قاهرة الغيطاني

قاهرة الغيطاني
        

كاتب ومكان

عـدسـة: رضـا سـالـم

عندما يكتب أديب كبير عن مدينته, فإنه يأخذنا في ثلاث جولات في آن معاً, جولة في روح المكان, وجولة موازية في دروب روحه هو, ومن ثم نجد أنفسنا عبر كل ما يوقظه فينا من شجون وفنون نجول في حنايا أرواحنا نحن, فكأننا نتعرف على المكان وعلى الكاتب وعلى أنفسنا في ضوء جديد. هذه الرحلة موضوعها القاهرة, والكاتب أحد العارفين بأسرار روحها. وهي دعوة لكتاب العرب الكبار كيما يأخذونا إلى دروب الروح في مدنهم, وفي ذواتهم المبدعة ومن ثم في دروب أرواحنا.

          كم شروقا توالى على الدنيا منذ اكتمال استدارة الكوكب - الأرض وانتظامه في مداره حول الشمس?

          كم شروقا توالى على تلك الأرض التي كانت أول ما رأيت? أقدم ما تحتفظ به ذاكرتي? ذلك الأفق القاهري, كم شروقا توالى عليه منذ أن كانت أرضاً وعرة, موحشة, حتى سريان نهر النيل إليها, وتكون الأحراش ودبيب الحيوان وسعي المخلوقات كافة وجهاد الإنسان?

          كم شروقا توالى عليّ?

          يصعب تحديد ذلك رغم سهولة الإجابة الظاهرية, ذلك أنني قادم من أمد يصعب تحديده إلى الأبد يعسر تعيينه, وما بينهما أيا من تلك التي يمكنني الإشارة إليها, أن أسمّيها, رغم أنها تنقضي دائماً, لكن ما يسهل الأمر عليّ أن مكانها متعلق بها, بل إن زماني لا معنى له دون هذا المكان, كل لحظة تستدعي موضعا بعينه, وكل موقع تحتويه لحظة, وقديما قيل إن الزمن مكان سائل, والمكان زمن متجمد, مكاني المرتكز, منطلقي, ذلك المسمى بالقاهرة, القاهرة القديمة تحديدا, القاهرة التي تعتقت فيها الأزمنة المتعاقبة, التي لا أدري ولا ألم بعدد المرات التي توالى عليها الشروق, لكنني أعي أول طلوع للشمس في ذاكرتي, يمت إلى أفق المدينة, ومنه منطلقي وأول وثبي ورحيلي, فكما ترحل الشمس, يرحل الضوء, ونرحل معه.

          كنا نسكن الطابق الأخير, الخامس, وكان يعد مرتفعاً بمقاييس الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي, من هذه النقطة بدأت صلتي بالزمن - القاهرة, إلى الشرق هضبة المقطم الصخرية التي كانت مغمورة بمياه البحر في زمن عتيق, قبل أن تنحسر المياه شمالاً مخلفة في الصخور أسماكاً وأصدافاً وكائنات بحرية توحدت بالحجر.

          إلى الغرب أهرام الجيزة, ومع متانة التحديق يمكن رؤية سلسلة الأهرام الأقدم, تتوالى عند خط الغرب, جهة مغيب الشمس, سقارة, دهشور, أبوصير. في زمن طفولتي كان الأفق القاهري مفتوحاً, لم تزحمه الأبراج المرتفعة التي تقوم الآن.

          صعب عليّ تذكر السبب الذي جعلني أخرج بصحبة الوالد - رحمه الله - إلى السطح فجرا, غير أنني أعي تماما وقوفي متطلعا إلى ذلك اللون الأحمر الذي يجيء من عتمة الليل مزيحاً النجوم إلى الأقاصي, احمرار خفيف لكنه قوي, يمهّد لدرجة أقوى من الأحمر الغامق, حمرة متدفقة, مستمرة, تنبئ بمصدر خفي, تتعاقب درجاتها بحيث يصعب رصدها, أو حصرها, أو تعداد درجاتها, عند لحظة معينة يتدفق الضوء, كأنه ينفجر ومن هنا سمي الفجر فجرا في اللغة العربية.

          من خلف صخور المقطم يبدأ البزوغ, مجرد خط نحيل يميل إلى استدارة, يتضح شيئاً فشيئا, وفور اكتمال ظهور القرص يصعد بسرعة. تلك لحظة لا تغيب عني ولا تولي, إليها أنسب أي شروق أراه, استعدتها في أوضاع شتى, وفي أماكن نائية, استرجع تطلعي المبهور ودهشتي الطفولية التي ربما تشبه دهشة الإنسان القديم وهو لا يجد تفسيراً أو تبريراً, فيتخيل عبور السماء بقارب خفي, وتمتد الأذرع من قرص الشمس, خيوط الأشعة تنتهي بأيد, ذلك التطلع العميق, المبهور أفتقده الآن, ليس لأني أغيب عن شروق الشمس لكثافة البنيان, واختلاف الموقع, لكن لتوالي المظاهر وتوالي الوقائع, واتضاح أمور شتى من خلال المعرفة, المعرفة التي تحد أحياناً من انطلاقه, لكن يظل الشروق الأول الذي احتفظت به ذاكرتي مهيمنا, مرجعياً, يوطّد المآذن, القباب, البيوت, أبراج الحمام, المدينة العتيقة وأهلها, أولئك الذين يعبرهم الزمن, ويعبرونه أيضاً.

