«توماس ترانسترومر» باللغة العربية

«توماس ترانسترومر» باللغة العربية

تأملات شخصية في زرع نكهات الثقافة
في الشعر من السويدية إلى العربية
ترجمة: هبة محفوظ**

وقت إعلان جائزة نوبل في الأدب، كان يتجمع الصحفيون أمام منزل توماس ترانسترومر وزوجته مونيكا، في ستوكهولم، لسنوات عدة.
طوال هذه السنوات كان هو أحد المرشحين لنيل الجائزة، وتكون الصحافة موجودة في المكان من أجل الحصول على كلمة وقت إعلان اسم الفائز.

وقد انتظرت اسم الفائز بالجائزة في كل مرة كنت أفتح فيها المذياع وأقوم بضبط البث لعدة دقائق قبل الساعة الواحدة، وأحيانًا كنت أنهي محاضرات طلابي مبكرًا ونذهب معًا للسيارة حتى نتمكن من سماع المذياع، فدائمًا كان الفائز أحد المؤلفين البارزين أو الشعراء أو غيرهم ولكن لم يكن توماس حتى العام 2011.

بداية رحلة الترجمة

وفي إحدى السنوات الأولى من الألفية الثانية، لا أذكر تحديدًا في أي عام، اقترح علي صديقي الشاعر العراقي الذي عرف باسم الشهرة «علي ناصر كنانة» أن نترجم معا مجموعة من أعمال «توماس ترانسترومر» الشعرية إلى اللغة العربية.

لقد شعرت بالسعادة عندما عرفت حماسه للأمر، ولكن راودني شعور بالتردد أيضًا، وكنت أتساءل كيف يمكن للمرء ترجمة الشعر من ثقافة إلى أخرى ويكون منصفًا للشعر باستعاراته ورموزه في البيئة الثقافية الجديدة.

وبعد قليل من التفكير وبعد تحدثي إلى مونيكا عن هذا المشروع عبر الهاتف قمت أنا وصديقي علي بزيارة لمنزل «توماس ترانسترومر».

ولن أنسى أبدًا هذه اللحظة حينما جلست إلى طاولة القهوة وتناولت كعكة الشوكولا المفضلة لدي واحتسينا القهوة التي أعدت حديثا، وفجأة سمعت «علي» يقول بلهجة سويدية عربية مميزة: سينال توماس جائزة نوبل بكل تأكيد، وبعد فترة من الصمت كسرتها مونيكا بابتسامتها الكريمة أثناء تقديمها مزيدا من القهوة لنا، اتجه مسار الحوار إلى كيفية البدء في مشروع الترجمة.

وعندما سئل «توماس ترانسترومر» عن نظرته شخصيًا إلى ترجمة الشعر، قام بإيضاح نقطتين، النقطة الأولى والأهم من وجهه نظري، هي أن ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى هي عملية إثراء للشعر، حيث ترتكز القصيدة في بيئتها الثقافية الأصلية وبعدها تزرع في بيئة جديدة لتكتسب معنى جديدًا وتعطي مدخلات أخرى في بيئتها الثقافية الجديدة.

والنقطة الثانية هي أن المشكلة ليست في ترجمة الكلمات المكتوبة بالأبيض والأسود على الورق، ولكن الصعوبة تكمن في كيفية نقل المضمون الذي لم يكتب بالحبر ومساحات الصمت والفراغات الموجودة بالنص، عندها شعرت بالتواضع لاسيما في مواجهة هذا التحدي الأخير. وشرع «علي» في مهمة الترجمة، وهو الذي قام بنشر مجموعات شعرية عن حياته في السويد وحصل على شهادة الدراسات العليا في الآداب من جامعة ستوكهولم، وكنت أحصل على المسودات الأصلية لفترات غير منتظمة، وانطلقت في مقارنة أعماله بالأعمال السويدية الأصل، وقد بدا لكلانا أنها مهمة مرهقة وبها مضيعة للوقت، فقد تتطلب أسابيع أو حتى شهورًا قبل أن نشعر بالرضا عن ترجمة قصيدة أو اثنتين من الشعر.

