إلى أن نلتقي محمد المنسي قنديل

 إلى أن نلتقي

مأساة البقر

عندما انتشر سعار جنون البقر, وهلع الناس رعبا من أشهى المأكولات إلى نفوسهم, كنت أنا الوحيد في العالم تقريبا الذي يعرف السبب الحقيقي وراء هذا الجنون, لم أكن في حاجة إلى عينة معملية, ولا إلى مجهر الكتروني يكبر الفيروس الذي يبحث عنه الجميع. كان السبب ـ في اعتقادي ـ أكثر وأعمق وأبعد قدما, يعود في جذوره الأولى إلى ذلك التاريخ المشترك, الذي يجمع بيننا وبين البقر على سطح الأرض, ودعوني أذكركم بأن البقرة هي أنظف وأرق الحيوانات التي يتعامل معها الفلاح, فهي بخلاف الجاموس لا تترك الأوساخ على جسمها طويلا, وتحرك ذيلها لتذب الذباب طوال اليوم, وهي ليست كالكلاب تتشمم في النفايات, وليس فيها ذل الحمير, كل هذا لأن أصلها سماوي, أجل.. هكذا تؤكد الأساطير الفرعونية القديمة, فالبقرة كانت رسول الآلهة إلى البشر, وقد أمرها (رع) كبير الآلهة في الميثولوجيا المصرية أن تهبط إلى الأرض لتخبر البشر أن عليهم أن يأكلوا مرة واحدة في اليوم, وأن يصلوا للآلهة ثلاث مرات, ولكن البقرة ـ وبسبب أنها بقرة ـ نسيت هذه التعليمات وطلبت من البشر أن يصلوا مرة واحدة وأن يأكلوا ثلاث مرات, وغضب (رع) عليها وأمرها بأن تهبط إلى الأرض لتساعد الإنسان المتورط على إنتاج كفايته من الطعام, وهكذا حلت البقرة ضيفا ـ غير عزيز ـ على عالمنا الأرض, ومنذ ذلك الزمن الغارق في الأساطير وهي تدفع ثمن هذه الغلطة, تعمل طوال النهار, وتحلب اللبن في الليل, ثم تذبح عند الفجر حتى توفر اللحم الاحمر للجميع, في دورة لا تتوقف. لم يأبه أحد بأصلها السماوي, ولم يتساءل أحد عن سر هذا الحزن الدائم في عينيها الواسعتين, ولا عن محاولاتها العبثية وهي حبيسة الحظائر للتسامي عن منفاها الأرضي.

في الهند مازال بعض العقلاء يقدرون أصل البقرة النبيل, ولا يتجرأون على أكل لحمها, ولكنهم في المقابل لايقدمون لها الغذاء المناسب, والنتيجة أن البشر والبقر هناك يعانيان الهزال المزمن, أما قبائل (الماساي) في شرق إفريقيا فيتعاملون مع البقر بطريقة أكثر (برجماتية), وقد قضى أحد شيوخهم الحكماء ساعة كاملة وهو يحاول أن يفهمني أن البقرة الأولى حين هبطت من السماء هبطت من أجل (الماساي) فقط, لذلك فإن كل البقر في الدنيا يخصهم, ويقوم الآخرون فقط برعاية هذه الأبقار نيابة عنهم, لذا فإنهم عندما يقومون بالسطو على المزارع لا يفعلون أكثر من أنهم يستردون أبقارهم.

وفي مصر التي كانت السبب الأصلي في مأساة البقر, فإن العديد من القرى يأكلونها مرة واحدة على الأقل في الأسبوع, أما بقية العالم فقد تفننوا في ذبح والتهام البقر بمختلف الوسائل, واستخرجوا من جسدها المقدس كل الأكلات المشهية, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن أُكِلَ لحم البقر يوميا, كما يحدث الآن في العديد من البلاد الغنية, فالإنسان البدائي كان يلتهم اللحم لأيام متوالية عندما يقع على صيد سمين ثم يقضي أياما طويلة يعتاش على النبات فقط حتى يتخلص جسده نهائيا من أدران الأحماض الأمينية. أما نحن فقد أهدرنا كرامة البقر, وخنا عهدنا معه, وأوسعناه ذبحا وتنكيلا, وتعاملنا بوضاعة ونهم مع أصله السماوي, أليس هذا سببا كافيا للجنون?

 

محمد المنسي قنديل