          مع الشروق يبدأ السعي, منذ الفجر تسري الحركة, تخرج العربات التي تدفع باليد أو التي تجرها الحيوانات من مراقدها. أول ما يظهر منها العربات التي يقدم عليها الطعام, خاصة الفول المدمس, يوضع في (قدرة) مستديرة كانت في الماضي القريب من الفخار أو النحاس قبل أن يسود الألمنيوم, يتم النفاذ إلى داخلها بواسطة المغرفة, طويلة اليد, تخرج محملة بحبات الفول الذي استوى على نار هادئة, أصبحت لينة, ناعمة مثل الزبد, تدفس (القدرة) طوال الليل في المستوقد, حيث الوقود الذي يشعل النار البطيئة التي يتم بها تسخين ماء الحمامات العامة والذي يصلها عبر أنابيب من فخار, تصب في المغطس المليء بالماء الساخن ومنه يتصاعد البخار في فراغ محدود يجلس به الرجال ليلا والنساء نهارا, مع اندثار الحمامات العامة التي بلغ عددها أول القرن التاسع عشر ثلاثة آلاف, لم يتبق منها الآن إلا حوالي عشرين, بدأ باعة الفول يستخدمون وسائل مباشرة, لكن في كل الأحوال لابد أن تكون النيران هادئة تسوي الفول على مهل, حتى تنضج الحبات الصلبة, الجافة, وتلين بحيث تستحق الوصف الذي كان ينادي به الباعة على الفول (يا لوز), وللباعة القاهريين تراث طويل في المناداة على بضاعاتهم في أصوات منغمة, ويصل الأمر إلى تدليل البضاعة, فالطماطم لونها أحمر كخد العروس, والتين لا يشبهه شيء, أذكر في طفولتي أربعة رجال ضخام الأجسام, كانوا يدفعون أمامهم عربة صغيرة, فوقها أنواع مختلفة من الكعك, بعضه مستدير, والآخر مربع, من أشكال شتى, كانوا يجيئون إلى الحارة مرتين, الأولى عند شروق الشمس, والثانية عند الغروب, وما كان يثيرني, أصواتهم القوية التي ترتفع بالغناء.

          الفول يقدم فوق العربات اليدوية, العربة منمنمة, مزوقة, ألوان متضادة, الأحمر يقابل الأخضر, الأزرق يقابل الأصفر, عبارات مطمئنة, تؤمن البائع والمشتري معا.

الأرزاق على الله...
توكلت على الله..

          أو آية قرآنية:

كلوا من طيبات ما رزقناكم

          معظم الزبائن الذين يتناولون إفطارهم وقوفا من الموظفين الصغار أو الحرفيين, الأكل في الشارع, ثم تناول الشاي أو القهوة وتدخين المعسل صباحا بمنزلة اجتياز مراحل فاصلة بين البيت والعمل, نوع من التدرج, والضرورة أيضاً, إذ يستيقظ معظم الرجال والأطفال يغطون في نوم عميق, فلا يرغبون في إزعاجهم, مهمة بائع الفول أن يغرف الحبات والمرق في الأطباق الصغيرة, وأن يجهز الوجبة بإضافة الملح والكمون والشطة إذا رغب الزبون, ثم يقوم مساعده بغسل الأطباق في جدول مليء بالماء.

          حركات البائع سريعة, بارعة, يقف فوق صندوق خشبي, يجعله في مستوى أعلى من العربة, لا يسأل أي زبون كم رغيفا أكل, أو كم بصلة التهم? الوجبة لها سعر, فإذا تناول الزبون أكثر من رغيف أخبر به, لا يمكن المغالطة في العيش, ربما كان احترام الخبز قادما من الزمن المصري العتيق, ألم يصوّر جثمان (أوزير) على جدران المعابد والمقابر مدفونا تحت الأرض وسنابل القمح تنبت منه?

          الفول ليس طعام الإفطار القاهري الوحيد, سنرى عند مداخل بعض الحارات عربات أخرى, لكنها تتقدم (الكسكسي) طعاماً للإفطار, القاهريون يعرفونه محلى بالسكر الناعم الأبيض ويضاف إليه الحليب, لكنهم لا يأكلونه مضافاً إليه الخضراوات واللحم مثل شمال إفريقيا.

          عربات أخرى تقدم الفطائر المقلية في الزيت أو السمن, فطائر صغيرة شهية, ونرى عدداً منها معروضاً فوق بعضه البعض, يتناول البائع إحداها, وعلى طرف السكين المثلث يقلبها في الهواء ليتلقاها بمهارة, ثم يضعها في الإناء الذي يحتفظ بحرارته موقد صغير, ضعيف اللهب موضوع أسفله.

          المهارة في حركات البائعين قاسم مشترك, الخفة, المهارة, القدرة على تلبية طلبات الجميع في وقت واحد, ولكنها لا تهدف إلى ذلك فقط, إنما تعني أيضا مهارة البائع وشطارته.

          السرعة والمهارة, الخفة والإتقان, شرطان متلازمان لأداء القاهري الصميم أو كما يُعرف بين المصريين بابن البلد.

ابن البلد

          بسعيه في القاهرة, قديمة أو حديثة, يضفي عليها خصوصية, أهم ما في المدن ناسها, أهلها, خاصة المقيمين, الذين يجمعون داخلهم الزمان المنقضي والمكان المقيم.

          نراه في الشوارع, الحواري, الدروب, الأزقة, طبعا في الأسواق, والوكالات والمقاهي, حاضر دائما في الأفلام والمسرحيات المصرية.