وفي أحد الأيام تلقيت مكالمة تلفونية وسمعت صوتًا على الطرف الآخر قائلاً «مرحبا، هذا هو أدونيس، لقد سمعت بأنك تقومين بترجمة أعمال «توماس ترانسترومر» إلى اللغة العربية» وحينها لم أعرف فيما أفكر أو كيفية التصرف، لذا جاوبت بكل بساطة «نعم هذا صحيح»، وأكمل هو «حسنًا أنا موجود في برلين هذا العام، فإذا كنت بحاجة لمساعدة أو تريدين أن نتزاور، أرجوك أن تخبريني بذلك، أرجو منك العمل الجاد مع الترجمة ولا تجعليها تستغرق وقتًا طويلاً، أرجو منك أن تسرعي بالترجمة»، وكان هذا تحديدًا هو هدفنا ولكن بسبب إقامة «علي» مع عائلته في دولة قطر وانشغالي التام بعملي في جامعة أوبسالا في السويد لم تكن السرعة هي السمة الرئيسة في مهمة الترجمة، على الرغم من أننا تلقينا رسالة واضحة من أدونيس أنه ينتظر بفارغ الصبر قراءة أعمال «توماس ترانسترومر» باللغة العربية والمترجمة مباشرة من النسخة السويدية الأصلية، وظل السؤال: كيف يمكن للمرء نقل أجواء ونكهات ثقافية للشعر من لغة وبيئة اجتماعية إلى أخرى؟ واسمحوا لي بأن أضرب أمثلة دقيقة وملموسة فضلاً عن اتساع مشكلات المفاهيم والتي واجهتنا على طول الطريق.

نكهات الثقافة

منذ أن قام عالم النبات والحيوان والطبيب السويدي «كارل فون لينييه» («كارل لينيوس» باللاتينية) (1707-1778)، بوضع الأساس لأنظمة النباتات لكتابه المسمى «أنظمة الطبيعة» والذي نشر للمرة الأولى عام 1735، قامت أجيال من الأطفال في المدارس السويدية بحفظ عينات النباتات في المعشبات. وتحديدًا كان هذا أيضًا جزءًا من دراسة حصص الطبيعة والأحياء في المدرسة خلال عصر «توماس ترانسترومر».

وأنا عن نفسي ظللت محتفظًا بمجموعة نماذج الأعشاب الخاصة بي، والتي قمت بجمعها مع جدي في فنلندا والسويد عندما كان عمري ست سنوات، وكان اهتمام الشاعر الشديد ومعرفته الواسعة بالطبيعة الإسكندنافية والنباتات والحيوانات والطبوغرافيا لا يجد القارئ مهربًا منها في شعره. وكان «توماس ترانسترومر» قد جمع مجموعة من الحشرات في طفولته، والتي كان مفتونًا بها في الواقع، وتمت تسمية أحد أنواع الخنافس والتي لم تكن غير معروفة سابقًا بعد ظهور «توماس ترانسترومر».

وقد اكتشف عالم الحشرات «مايكل سورينسون» بجامعة لوند الخنفساء النادرة والتي أطلق عليها اسم «مورديليستينا ترانسترويميريانا» بمنزلة تحية للشاعر، وقد أعلن هذا بالتزامن مع عيد ميلاده الثمانين.

وبينما شرعنا في الترجمة سرعان ما اتضح لنا ارتباط المصطلحات بالحياة البرية والمناظر الطبيعية وعدم ارتباطها بالكلمات والتعبيرات اليومية التي تعلمها «علي» أثناء فترة معيشته بالسويد، لم يكن هذا الأمر بمنزلة العقبة الصغيرة للتغلب عليها بالنسبة لنا حيث كانت كل قصيدة تحتوي على إشارة إلى عناصر الطبيعة على شكل مشاهد للنباتات أو الحيوانات أو المناظر الطبيعية. وحينما ظهر التساؤل عن زهرة ربيعية معينة، زهرة «الأنيمورت الزرقاء» والتي تسمى باللاتينية «الأنيمون الكبدية»، والتي عرفت في السويد باسم «بلاسيبا» لم أكن متأكدًا أن هذه الزهرة مألوفة بالنسبة لـ «علي».

