه الكلمات التي تقدم لأطلاله, وهو يقول: (هذه قصة حب عاثر, التقيا وتحابّا, ثم انتهت القصة بأنها هي صارت أطلال جسد, وصار هو أطلال روح, وهذه (الملحمة) مسجّل وقائعها كما حدثت).

وإذا غضضنا الطرف عن كلمة (ملحمة) التي جاءت في سياق تقديم ناجي, باعتبارها مصطلحا قديما ارتبط بشعر الملاحم وهي المنظومات الشعرية الكبرى التي تناولت أشهر الحروب والوقائع القديمة في تاريخ الإنسانية, وقد صيغت في قالب قصصي أسطوري, كالإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني القديم لهوميروس, والإنياذة - في الأدب الروماني - لفرجيل, والشاهنامة - في الأدب الفارسي - للفردوسي, والفردوس المفقود - في الأدب الإنجليزي لمِلْتون وغيرها عند الهند والطليان والجرمان - إذا غضضنا الطرف عن هذا المعنى الاصطلاحي الذي لم يقصده ناجي بالطبع, أدركنا أنه يريد بهذا الوصف تقديم القصيدة باعتبارها أطول قصائده على الإطلاق من ناحية, وباعتبارها تصويرًا لقصة حبه الكبرى من مبدئها حتى منتهاها, بكل ما تحمله من مكابدات وشجون وأهوال وتغيّر أحوال, كما يحدث في الملاحم التي تصور الحروب الكبرى. ولقد أتيح للجمهور العريض من مستمعي قصيدة الأطلال - وهي مغناة - أن يتعرّفوا على بعض المقاطع التي اختيرت للغناء, وأن يتذوقوا من خلالها لغة ناجي الشعرية, التي وصفها البعض بأنها (لغة تمتاز باللفظة الفراشية الرقيقة, والعبارة المجنحة الأنيقة, والصياغة الغنائية الموقعة, مع ميل إلى التأثير بالهمس لا بالجلبة. والإمتاع بالإيحاء لا بالخطابة. ووصفها آخرون - في إطار الحديث عن شاعرية ناجي - بأنها لغة قادرة على التصوير والتجسيد, وتحويل المعنويات إلى محسوسات, وتراسل الحواس - بما يسمح بتبادل أو تقارض الأوصاف بين المسموع والمشموم, والمعنوي والمحسوس في إطار من الولع بالبحور الشعرية الهادئة الموسيقى المهموسة الإيقاع, وتغيير القوافي في القصيدة الواحدة, فتصبح الأبيات رباعية القافية أو ثنائية القافية في أغلب الأحيان. حرصا على تعدد صور الإيقاع في القصيدة.

الطريف في الأمر, أن المقاطع التي لم يقع عليها الاختيار للغناء, هي أوفر مقاطع القصيدة حظا من الشاعرية, وأكثرها إتقانًا من الناحية الفنية, وقيمة تعبيرية وتصويرية. وقد يكون إيثار الوضوح والبساطة والسلاسة وراء المقاطع التي لُحّنت وغنّيت, حتى يسهل أداؤها وذيوعها. وهذه بعض المقاطع التي لم يرددها الناس, نقدمها تحيةً لناجي في ذكراه الخمسين.

يقول ناجي:

يا رياحا ليس يهدا عصْفها نضب الزيت, ومصباحي انطفا
وأنا أقتات من وهمٍ عفا وأفي العمر لناسٍ ما وفى
كم تقلّبتُُ على خنجرهِ لا الهوى مال ولا الجفن غفا
وإذا القلب على غفرانهِ كلما غار به النّصل عفا
يا غرامي كان مني في دمي قدرًا كالموت أو في طعمِهِ
ما قضيْنا ساعةً في عُرسِه وقضيْنا العُمر في مأتمهِ
ما انتزاعي دمعةً من عيْنهِ واغتصابي بسْمةً من فمِهِ
ليت شعري أين منه مهربي أين يمضي هارب من دمِهِ?
لستُ أنساكِ وقد أغريْتني بالذرى الشمِّ فأدمنتُ الطموحْ
أنت روح في سمائي وأنا لكٍ أعلو فكأني محْضُ روحْ
يا لها من قمم كنا بها نتلاقى, وبسرّيْنا نبوح
نستشفّ الغيْبَ من أبراجها ونرى الناس ظلالاً في السفوح
ذهب العمرُ هباءً, فاذهبي لم يكن وعدُكِ إلا شبحا
صفحة قد ذهب الدهر بها أثبت الحبّ عليها ومحا
انظري ضحكي ورقصي فرحا وأنا أحملُ قلبًا ذُبحا
ويراني الناس رُوحًا طائرا والجوى يطحنني طحْن الرّحى!
كنتِ تمثال خيالي فهوى المقاديرُ أرادت لا يدي
ويحها لم تدْرِ ماذا حطّمتْ حطّمتْ تاجي وهدّت معبدي
يا حياة اليائسِ المنفردِ يا يباباً ما بِهِ من أَحدِ
يا قفارًا لافحاتٍِ, ما بها من نجيٍّ, يا سكون الأبدِ
أنتِ قد صَيّرْتِ أمري عجبا كثُرت حوليَ أطيار الربى
فإذا قلتُ لقلبي ساعةً قم تُغرّدْ لسوى ليلى أَبَى
حُجبٌ تأبى لعيني مأربا غير عينيْكِ, ولا مُطّلبا
أنتِ من أسدلها, لا تدّعي أنني أسدلتُ هذي الحُجُبا
قدمٌ تخطو, وقلبي مُشبهٌ موجةً تخطو إلى شاطئها
أيها الظالم بالله إلى كمْ أسفح الدمع على موطئها
رحمةٌ أنت, فهل من رحمةٍ لغريب الروح أو ظامئها
يا شفاء الروح, روحي تشتكي ظلم آسيها إلى بارئها
وهَبِ الطائرَ من عُشّك طارا جفّت الغدرانُ, والثّلجُ أغارا
هذه الدنيا قلوبٌ جَمدتْ خبت الشعلة والجمر توارى
وإذا ما قبسُ القلب غدا من رمادٍ لا تسلْهُ كيف صارا
لا تسلْ واذكر عذابَ المُصطلِي وهو يُذكيه فلا يقبسُ نارا!
قد رأيتُ الكون قبْرًا ضيّقا خيّم اليأسُ عليه والسكوتْ
ورأت عيني أكاذيب الهوى واهياتٍ كخيوط العنكبوتْ
كنت ترثى لي وتدري ألمي لو رثى للدمع تمثالٌ صموت
عند أقدامك دنيا تنتهي وعلى بابك آمالٌ تموتْ!
كنت تدعونيَ طفلاً, كلّما ثار حبّي, وتندّت مُقلى
ولك الحق, لقد عاش الهوى فيّ طفلا, ونما لم يعقل
وأرى الطعْنة إذ صوّبتها فمشتْ مجنونةً للمقْتلِ
رمت الطفل, فأدمت قلْبهُ وأصابت كبرياءَ الرّجلِ
يا مُغنّى الخلدِ, ضيّعْتَ العُمُرْ في أناشيدَ تُغنى للبشر
ليس في الأحياء من يسمعُنا مالَنا لسْنا نُغنّي للحجرْ?
للجمادات التي لست تعي والرميمات البوالي في الحُفرْ
غنّها, سوف تراها انتفَضتْ ترحمُ الشادي, وتبكي للوتر


بعد نصف قرن من رحيل إبراهيم ناجي, يبدو شعره الآن وكأنه خزان هائل, يمتلئ بالدموع, أو كتاب ضخم تتوهج سطوره بالأحزان والأشواق والانكسارات, التي عاشها الشاعر وعاناها على المستويين: الإنساني والشعري: شخصا تقتحمه العين لقصر قامته, وضآلة جسمه, وضخامة رأسه, وخلوّه من الوسامة, فضلا عن صوت غير بيّن النبرات, ومخارج حروف غير واضحة المعالم - كما يقول الدكتور أحمد هيكل في تقديمه لطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي من الديوان - وشاعرًا يعذّبه الحرمان, والفشل المرير في تجارب الحب, وانشغال العصر - أدبيًا وشعريًا - بمن هم أكثر جرأة وجسارة في مجال القصيدة العاطفية - كعلي محمود طه مثلا - أو أكثر صولة لغوية وجهارة في الأداء الشعري الممتزج بالمباشرة والخطابية - كعلي الجارم مثلا -. لكنه - بالرغم من معاناته وانكساره على هذين المستويين - نجح في أن يصطنع لغته الشعرية المتميزة, وعالمه الشعري الغني بالعواطف والمشاعر الإنسانية الباقية, وأن ينحت بإزميله الشعري نماذج باقية من فن العمارة الشعرية, والتماثيل المتوهجة بالحياة وروح الشعر الصادق, هي تلك التي تعود إلى قراءتها وتأمّلها, كلما دفعنا جدْب الحياة إلى خضرة وجدان ناجي, وكلما ألجأتنا صدماتها إلى خزّانه الشعري الممتلئ بالدموع.

 

فاروق شوشة