          نراه يرتدي زيه التقليدي, الجلباب الواسع الأكمام, المفتوح عند الصدر, يبرز من تحته الصديري المصنوع من القطن, وأزراره العديدة, المنتظمة, المتعاقبة, حول عنقه شال من الصوف شتاء, أو القطن المنسوج يدويا صيفا, أما غطاء الرأس فهو (الطاقية) والتي يلف حولها شالا من الحرير أو القطن, قوامه فاره, صدره بارز, يعلن في كل خطوة أو إشارة منه عن تمكنه, خاصة إذا كان صاحب تجارة أو مكانة في السوق, ممن يطلق عليهم لقب (معلم), لقب يمنحه الناس لمن أمضى قدرا معقولا يبيع ويشتري ويصدق في العهود ويبدي آيات الشهامة, وينجد الضعيف, ويتحدى السلطة أحيانا, (المعلم) مطلقة, غير مقصورة على فرع معين من النشاط, تشمل كل الأنشطة, إنها تعني معرفة صاحبها بأسرار مهنته, والعلاقات بين الناس, ومعرفته بالأصول, والأصول في لغة الحياة اليومية للمصريين تعني منظومة القيم والعادات المتوارثة داخل هذا المجتمع القديم, وربما كانت كلمة (الأصول) تعني أو تقابل اللفظ المصري الفرعوني (ماعت) ابن البلد الذي يعرف الأصول, يقيم الحق, ينتصر له, يقف إلى جانب الضعيف منهم, عنده مروءة, جدع, والجدع هو الناصح, الذكي, الشجاع, الكريم, ابن البلد هو القاهري الصميم, تعرف المدينة فئات عدة, تجار, علماء دين, أفندية (أي مثقفين) أثرياء, لكن ابن البلد هو القاهري الصميم الذي يعيش في المناطق العتيقة, ويرتبط بالمكان وعادات الناس, عرفت بعضهم لم يغادر الشارع أو الحارة التي يعيش فيها معظم سنوات عمره.

          منهم معلم ابن بلد, كان صاحب فرن شهير في الجمالية, مقره في حارة درب الطبلاوي كان بيته على بعد أمتار من الفرن, ثم حدث شرخ في المنزل القديم, اضطره إلى الانتقال, بالتحديد إلى المغربلين, أي على بعد أقل من كيلومتر, كان يقطع المسافة يوميا مشيا, بدأ يظهر عليه الحزن, والاكتئاب, كان يحدثني بأسى عن غربته التي يعانيها هناك.

          (لكن يا معلم أنت لم تذهب بعيداً, والناس هناك طيبون...).

          يهز رأسه: هذا صحيح, لكنه طوال مراحل عمره, اعتاد أن يستيقظ فجرا, أن يخرج من الحارة مع جيرانه للصلاة في مسجد الحسين, ثم يعود الى الفرن يتبادل الصباح مع هذا, والحوار مع ذاك, يعرف أهل الحارة فردا, فردا, رأى بعينيه الفتيات وهن صغيرات, ثم نموهن مع الزمن, وزواجهن, ثم مجيئهن مع أطفالهن. لم يهدأ إلا عندما عثر على منطق ملائم فعاد إلى الحارة, وكان يردد دائما أن روحه ردت إليه يوم رجوعه (البلد) تعني الوطن كله. تماما كما يطلق اسم (مصر) على (القاهرة) في الريف, بحري أو قبلي, إذا قصد أحدهم السفر إلى العاصمة يقول: (أنا رايح مصر).

المقاهي

          يبهجني ويثير عندي التوقع والرغبة الحميمة في القربى مرأى المقاهي لحظة الشروق, ما قبلها أو بعدها, بداية النهار, إنها البداية, حتى في تلك المقاهي التي لا تغلق أبوابها على مدار الأربع والعشرين ساعة, مقاه عدة الآن في القاهرة تعمل بلا توقف, وقبل ربع قرن من بدء الألفية الثالثة, كان مقهى الفيشاوي العتيق الوحيد المصرح له بالسهر حتى الصباح, لذلك كان يقصده أهل الليل من الممثلين, والصحفيين والشعراء, والمتقاعدين الذين ينتظرون أن يفتح مسجد سيدنا الحسين أبوابه لصلاة الفجر, كان البشر من مختلف النوعيات والجنسيات, العقلاء والمجاذيب, يمرون به, أو يمر بهم, فالمكان هم وهم المكان.

          في بدايات النهار يتم كنس المقهى, ورشه بالماء, ونثر نشارة الخشب فوق أرضه حتى يسهل كنسه وإزالة الفضلات, للمقهى والعاملين بها أصول وقواعد, فكل شيء يجب أن يكون نظيفا, والمكان داع لا منفر أو طارد. قبل تمام الشروق لابد أن تكون (العدة) جاهزة, و (العدة) تشمل الأكواب الزجاجية, والفناجين, والملاعق, والماء الساخن, وجمر الفحم المتقد في الراكية لزوم النرجيلات, كذلك مواد المشروبات من شاي, وقهوة, وقرفة, وحلبة, وزنجبيل وكاكاو وحليب.

          يتهيأ المقهى لاستقبال الزبائن منذ الصباح الباكر, ما قبل الشروق, تسري الحركة بهدوء, النهار في أوله, وكل شيء يجب أن يكون بعيدا عن الحدة, نائيا عما يجلب الكدورات, أو نوازع الشؤم.

          تتشابه المقاهي في الظاهر أو تختلف, لكن مضمونها متقارب, إنها مكان اللقاء بين الأصدقاء الذين لا تتسع بيوتهم لضجيجهم وصخبهم, أو لقضاء الصفقات وإدارة الأعمال, كثير من المقاولين وأصحاب الأعمال الصغار لا مكاتب لديهم أو مقار, يجيئون في الصباح لتوزيع الأعمال, وعند المساء لمراجعة ما تم وترتيب الأحوال للغد الآتي, في المقاهي القريبة من دور المحاكم أو أقسام الشرطة, نلمح الكاتب العمومي, صورة متبقية من الكاتب المصري القديم, إنه متخصص في كتابة العرائض, والشكاوى التي يجب أن تقدم في صياغات معينة إلى مستويات الإدارة المختلفة. الكاتب العمومي يمكن أن يكتب رسائل شخصية أيضا, يمليها عليه أولئك الذين لا يتقنون القراءة والكتابة مقابل أجر معلوم, يتخذ هؤلاء أماكنهم عند مقدمة المقهى.

          زبائن الصباح الباكر معظمهم عابرون, من الحرفيين أو صغار الموظفين أو التجار, هنا يكون المقهى بمنزلة نقلة, محطة تتوسط الرحلة بين البيت ومقر العمل, كل منهم جاء ليعمل (اصطباحة) مشتقة من كلمة الصبح, أي يشرب كوبا من الشاي, أو يرشف فنجان قهوة, وربما يتناول إفطاره.