في القصيدة التي تدعى «بلاسيبورنا» (زهور الأنيمورت الزرقاء) حيث قمنا بترجمتها إلى اللغة العربية على أنها «الشقار الأزرق» من مجموعة «الساحة الوحشية» عام 1983.

فوضعنا هامشًا أسفل الصفحة حتى نشرح فيه أهمية هذه الزهرة في الثقافة السويدية، تلك الزهرة البرية الجميلة تعد بمنزلة نقطة فاصلة بين فصلي الشتاء والربيع، مشيرة إلى أن برد الشتاء القارص على شفا الانتهاء من أجل إفساح المجال أمام موسم اعتدال الطقس المشمس الواعد، والتي تظهر بعدة ظلال زرقاء ابتداء من الأزرق الغامق والبنفسجي للأرجواني والأزرق الفاتح القريب من الأبيض، وأوراقها الخضراء لها شكل يشبه كبد الإنسان ولهذا كانت تسمى باللاتينية «زهرة شقائق النعمان الكبدية» وكلمة «هيباتيكا أو كبدية» هي الصفة المرتبطة بالكبد في اللاتينية، وهنا سأنتهز الفرصة لأصحح خطأ بسيطًا في هامش الترجمة لدينا، سيلاحظ القارئ أنه ذكر في الهامش أن الزهرة من فصيلة الشقيقيات مختلفة الألوان، كما شرحت في الأعلى، فزهرة الربيع السويدية «بلاسيبا» المحبوبة بشدة «زهرة شقائق النعمان الكبدية» لا توجد إلا في ظلال مختلفة من اللون الأزرق.

كانت طريقتنا في شرح تلك الأجزاء من المعرفة والتي لم تكن موجودة في الكتابة ولكنها كما لو كانت مكتوبة بحبر غير مرئي بين السطور والتي كانت مستخدمة طوال العمل وذلك حقيقة كان لإنشاء هوامش تفسيرية كلما رأى «علي» ذلك ضروريًا.

وبعد ستة أعوام من إصابته بجلطة في المخ عام 1990، قام «توماس ترانسترومر» بنشر مجموعة «الجندول الحزين»والتي قمنا بترجمتها إلى العربية، ولم يكن من الأمر المفاجئ أن وجهة نظره كانت في العديد من القصائد كما لو كان ينظر من النافذة، علما بأن الشاعر فقد الكثير من قدرته على الكلام، ومن خلال الشاعر يمكننا ملاحظة التوقيت اليومي ودوران فصول السنة من خلال مسار الشمس، وذهاب وإياب الطيور المهاجرة والحياة الصاخبة للطبيعة بكل وجوهها في هذه المجموعة، ويجد القارئ هذه القصيدة تحت اسم «الجوكن» وهو «طائر الوقواق» باللغة العربية.

وعند تسلم أول مسودة تم إصدار العنوان باسم «النسر» تخيلت طائرة من طراز رابتور هائلة بجناحيها والتي تصل إلى مترين تحاول إبقاء اتزانها بثقل في شجرة البتولا بجذعها النحيل ذي اللون الأبيض وفروعها الرقيقة وأوراقها الربيعية الخضراء الفاتحة، وكنت حريصة وأنا أشرح لـ«علي» أن هذا الطائر «الجوكن» (طائر الوقواق) تحت أي ظرف من الظروف هو نسر. وطائر الوقواق هو أحد الطيور المهاجرة القادمة إلى السويد أوائل الصيف الذي يرتبط به كثير من الأقاويل والتقاليد الفلكلورية القديمة.

