الكرسي (قصة قصيرة)

كان كل ما فعلته أني سحبت الكرسي، ربما فعلت ذلك في اللحظة التي كانت تهم فيها زينب بالجلوس، لكني أقسم بالله أنني لم أقصد أن أؤذيها، كنت ألعب فقط.. كنت أمازحها. هذا ما قلته لمديرة المدرسة وأنا جالسة في مكتبها وعيون أم زينب مصوبة عليَّ كأسياخ لهب.

 كنا فتيات صغيرات نلهو في حوش المدرسة، عندما قررت زينب أن تشاركنا اللعب، نحن لم نكن نحب اللعب معها فهي متفوقة في كل شيء، وعندما تلعب معنا فإنها تفوز دائما، وعندما نلعب لعبة الكراسي، تظل الوحيدة المحافظة على كرسيها حتى النهاية.

زينب هي من أقحمت نفسها في لعبتنا، وهي من أصرت على اللعب معنا رغم معرفتها بأننا لا نحب اللعب معها، ونحن لم نستطع إلا قبولها بيننا.

بدأنا اللعب, خمسة كراسي، ندور حولها نحن الفتيات الست، وبقية الفتيات من حولنا يصفقن، وعندما ينتهي التصفيق كان على التي لا تجد كرسيا خاليا أن تغادر.

في الجولة قبل الأخيرة بقينا أنا وزينب وفتاة أخرى، كرسيان وثلاث فتيات والتصفيق يزداد شدة وحماسا، دورة دورتان ثلاث دورات ثم جلست زينب والفتاة الأخرى وخرجت أنا.

في الجولة الأخيرة كانت المنافسة على أشدها، فتاتان وكرسي، وفي اللحظة الحاسمة التي توقف فيها التصفيق وكانت زينب أقرب إلى الكرسي، سحبت أنا الكرسي وسقطت هي على الأرض وضحكت الفتيات.

في اليوم التالي استدعيت إلى مكتب المديرة، وتعرضت للوم والتقريع ولعيون أم زينب الغاضبة ولسانها الحاد.

كنا فتيات صغيرات في الصف الثالث الابتدائي، سرعان ما نسينا الحادثة، وتحولت إلى مزحة عابرة نتداولها أنا وزينب ونضحك ونحن نكبر معا وصداقتنا تتعمق.

بعد أن تخرجنا في الثانوية، تفرقت الفتيات بين الكليات والتخصصات والأقدار المختلفة، إلا أنا وزينب درسنا نفس التخصص في الجامعة، ومن المصادفات أنه بعد تخرجنا عملنا في نفس المؤسسة الحكومية.

كانت زينب على النقيض مني تماما، كانت شابة طموحة ومجتهدة، كانت تخطط لدراسة الماجستير والدكتوراه، بينما كنت أنا أحلم ببيت وأولاد كثر يعوضون غياب الإخوة ويتمي المبكر.

تزوجت راشد ابن خالتي الذي تربيت معه، تزوجته لأنه ابن خالتي، ولأنه شاب دمث الخلق، ومثلي يحب الأطفال.

لكننا لم نرزق أطفالا، وبعد أن أكد الأطباء أن العيب مني، تزوج راشد فتاة أخرى وأنجب منها، وبعد ذلك طلقني.

عندما عادت زينب من منحتها الدراسية كنت أنا لاأزال أعمل في الدائرة نفسها، وكنت مطلقة أصد عن نفسي نظرات الآخرين وأطماعهم.

زينب لم تعد إلى الدائرة نفسها فقد انتقلت إلى كرسي في مكتب الوزير، وأصبحت من الحلقة المقربة، تسافر في وفود رسمية وتقدم أوراق عمل في المؤتمرات، وتحصل على مكافآت سنوية، وترقيات دورية أسرع من بقية الموظفين، بينما بقيت أنا غارقة في دائرة الشئون المالية، أراجع الفواتير وأوامر الشراء.

لكن كل هذا لم يكن ليؤثر في علاقتنا، وعلى العكس تماما كانت علاقتنا تزداد قوة مع الأيام، كنت أودعها أسراري وكل همومي، وأشكو لها من نظرة الناس لي بعد طلاقي.