          غير أن هنا في المدينة القديمة مقاهي ليست للعبور, إنها محطة انطلاق للعمل, أعداد كبيرة من العمال والحرفيين, ليس لديهم عمل منتظم, إنهم بالتعبير الدارج (أرزقية) يخرجون مع شروق كل يوم, وهم يجهلون إذا كانوا سيعملون هذا اليوم أم لا?

          المقهى مكان مناسب للانتظار, ومع مضي السنين أصبح هناك تقسيم نوعي, وما يشبه التخصص, جنوب المدينة, أشهر مقهى للطباخين, يقع ناحية زينهم, في الصباح الباكر نرى الطباخين, معظمهم من النوبة, يجيء الزبائن, بعضهم راجل والآخر راكب, تبدأ المفاوضة حول الأصناف المطلوبة, وزمن إعدادها, والأجرة.

          في أول شارع محمد علي الذي صممه علي باشا مبارك في القرن التاسع عشر على نمط شارع ريفولي الشهير في باريس, يقع مقهى التجارة, إنه واحد من أقدم مقاهي القاهرة, رواده من الفنانين المتخصصين في إحياء الأفراح, بعضهم يعزف على الآلات الموسيقية, وبعضهم يؤلف كلمات الأغاني, وآخرون مطربون, منهم من عرف طريقه إلى الإذاعة والسينما والتلفزيون وحقق شهرة, مثل عبدالعزيز محمود في الأربعينيات والخمسينيات, وقد رأيته مراراً في المقهى, في ذروة مجده, وبعد أن بدأ غروبه الفني, المطرب الآخر الذي خرج من شارع محمد علي هو محرم فؤاد.

          في مقهى التجارة يعيش بعض الفنانين على حافة الحلم والواقع, حدّثني أحدهم بثقة أنه لا يقل موهبة ولا علما عن أشهر المطربين والموسيقيين, لكن محمد عبدالوهاب يقف في طريقه, يستخدم نفوذه القوي ليعطل انطلاقته الكبرى!

          الشروق في مقهى التجارة يعني الغروب, معظم رواده يبدأ توافدهم آخر النهار, إذ يسهرون طوال الليل في الحفلات والأفراح, وينامون مع ساعات النهار الأولى, في هذا المقهى عرفت أمهر من قابلت من لاعبي الشطرنج, كان متخصصا في إصلاح الآلات الموسيقية الوترية, أما لعب الشطرنج فهوايته, وكانت له شهرة ويجيء لاعبون مهرة لمنازلته من مسافات بعيدة, وكان يتطلع إلى اللعب أمام كاسباروف الروسي مؤكدا قدرته على هزيمته, إنه يعرف كل خططه.

          قرب ميدان باب الشعرية مقهى فسيح من مقاهي القرن التاسع عشر, مازال على مراياه ملصقات إعلانية لأنواع من السجائر لم تعد متداولة, هذا المقهى يقصده عمال الأفران, المتخصصون في خبز العيش والشطائر, على مقربة منه مقهى للمنجدين, هذه المقاهي الخاصة بالحرفيين مراكز تجمع, ومنها يمكن العثور على العمال المهرة والاتفاق معهم على أداء مهمة محددة, ومجرد انتماء العامل منهم إلى المقهى, يعني هذا درجة من الثقة والضمان.

          كما أن مقاهي الحرفيين معروفة, فكذلك مقاهي المثقفين في وسط المدينة, والتي كانت مركزاً لنشاط التنظيمات اليسارية, خاصة في الستينيات, وأشهرها مقهى ريش الذي شهد ميلاد حركات فنية وثقافية مهمة, وكان مركزا لجلوس نجيب محفوظ, ولهذا المقهى تاريخ ممتد, كان يجتمع به أعضاء الجهاز السري لثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي, ومنه جرت محاولة اغتيال رئيس وزراء مصر في العشرينيات يوسف وهبي القبلي والذي اختار الثوار شابا قبطيا ليحاول اغتياله, هو طالب الطب عريان سعد, وقد عرفته بمقهى الفيشاوي في الستينيات, وكان من أمهر لاعبي اليوجا في مصر, عندما قابلته كان قد اعتزل العمل السياسي منذ زمن طويل, خلال الستينيات اعتدت تدخين النارجيلة في مقهى أنيق, نظيف, بميدان باب اللوق, لا يقدم إلا النرجيلة وأنواع التمباك الجيدة, إلى جانب المشروبات العادية, لم يكن يسمح بلعب النرد, أو الطاولة, أو الشطرنج, مثل معظم المقاهي التي تسمح لروادها بهذه الألعاب, بل إنها القاعدة, كان ذلك المقهى استثناء, وكان يجلس به عدد من اللاجئين السياسيين, أعضاء حركات التحرر في إفريقيا والبلاد العربية, بعضهم أصبح من كبار المسئولين في بلادهم, وأحدهم أصبح رئيساً للجمهورية (قحطان الشعبي رئيس جمهورية اليمن الجنوبية السابقة), وزعماء جبهات تحرير أريتريا, كان أعضاء الجبهتين المتنافستين يجلسون بعيدا عن بعضهم البعض, على المقهى نفسه, وكان المعلم حريصا على الفصل بينهما حتى لا يقع احتكاك أو صدام مزعج.

          في ميدان التحرير, كان مقهى إيزائيفتش, أحد المراكز المهمة لتجمعات المثقفين اليساريين في الستينيات, كان صاحبه خواجة من يوغسلافيا, هرب إلى مصر بعد انتصار تيتو وقيام النظام الشيوعي, الطريف أن المباحث العامة كانت تغلق المقهى وتضع صاحبه تحت الرقابة كلما وفد جوزيف تيتو في زيارة إلى مصر, وكانت تربطه علاقة قوية بالرئيس جمال عبدالناصر.