ويسعدني أن أقول إننا اليوم يمكننا قراءة هذه القصيدة باللغة العربية وتتبع مسار طائر الوقواق بداية من موطنه الطبيعي بإفريقيا شتاء وإقامته الصيفية في السويد حيث أطلق عليها الوقواق أو «الوقوقة» بين أغصان شجرة البتولا، عبر نافذة الشاعر «توماس ترانسترومر»، والتي ألهمته لإنشاء هذه القصيدة.

تجربة نكهات جديدة من الثقافة واللغة مع «توماس ترانسترومر»

لقد كان واضحًا أن شعر «توماس ترانسترومر» تضمن موضوعات من أنحاء مختلفة من العالم ويضم حقبًا تاريخية عدة منها القديم والحديث، تطلبت منا الدراسة والبحث والتفسير.

هناك مسودات في العديد من الصفحات، وهنا قمت بالتركيز على بعض التفاصيل المرتبطة بالطبيعة السويدية والشمال والتي تظهر عبر قصائده، لذا فإن الكثير من القرّاء والذين نشأوا في السويد يصبح - بلاشك - لديهم القدرة على ملء الفراغات الصامتة بين الكلمات والسطور. وعلى الرغم من ذلك أود أن أشجع القرّاء من جميع أنحاء العالم على قراءة قصائده، وبدء رحلتهم إلى مجالات مجهولة والتي قد تشعرهم بنكهات جديدة من الثقافة واللغة.

وهنا أود أن أقول للقارئ العربي: لا تقم بمقارنة الشعر العربي بالشعر السويدي، حيث لكل منهما عالمه الخاص الذي تشكل من خلال تقاليد وثقافات مختلفة. ويمكن لقصائد «توماس ترانسترومر» أن تثري القارئ العربي والقصائد نفسها يتم إثراؤها عند انغماسها في بيئة تحمل الطابع العربي في ثقافتها ولغتها.

خنفساء ترانسترومر

21 / 4 / 2011

سميت خنفساء لم تكن معروفة سابقا عن الشاعر والكاتب «توماس ترانسترومر»، حينما اكتشف عالم الحشرات بجامعة لوند «مايكل سورينسون» الخنفساء وسماها بهذا الاسم بمنزلة تحية للشاعر، وقد تم الإعلان عن ذلك بالتزامن مع عيد ميلاده الثمانين.

وقد تم اكتشاف أنواع الخنفساء (مورديليستينا ترانستوميرنا) في منطقة جوتلاند السويدية وتم اكتشاف نوعين فقط منها، الأنواع الجديدة الموجودة في السويد تسمى «ترانسترومرز تومباج» أو «ترانسترومر برج الحمل» والتي يبلغ طولها من 5 - 6 ملليمترات، والتي لا تزال طباعها غير معروفة، ولكن «مايكل سورينسون» خطط لرحلة إلى أراضي جوتلاند السويدية من أجل مواصلة البحث في بيولوجية تكوين هذه الخنفساء.
----------------------------------
* أستاذة اللغة العربية في جامعة أوبسالا في السويد. والموضوع خاص بمجلة العربي
** مترجمة من مصر

----------------------------------------

كَفَى حَزَنـاً ألاّ أرَى وجْـهَ حِيلَةٍ
أزُورُ بها الأحْبابَ في حَـكَـمانِ
وأُقْسِـمُ لَـوْلا أنْ تَنَالَ مَعَـاشِـرٌ
جِنَـانَ بما لا أشْتَـهي لجِـنَـانِ
لأصْبحْتُ منها دَانيَ الدّارِ لاصقاً
ولكنّ ما أخشَى، فُديتَ، عَداني
فَواحَزَنا حُزْناً يُؤدّي إلى الرّدَى
فَـأُصْبِح مأثـوراً بِكُلّ لِسانِ
أرَاني انْقَضَـتْ أيّامُ وَصْليَ منكمُ
وآذَنَ فيكُمْ بالوداعِ زَماني

أبو نواس

 

غيل رامزي*