وعندما استدعاني مكتب الادعاء للشهادة في قضية اختلاس وجهت فيها التهمة للمدير العام، شعرت بالخوف واتصلت بزينب مرارا، لكنها كانت في مهمة عمل خارج البلاد.

في شهادتي بمكتب الادعاء العام قلت إني لا أعرف شيئا وأنا فعلا لا أعرف شيئا، فأنا لم أكن من الحلقة المقربة من المدير العام، وكنت أقضي غالب وقتي في إصدار الفواتير والمصادقة عليها ثم أرشفتها، وكنت أتجنب أي تماس لي مع بقية الموظفين.

بعد أسبوع من شهادتي وجَّه لي المحقق تهمة الاشتراك في الاختلاس، وأشهر أمامي أوراقًا كثيرة عليها توقيعي، كنت متأكدة من أنني لم أوقع على شيء، لكن توقيعي كان صحيحا على الورق، حتى أنني لم أستطع تكذيبه.

عندما طلبت في المحكمة، أجلسوني إلى جانب المدير العام، وكان المدير العام يشيح بوجهه عني، وأنا لم أحاول الحديث معه، فأنا لا أعرف كيف وضع توقيعي على تلك الأوراق، لكنه كان توقيعي ولا أستطيع نفي ذلك.

في الجلسة الثانية لم أحضر، لكن إحدى الزميلات أبلغتني بأن الحكم صدر علي بالإدانة وبتبرئة المدير العام، وقالت إنه علي أن أسلم نفسي إلى الشرطة.

لم أسلم نفسي إلى الشرطة، وحبست نفسي في الشقة، لكن الشرطة كانت ستأتي عاجلا أم آجلا، فقررت الذهاب إلى شقة زينب، طرقت الباب طويلا وأنا لا أعرف إن كانت موجودة أم لا، بعد قليل فتح الباب وارتميت في حضن زينب، جلسنا وأخبرتها بما حدث، فقالت إنها عرفت ذلك متأخرا، وقالت إنه بإمكاني أن أبقى عندها بالبيت حتى نجد مخرجا من هذه المصيبة.

قضيت أسبوعا في بيت زينب التي كانت تغادر إلى الوزارة كل صباح، ثم تعود في المساء محملة بالأخبار، قالت لي إن الشرطة تبحث عني في كل مكان، حزنت جدا، لكنها طمأنتني وقالت إني في مأمن عندها.

في المساء كنا نجلس على كراسي الخيزران في شرفتها المطلة على الشارع نشرب الشاي ونستعيد الذكريات، ومع ذلك كنت أشعر بالاختناق، فأخذتني زينب ذات مساء إلى البحر.

 تريضنا واشترينا أسياخ اللحم المشوي والتهمناها، حاولنا أن نضحك تلك الليلة ونحن نتذكر قصة الكرسي التي دشنت صداقتنا. تذكرنا تفاصيلها وكأن السنين لم تمر وكأن الشرطة لا تبحث عني، وكأن السجن لا ينتظر.

بدأ شعوري بالحرج يزداد من طول إقامتي عند زينب، ففكرت في أن أذهب إلى السوق وأشتري بعض الأغراض للبيت وأن أعد طبق الباستا بالدجاج الذي تحبه.

قلت لها إني سأخرج في الصباح للتسوق، اعترضت، لكني تشبثت برغبتي.

كانت نهاية الأسبوع وكانت زينب منهمكة في تنظيف البيت عندما ودعتها وخرجت إلى السوق فلم تجب على تحية الوداع، نزلت الدرج بحذر شديد، لكنني لم أجد بدا من أن أسلم يدي للقيود البلاستيكية للشرطي الذي كان ينتظرني عند باب العمارة، وقبل أن أجلس في المقعد الخلفي في سيارة الشرطة بدرت مني التفاتة إلى الشرفة، كانت زينب هناك مشغولة بتنظيف الطاولة وسحب الكرسي ببطء شديد.
------------------------------------------
* كاتبة من سلطنة عُمان.