          ترحل المقاهي بالبشر, ويرحل البشر عبرها, إنها مرافئ المدينة وزوايا أسرارها, يعتبر القاهري المقهى ركيزة مكانية لانتمائه, فيقول (أنا رايح قهوتي), ويتحدث باعتزاز عن شلة المقهى وصحبه, والمقهى بالنسبة له عصبة وملاذ أيضا - من أغرب المقاهي التي عرفتها, مقهى الخرس, يقع في وسط المدينة, مقهى فسيح, جيد الإضاءة, لا يقصده إلا الخرس, كنت أدخل إليه فأخجل من النطق, ذلك أن معظم رواده يتحدثون بالإشارة, يجيء كل منهم عبر مسافة بعيدة ليلتقي بالآخرين, وكان أحدهم بديناً, يجلس دائماً بمفرده, غير أن الابتسامة لا تفارق ملامحه, يتطلع إلى هذا, ويرفع يده تحية لذاك, إنه في حال تواصل وانقطاع مع الوجود المحيط به.

          من أقدم الشخصيات المرتبطة عندي بالمقاهي, المارشال علي.

          يعتبر ضريح ومسجد سيدنا الحسين المركز الروحي ليس للقاهرة فقط, إنما لمصر كلها, تحيطه المقاهي والفنادق الشعبية, من المقاهي القديمة, مقاهي المجاذيب التي تقع شرق المسجد, ومعظم روادها من الدراويش الذين هجروا أعمالهم ومقار إقاماتهم واستقروا بجوار الضريح القاهري للحسين الشهير, ابن بنت الرسول عليه الصلاة والسلام.

          عندما كنت طفلا في السابعة أو الثامنة, أصحب والدي لزيارة سيدنا الحسين أمر بمقهى المجاذيب, عند الاقتراب منه تنتابني رهبة, فسوف أرى المارشال علي.

          كان رجلاً أبيض الوجه, أحمر شعر اللحية, مكحول العينين, يرتدي حلة ضابط كبير بجيش لا يمكن تحديد هويته, على كتفيه رمانتان من الخيوط الحريرية وكأنه جنرال في جيش نابليون بونابرت, أما غطاء الرأس فيشبه الأغطية القوقازية.

          كان صدره مسرحا لنياشين قديمة, بعضها مصري أو عثماني أو أوربي, وإلى جانب النياشين علامات لسجائر بطل إنتاجها, ومشروبات من أول القرن, وعلامات غامضة, وكان يرتدي قفازات جلدية صيفا وشتاءً, يجلس فوق مقعد مرتفع وكأنه كرسي العرش.

          كنت أهابه, لكنني بعد دخولي المدرسة, وتجرئي على التجوال بصحبة زملائي بعد انتهاء اليوم الدراسي, صرت أقترب منه معهم, نقف على مسافة قريبة ونرفع أيدينا بالتحية العسكرية, عندئذ يقوم واقفا, يرد تحيتنا بأخرى أحسن منها, مارشالية, وكأنه يستعرض قواته.

          غير أن الموقف لا يستمر هكذا, إذ سرعان ما يصيح أحد الصبية بكلمة بذيئة جدا, موجهة إليه.

          عندئذ يشهر سيفه, ويزأر مهددا, وبالطبع ننطلق جريا بأسرع ما في وسعنا لكن المارشال علي لم يغادر مكانه قط, حتى عثروا عليه يوماً مغمض العينين مفارقاً الحياة في جلسته التي لم أره في غيرها, حتى أنني لأعجب الآن, أين كان يرقد? أين كان يغفو?

          مازال البعض يذكرون المارشال علي كطرفة, كإحدى الشخصيات الغريبة التي تعبر ميدان سيدنا الحسين, أو تقيم به, لكن... من هو? من أين جاء? لا يتوقف أحد للإجابة, فما أكثر الذين عبروا القاهرة القديمة, وكل عبور يعني انقضاء أي موتاً, أي عدما, حتى وإن كان يعني الوصول إلى مكان بعينه, كتب عدة وصلتنا عبر القرون الخمسة عشر, تذكر سير شخصيات مرت بالقاهرة, بدءا من السلاطين والأمراء حتى الصنّاع والتجار والحرفيين والفنانين المجهولين الذين حفروا الحجر, أو نقشوا الرخام, أو كتبوا على الجدران, لم يبق منهم إلا حضورهم الخفي الماثل في تلك المباني العتيقة, طوابير لا تنتهي تعبر المدينة, تأخذ منها وتضيف إليها, طوابير تجيء من العدم وتمضي إلى العدم.

          ماذا بقي من الحاج فهمي الفيشاوي?

          مقهى يحمل اسمه, معظم رواده لا يعرفون صاحبه الأصلي, يطالعون لوحة زيتية, رسمت له عام أربعين, أي قبل مجيئي إلى الدنيا بخمس سنوات, غير أن ما بقي منه عندي (قعدته) عندما بدأت أتردد على المقهى بصحبة والدي في مطلع الخمسينيات, كان الحاج فهمي الفيشاوي صاحب المقهى قد لزم مكانه عند المدخل, فوق دكة خشبية عريضة تمكنه من النوم متمددا إذا غفا. وفي يقظته يتكئ إلى مجموعة من الوسائد, يحدق إلى المارة وإلى زمنه القديم, بينما النرجيلة لا تفارق يده, نرجيلة رشيقة, جميلة, يفوح منها دخان التمباك الفاخر, إلى يمينه يقف جواده العربي الأصيل, كان يبذل عناية خاصة به, يداعبه, ويتبادل معه النجوى, ويغسله بيده, لكنني لم أره يمتطيه, لم أشهده يركبه إلا في الصور أو اللوحات المعلقة فوق جدران المقهى.

