الصحفيون يرقصون الفالس!

الصحفيون يرقصون الفالس!
        

ترتبط رقصة الفالس الشهيرة بالنمسا لأن مكتشفها هو الموسيقار النمساوي الشهير يوهان شتراوس, وقد ظلت هذه الرقصة تمارس في الحفلات الخاصة في القصر الإمبراطوري وقصور الأغنياء ومشاهـــير العـصـــر فيـــما ظلـــــت العامة تمارس رقـــصاتها الشعبية المعروفة في المناسبات العامة والخاصة.

          كانت الكونكورديا - الحفلة الخيرية التي بدأ يحييها اتحاد الصحفيين عام 1863 فرصة لضم عامة الناس إلى حفلات القصور انطلاقاً من فكرتها الإنسانية في رفع الحواجز, وهكذا أصبحت الكونكورديا مناسبة عامة يحتفل بها سنويا - وحتى الآن - مع انقطاع لبضع سنوات طبقاً للظروف السياسية والأمنية.

          وقد نظمت 50 حفلة حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1914 ولم ينقطع الاحتفال إلا عامي 1889 و1913 لأسباب اقتصادية وأمنية بحتة, واستؤنفت الحفلات عام 1921 لتستمر حتى عام 1931 ثم توقفت مرة أخرى وعاودت فعالياتها عام 1960 وحتى الآن.

          وقد كانت ولاتزال رقصة الفالس هي التي يفتتح بها الحفل كل مرة في عرض يضم 200 شاب وشابة في ملابس الرقص البيضاء والسوداء, كما أن المشاركين يجبرون على ارتداء ملابس معينة, محتشمة وطويلة بالنسبة للنساء والسموكن بالنسبة للرجال, وقد تم إجراء تعديل في عدد المشاركين في رقصة الافتتاح من الشبان والشابات لما يزيد على 200, كما أن النساء الضيوف سمح لهن بارتداء ملابسهن الشعبية على شرط أن تكون طويلة ومحتشمة.

هدف خيري

          ويلاحظ أن رقصة الفالس قد سطرت لتاريخ النمسا منذ البداية, إذ إن حفلة الكونكورديا - التي كانت تقام في السابق في موسم الشتاء وانقلبت إلى موسم الربيع ومن ثم الصيف لاستقطاب السياح - كان الهدف من ورائها في البداية خيريا, وابتدعها اتحاد الصحفيين لمساعدة الصحفيين المحتاجين, خاصة أن الصحفيين لم يكونوا يملكون في حينه أي ضمانات اجتماعية أو صحية وكانوا عرضة للفقر والحاجة والتسول.

          ومع أن الأوضاع تغيرت وتحسنت, فإن الحفل السنوي احتفظ بهدفه المرسوم له منذ البداية, حيث يتم مساعدة الصحفيين الذين يعانون مشاكل اقتصادية ومالية, مثل التخلص من الديون أو تلقي العلاج في المستشفيات الخاصة وغيرها من الخدمات الاستثنائية.

          وقد برزت فكرة إقامة هذا الحفل السنوي بعد فترة من إعلان تشكيل اتحاد الصحفيين - والتي كانت بمنزلة نقابة تدافع عن مصالحهم - وحيث إن الصحفيين كانوا فئة ناقدة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تعرض الاتحاد وبالتالي الحفل - إلى انتقادات شديدة, واتهمت الدوائر المسيحية الاتحاد بأنه غير محافظ لأنه كان يضم بين صفوفه أصحاب الفكر والقلم من المجددين, علماً بأن أغلب من ترأسوا الاتحاد هم من أتباع الحزب الديمقراطي المسيحي المحافظ (الشعب).

ثورة هادئة

          وقد شكلت حفلة كونكورديا الخيرية السنوية حلقة وصل بين علية القوم ودانيهم, إذ أصبح الحفل يضم أفراد القصر الإمبراطوري في حينه, وأقطاب السياسة في عهدي الجمهورية الأولى (1918-1939) والجمهورية الثانية (1945) فيما بعد وعامة الناس بدعوى الجانب الخيري فيه, وأصبحت هناك فرصة لتبادل الأفكار بين القمة والأمة في جو اجتماعي مقبول, وقد حصلت عمليات تعارف عدة تزوج فيها أناس في القمة من أناس في العامة وبالعكس, وكانت بمنزلة الثورة الهادئة لقلب الأوضاع دون إثارة ضجة ما.

          ولحفل كونكورديا تقاليد خاصة عريقة لم تتغير منذ أكثر من مائة عام, سواء من ناحية الشكل أو المضمون, فمن ناحية الشكل - كما ذكرنا - يجبر الرجال والنساء على ارتداء ملابس محددة وهي بالنسبة للرجال بذلة السموكن السوداء وبالنسبة للنساء فساتين طويلة للسهرة.

          ومن حيث المضمون, فإن الحفل يبدأ برقصة الفالس الشهيرة يؤديها فريق مؤلف من حوالي 200 من الراقصين والراقصات في عمر الزهور - بين 17 عاما ولغاية 22 عاما - ترتدي فيها الراقصات بذلات العرس البيضاء والرجال بذلات العرس السوداء, ويشترط فيهم ألا يكونوا متزوجين, وتكلف بذلات الرقص هذه مبالغ كبيرة يتحملها الراقصون والراقصات من أجل المشاركة في هذا الحفل, كما أن بعضهم يؤجل مشروع زواجه كي لا يحرم من هذا الحفل.

          ويقود الفرقة السيمفونية المصاحبة كبار قادة الأوركسترا, ومن أشهرهم في السابق يوهان شتراوس الابن وأوفنباخ وفرانتز لهار, فيما قادها في العصر الحديث حالياً ولسنوات عدة المايسترو ماتسكو, ويستمر الحفل من الساعة التاسعة ولغاية الخامسة صباحا في الصالة الرئيسية بدار بلدية فيينا.

          وقد كان حفل كونكورديا دوما مناسبة لتأكيد عالميته وعالمية العاصمة النمساوية فيينا, تماما كما كانت الفكرة من وراء مثل هذه الحفلات والتي اشتهرت عام 1815 بمناسبة عقد المؤتمر الأوربي بدعوة من وزير خارجية النمسا الشهير مترنيخ, الذي حاول أن يوحد أوربا في هذا الحفل الراقص بالطرق الدبلوماسية والسياسية.

          ومنذ انهيار الجدار الحديدي الذي كان يفصل شرق أوربا عن غربها زاد عدد الجمهور القادم من شرق أوربا للمشاركة في هذا الحفل, ويتم نقل وقائعه عبر شبكات التلفزيون العالمية والأوربية إلى ما لا يقل عن سبعين دولة في العالم ليشاهد وقائعه عشرات الملايين من المشاهدين

 

هاشم العـمادي