          إلى الجدار عُلّق قفص كبير به أنواع نادرة من الحمام, كان يمضي أوقاتاً طويلة في التطلع إليها, وكأن حواراً صامتاً يجري.

          في شتاء عام تسعة وستين من القرن الماضي, أصدر محافظ القاهرة قراراً غبياً لإزالة المقهى الشهير, ولم تنجح الحملة التي نظمها عدد كبير من المثقفين لوقف القرار, وتحدد يوم معين لبدء الهدم.

          قبل يومين من الموعد المقرر أغمض الحاج فهمي الفيشاوي عينيه, أغمضهما إلى الأبد, لم يحتمل رؤية المعول يرتفع ليهدم المقهى. مقهاه, مكانه, أيامه, عمره وحضوره, غير أن الغريب ما جرى للحصان وللحمام, مازال أهالي المنطقة وأبناء خان الخليلي الذين عاصروا تلك الأيام يذكرون ما جرى.

          الحصان مات بعد رحيل صاحبه بساعات, أما الحمام فامتنع عن الطعام والشراب, حتى قضى.

          ولم يتبق من المقهى إلا ركن صغير مازال يحمل الاسم القديم, الفيشاوي, مجرد, اسم مجرد, مازال قادرا على جذب الرواد, ومعظمهم الآن من الشباب الذين لا يعرفون إلا اسم المكان, ويجهلون ما كان عليه من مجد قديم.

          من الذين عبروا بالمقهى وتتردد سيرتهم أحيانا, إبراهيم الضرير, بائع الكتب, كان قزما, قصيرا جدا, ممتلئا, يحمل عددا كبيرا من الكتب القديمة, يمشي متمايلا, يقف ليصيح.

          (معنا الكتب الممنوعة....)

          كان يقصد بالنداء, الكتب الممنوعة من التداول, مثل الطبعات القديمة من ألف ليلة وليلة, و (رجوع الشيخ إلى صباه) و (المفاكهة والائتناس في ذكر مغامرات أبي نواس) و (الروض العاطر). كانت هذه الكتب ممنوعة, وضبط نسخة واحدة منها مع شخص قد تسبب مشاكل لا يمكن التنبؤ بمداها, لكن إبراهيم الضرير اعتُبر استثناء, لا أحد يقربه, ليس لأنه من معالم المكان, إنما لأنه (بركة) هكذا يعتبر البعض في القاهرة القديمة, يتفاءل الناس به, وإذا كان درويشا, هائما يعتقد الناس فيه.

          حدث في نهاية القرن التاسع عشر, أن قررت السيدة خوشيار هانم أم ملك مصر وقتئذ بناء مسجد ضخم في مواجهة أعظم مساجد مصر على الإطلاق, مسجد السلطان حسن المشيد في القرن الثاني عشر الميلادي, أنفقت من مالها قدرا كبيرا, وجاء تصميمه عثماني الطراز مع تأثيرات مملوكية قوية.

          مات الخديو إسماعيل, وبعده الخديو, توفيق, دُفنا به, وبعدهما ماتت السيدة خوشيار هانم ودفنت به. أصبح المسجد مقبرة ملكية, يرقد فيه الآن سبعة ملوك مصريين آخرهم الملك فاروق الذي عزلته ثورة ضباط الجيش في يوليو 1952 بقيادة جمال عبدالناصر. وآخر ملك دفن فيه, ملك الملوك, شاهنشاه إيران, الذي طُرد من إيران بعد الثورة, وضاقت عليه الأرض, فلم تقبل أي دولة قبوله إلى أن قرر الرئيس السادات استضافته, ولم يمكث الشاه رضا بهلوي وقتا طويلا, مات نتيجة مرضه بالسرطان, وتم دفنه بجوار ملوك مصر السابقين, وكانت زوجته الأولى مصرية. الأميرة فائزة شقيقة الملك فاروق, لكنها لم تكن تنجب فطلقها. وتزوج السيدة فرح ديبا التي لاتزال تقوم بزيارته في قبره كل سنة في ذكرى رحيله. تجيء هذه الزاوية النائية من المسجد التي يرقد فيها آخر ملوك إيران, والذي احتفل قبل خلعه بسنوات بمرور ثلاثة آلاف عام على اعتلائه عرش قورش, عرش الأكاسرة ملوك إيران, هل تصور يوماً أنه سيرقد إلى الأبد في هذا الشارع القديم من القاهرة, بالقرب منه ملوك وملكات مصر, لكن معظم الناس لا يعرفون مراقدهم, فالمصريون لا يحتفلون بذكرى الحكام, لا يقيمون لهم الموالد, إنما يُعرف المسجد الآن بمسجد الرفاعي.

من هو الرفاعي?

          حدث في الربع الأول من القرن الماضي أن ظهر درويش مجذوب, لا يعرف أحد من أين جاء, أقام بجوار باب المسجد الضخم, وكان يهذي أحيانا بجمل غير مفهومة, وكان يغيب أحيانا عن الوعي, فيظن الناس أنه رحل إلى هناك, إلى حيث لا يمكن تحديد موضع معين, اعتقد فيه القوم واعتبروه (بركة) وعندما توفي صباح يوم بارد, قرر القوم دفنه في مدخل المسجد, كان اسمه أحمد أبوشباك الرفاعي, أي المنتمي إلى الطريقة الرفاعية, إحدى أشهر الطرق الصوفية في العالم الإسلامي, ويشتهر رجالها بقدرتهم على إخراج الثعابين الضارة وتطويعها, والمشي فوق النار, وبلع الأسلحة البيضاء.

          نسب الجامع كله إلى هذا الدرويش الرفاعي المجهول, وأصبح يُعرف به, يقع ضريحه في مدخل المسجد الشاهق, وكأنه بني من أجله.

توالد الأشكال

          مم يتكون الشعاع?

          هل الضوء متصل أم منفصل?

          هل يجيء إلينا في خطوط ممتدة بلا انقطاع من المصدر الذي يصعب تحديده إلى المقصد الذي يعسر تعيينه?

          من الثابت علمياً أن الضوء الذي يتجسد لنا شاملا, فيحيط بنا ويتخللنا, ونتخلله, يتكون من جسيمات دقيقة جدا, من الجزء يكون الكل, من الذرات التي تعجز أبصارنا عن رؤيتها تتكون الأشكال والأجسام.

          من الجزء يتكون الكل.

          منطق, قانون يسري في المدينة, في الزخرفة, في الحكي, في منظومة اللحظات التي حاول المصوّرون تثبيتها عبر الضوء والزمن من حيوات القاهرة العتيقة, إذا ما رأيناها متجاورة, أو متتابعة, تكتمل, صورة تلد صورة, لوحة تتفرع عن الأخرى, تماما مثل حكايات ألف ليلة وليلة, مثل الزخارف المجردة التي تتدفق إلى ما لا نهاية, بينما يمكن أن يكتمل تكوينها عند أي نقطة.

          في ذلك اليوم البعيد من فبراير عام تسعة وستين وتسعمائة ميلادية, وقف القائد جوهر صقلي الأصل, قائد جيوش الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القادم من المغرب ليغزو مصر, وقف وسط ضباطه وجنوده في انتظار اللحظة المناسبة لوضع أساس المدينة التي ستكون عاصمة الدولة الفاطمية الجديدة على مصر. كان المنجمون يتطلعون إلى النجوم لاختيار اللحظة الأسعد كي يطلقوا إشارة بدء تشييد المدينة, نصبوا الأجراس لذلك.

          حدث قبل اكتمال الغروب أن وقف طائر على الحبل الذي يصل الأجراس ببعضها البعض, عندئذ ظن المنجمون أن الإشارة انطلقت, فنظروا إلى السماء, كان القاهر متألقا في السماء بلونه الأحمر, والقاهر أحد أسماء المريخ أو مارس, هكذا أصبح الاسم, القاهرة. هكذا جاء ميلاد المدينة مرتبطا بالفلك, بالضوء, بالكون, بالكل, إنه المضمون المصري العتيق نفسه, عندما كانت العمارة متصلة بالنجوم, والجهات الأربع, وأيضا... النهر, مصدر الحياة للوادي, والحضارة النامية على ضفتيه.

          يمضي النهر من الجنوب إلى الشمال, وهكذا كل الشوارع الرئيسية في القاهرة أو المدن المصرية الأخرى, خاصة مدن الجنوب, حيث الصلة بالنهر أكثر حميمية ومباشرة, في البداية احتوت المدينة على قصرين فقط ليسكن الخليفة وحاشيته, الشرقي الكبير, والغربي الصغير, وما بينهما شارع يمتد من الجنوب إلى الشمال, بحذاء النهر على البعد, يتخلله ميدان لاستعراض الجند, وإقامة الحفلات, مازال الطريق المتعرج, الرئيسي, يقسم القاهرة القديمة إلى قسمين, إنه يمتد الآن من ميدان القلعة, حتى ضاحية العباسية شرقاً, أشهر أقسامه ما يُعرف بشارع المعز لدين الله, أو بين القصرين, عنوان الملحمة الشهيرة للروائي نجيب محفوظ (نوبل 1988).

          يمضي الطريق مثل النهر تماما, لا يسير في خط مستقيم, إنما يتعرج بحيث يبدو مغلقا كل خمسين أو مائة متر, فإذا وصلنا إلى المنطقة التي يبدو مغلقا عندها نجد انفراجة تؤدي إلى الجزء التالي, دائما هناك وعد بالوصول, تبدو المسافة قصيرة, غير أنها تؤدي إلى أخرى, إن هذا التقسيم التلقائي للمسافة يحدث شعوراً بالراحة عند من يمشي على قدميه أو يقطع الطريق على ظهور الإبل أو الحمير كما كان الأمر حتى نهاية القرن التاسع عشر, عندما كانت الحيوانات هي الوسيلة الرئيسية للانتقال في المدينة وأيضاً لتزويدها بالماء. من ناحية أخرى يؤدي هذا التعرج إلى تبادل ظلال المباني, فينتفي الشعور بالحر صيفاً, وتنكسر حدة الرياح الباردة في الشتاء, مازال الطريق الرئيسي في القاهرة القديمة يحمل المعالم التي سجلها المقريزي في القرن الرابع عشر الميلادي في كتابه الضخم (الواعظ والاعتبار بذكر ما في مصر من خطط وآثار) عُرف الشارع الرئيسي بقصبة القاهرة, أو الشارع الأعظم, يبدأ من ميدان الرميلة الذي يعرف الآن بميدان القلعة, وينتهي عند باب الفتوح, أحد أبواب أربعة متبقية من بوابات القاهرة القديمة السبع.

          منه تتفرع الحارات, والحارة تضم مجموعة من المسالك.

          منها الدرب, وهذا يؤدي من مكان إلى مكان.

          منها الزقاق, ويتخلل الدرب, أو يصل ما بين دربين, والزقاق عرضه أقل وطوله أصغر.

          ومنها العطفة, وهي المنحنى داخل الدرب.

          ومنها الخوخة, وهي نقب في بيت قديم يعترض مرور الناس, وطبقا للتعاليم الدينية يوجد ما يُعرف بحق الطريق لجميع الناس, فإذا أقدم أحدهم على بناء قصر أو حتى مسجد يعترض الناس, فلابد أن ينشئ ممرا يسهل مرور الناس من مكان إلى آخر هكذا ظهرت الأقبية, وأشهرها الآن اثنان, الأول قبو درب قرمز تحت مسجد الأمير متقال, وقبو بشتاك تحت قصر الأمير الشهير بالجمالية.

          هكذا جاء تعميم المدينة نتيجة احتياجات اجتماعية, ومناخية, وعقائد قديمة مصرية متوارثة, تصل المكان بالنجوم والشمس, بالكون الفسيح, وبالنهر, بالنيل, مصدر الحياة الرئيسي, ثمة ضرورة أخرى, الضرورة الأمنية, كثيرا ما كانت الاضطرابات تقع في الزمن المملوكي, وحتى يتجنب الأهالي عبث المماليك, وغارات اللصوص, أصبح لكل حارة باب يُغلق ما بعد الغروب وحتى الفجر, وعند وقوع الاضطرابات, كانت مسئولية فتحه وغلقه تقع على شيخ الحارة الذي يحتفظ بالمفاتيح, وهو المسئول عن المكان أمام الوالي والمحتسب.

          الحارة, إنها الوحدة الأساسية لتصميم المدينة, إنها صورة مصغرة للكون الكبير, للحياة بتنوع مصائرها وتداخل مساراتها وتفاعلاتها, لذلك أقول دائماً: الحارة عالم صغير, والعالم... حارة كبيرة.

نسمات العصاري

          وُلدت في جهينة, بسوهاج, محفوفا بنخيل الصعيد وظلاله وسموقه وأصالته, لكنني نمَوْت وشببت في الخلاء القاهري, ومنه أستمد أقدم صور عمري.

          أقامت أسرتي في المنزل رقم واحد, عطفة باجنيد, المتفرعة من درب الطبلاوي. بيت ربما بُني في القرن التاسع عشر, مكون من خمسة طوابق, وهذا ارتفاع له شأن في الأربعينيات عندما بدأ وعيي يلتقط أول مظاهر الوجود, كنا نسكن الطابق الأخير, وأمامنا يمتد سطح فسيح أو هكذا كان يبدو لي في طفولتي, فلكم تتغير نسبية الأشياء مع التقدم في العمر. كان الأفق القاهري رحيما بالنظر, خلاء ممتد, وتاريخ واضح, الأهرام في الغرب, ومآذن السلطان حسن والرفاعي ومحمد علي والحمودية ومئذنة سيدنا ومولانا الحسين, كلها تسمق في الجنوب, والمقطم الذي لم نعرف جبلا أكثر منه ارتفاعا يحد المدينة من المشرق, وكانت عمارة حديثة مرتفعة تقوم إلى الشمال, ناحية غمرة, تحمل إعلانا دائريا, يلمع في الليل عن مشروب غازي, لم يكن الأفق القاهري مدججا بالخرسانة والأبراج كما يبدو الآن, ولم يكن التلوث بهذه الدرجة التي نراها الآن, حيث تجثم غمامة كثيفة على المدينة طوال ساعات النهار.

          كنت أشب على قدمي لأتطلع إلى الأفق الفسيح, وأسطح البيوت المجاورة, والمعالم, ولو أنني اخترت من حياتي لحيظات حانية, لكان أولها لحظات العصاري في المدينة القديمة, خاصة عندما تنكسر درجات الحرارة إذا كان الفصل صيفا, أو تغمق الظلال مسرعة باكتمال الليل شتاء, ولأن معظم شهور السنة حارة, لذلك اشتد الشوق إلى النسمة, والهواء الطيب في بلادنا يجيء من الشمال, ومن العبارات التي تتردد كثيرا في ذاكرتي منذ الطفولة.

          (يا سلام على نسمة العصاري...)

          كانت نسمات العصاري من مفرجات الكروب, وبواعث الراحة, وأسباب هدهدة الروح في القاهرة القديمة, لذلك اتخذ المعماري القديم ما يكفل استدارة البناء تجاه الشمال, يستقبل النسمات الحانية, المرطبة, من التكوينات الغريبة التي لفتت نظري في الصبا, بناء هرمي الشكل من خشب غامق, يواجه الشمال بفتحة واسعة, وكان مثيراً لخيالي, خاصة أنه ارتبط بالقصر القديم, المهجور, بؤرة الذاكرة ومحور إطاره. قصر المسافرخانة, شيئا فشيئا عرفت أن هذا التكوين اسمه (ملقف) وأنه مخصص لاستقبال الهواء, ودفعه إلى قاعات وغرف البيت (نب آمون) من الأسرة التاسعة عشرة نرى الملاقف, ويذكر المرحوم المهندس حسن فتحي في دراسة جميلة عن القاعة القاهرية أن منازل تل العمارنة ضمّت قاعات تحيط بها الحجرات, ويرتفع سقفها أعلى من منسوب باقي السقف, بها فتحات لتصريف الهواء الساخن تماما كما هو الحال في القاعة العربية ولكن دون الملقف, بدءا من الأسرة التاسعة عشرة بدأ ظهور الملقف, واستمر في التطور حتى وصل إلى درجة متقدمة من الكمال في العمارة العربية, واحتفظت المنازل القاهرية بملاقف متكاملة, أهمها قصر المسافرخانة وقاعة محب الدين, للهواء حركة داخل المباني, تنشأ من اختلاف الضغوط, حيث يمضي الضغط من العالي إلى الواطيء, وخلال عملية التصعيد والإحلال, يصعد الساخن ويستقر البارد الملطف, ليجد طريقه عبر ثنايا البيت, من الملقف إلى الطوابق العليا, ثم السفلى, حتى أبعد نقطة في البناء. إن الهواء القادم من الشمال يتجمع عند الفتحة, أعلى الملقف, هنا يحدث ضغط للدخول عبر هذه المصيدة المحكمة, وشيئا فشيئا تنتقل النسمات من أعماق الكون إلى ثنايا الصدور, وليس مثل صدورنا القاهرية في تنسمها الهواء الطيب ساعة العصاري. وكان من أسعد حالاتي تلك اللحيظات التي أجوس فيها داخل قاعات المسافرخانة, أو حجراتها, أصغي إلى حفيف النسمات السارية, وأحن إلى الزمن الجميل, وأحمد الله على تلك النسمات, وكل ما تأتي به المقادير.

 

جمال الغيطاني