في تعريب الطب الجامعي... أيضا

 في تعريب الطب الجامعي... أيضا
        

          نشرت مجلة (العربي) في العدد (518) شهر يناير 2002 في باب (منتدى العربي) مقالاً بعنوان (هل حان الوقت لتعريب التعليم الجامعي أيضاً) بقلم محمد فالح الجهني, تعقيباً على حديث الشهر الذي كتبه رئيس التحرير الدكتور سليمان العسكري ونشر في العدد (508) مارس 2001 تحت عنوان (العرب وتعريب العلوم الحديثة).

         فيما يخص تعريب العلوم البحتة والعلوم سأختار الطب لأقول ما يلي:

         أولاً: لا يختلف - ربما اثنان - على أن مدارس الطب الحالية تكاد تنحصر في المدرسة الأمريكية والمدرسة البريطانية, وهناك إسهامات أخرى من هنا وهناك ربما لا تملك من الأهمية أكثر من الإضافة إلى ما أوجدته هاتان المدرستان, والدارس المتخصص في الطب يجد نفسه عاجزاً تماماً عن قراءة وليس ترجمة ما يصدر عن هاتين المدرستين من معلومات غزيرة في هذا المجال, إذ لا يمر شهر دون أن ترفدنا المدرستان بعشرات بل مئات المجلات الطبية في جميع التخصصات, وتحتوي على الكثير من المعلومات المهمة الناتجة عن دراسات وأبحاث متخصصة ودقيقة, إضافة إلى عشرات الدوريات والمقالات والمؤلفات نصف السنوية والسنوية, إضافة إلى ما تنشره كليات الطب المشهورة على شبكات الإنترنت من معلومات مفيدة, وهذه جميعا لا غنى للطبيب عنها, والحالة هذه فإنه من ناحية عملية يصعب ترجمة كل ما ينشر.

         ثانياً: الطب بكامل فروعه ليس نصّاً ثابتاً, يمكن الاكتفاء بترجمته, وتدريس هذه النصوص, بقدر ما هي معلومات تتطوّر وتتغيّر - أو بعضها - من وقت لآخر نتيجة الأبحاث المستمرة والتجارب المكثّفة, وبالتالي فإن على الطبيب الإلمام التام بلغة الطب (الإنجليزية على وجه الخصوص) كي يستطيع متابعة الجديد, وإلا فإنه سيجد نفسه يتعامل بمفاهيم ولغة قديمة, وتزيد بالتالي المسافات البعيدة أصلاً بين معارفنا الجامدة, ومعارف الغرف المتحركة والسريعة, وما أود التأكيد عليه أنه لا يمكن للطبيب تعلّم هذه اللغة خارج الأماكن المخصصة لتعليمها: قاعات المحاضرات في كليات الطب, وغرف التشريح, المختبرات, والمستشفيات وغيرها, حيث يفهم المتلقي معنى المصطلح العلمي تطبيقياً, واللغة الإنجليزية التي تدرّس خارج هذه الأماكن ليست أكثر من لغة وثقافة عامة, بعيدة عن لغة الطب والأطباء.

         ثالثاً: تقام في دول أوربا وأمريكا الكثير من المؤتمرات, والندوات الطبية والأنشطة المهمة باستمرار, في تخصصات شتى, ويحضرها عدد كبير من أطبائنا العرب من معظم الدول تقريباً, يتم خلالها عرض كثير من نتائج الأبحاث والدراسات, والإنجازات الطبية المتقدمة, ويتم من خلال ذلك التواصل الاستفادة من خلاصة تجارب الأطباء الغربيين ومن خبراتهم, بما ينعكس إيجابا على المستوى العلمي وبالتالي مستوى الأداء لدينا, فكيف نستفيد من ذلك لو كان أطباؤنا لا يفهمون اللغة الأصلية (الإنجليزية) التي يتكلم بها هؤلاء?

         كما أن تشكّل ما يسمى بعالم (القرية الواحدة) أو العالم بلا حدود وما يفرضه هذا العالم الصغير على الجميع بلا استثناء التعاون والاندماج, للاستفادة والانتفاع من التكنولوجيا الهائلة التي توصّل العلم إليها, وتكنولوجيا الاتصالات تقدم العديد من الخدمات في مجال الطب, وعلى سبيل المثال فقط تقدّم خدمة الطب عن بعد Telemedicine وتوجد هذه الخدمة الآن في أكثر من دولة عربية, ومن خلالها يتم التخاطب مباشرة من داخل غرفة العمليات مع كبار الجرّاحين في أمريكا وبريطانيا للاستعانة بهم واستشارتهم سواء في خطوات العملية الجراحية أو في تفسير ما تم اكتشافه لدى الشخص المصاب وغير ذلك من الخدمات المتنوعة التي لا حصر لها, وكما هو واضح فإن دراسة الطب باللغة الإنجليزية أمر ضروري لا غنى عنه, وقديماً قيل مَن عرف لغة قوم أمن شرّهم.

         رابعاً: هناك مصطلحات طبية موحّدة وعالمية, يفهمها - أو هكذا يفترض - معظم أطباء العالم, وإيجاد معجم عربي موحّد, ربما لا يخدم الطبيب باستثناء إدخالها ضمن أنشطة عربية داخلية تكاد لا توجد.

         خامساً: يمكن تعريب أي علم, ويأتي الطب في المقدمة, لو كنا نمتلك إسهامات متواصلة, وفاعلة فيه, بما يؤهلنا كعرب ومسلمين إلى التأثير في نتائجه ونظرياته, وحركة تطوّره الحديثة, بصرف النظر عن تاريخنا الرائد فيه - أما أن يكون هذا العلم - كالطب مثلا - وما يتبعه من تصنيع دوائي غزير, وأجهزة متطورة جدا, وتكنولوجيا هائلة, وهذه جميعها نستوردها من الألف إلى الياء, فعملية الترجمة ليست سوى ضياع للجهد والمال, وهل يعني تعريب الطب أن يتبعه تعريب كل أسماء العلاجات التي تصنع, والوصفات الخاصة بكل علاج كي يفهمها الطبيب? وماذا نستفيد من التعريب في هذه الحال?

         سادساً: التجربة السورية في مجال تدريس الطب باللغة العربية, وإن كانت إلى حد الآن تبدو ناجحة, فلا يمكن الحكم النهائي بنجاحها, لأن الأطباء الذين يقومون بالترجمة والتدريس, يمتزج تدريسهم بالكثير من المصطلحات الأجنبية, ويتم ابتعاث أو سفر العديد من الطلاب للدراسة في الخارج بشكل مستمر, وأثناء العمل بالمستشفيات يم تداول المصطلحات جميعها (عربية وإنجليزية) ويتعلّم البعض من البعض الآخر, ونجاح الأطباء السوريين في الامتحانات الدورية في أمريكا يرجع في الأساس إلى مستواهم الجيّد في اللغة الإنجليزية وقدرتهم على تحويل معلوماتهم إلى هذه اللغة وليس العكس.

         وأخيراً: شيء جميل أن ننتصر للغتنا العربية, ولكن ليس بترجمة ما يقوله الآخرون لنا, ويثبتون حقائقه ونظرياته بدلاً عنا, وإنما الانتصار يأتي من خلال تشجيع البحث والتجريب, وتطوير قدرات أطبائنا وعلمائنا, وتنمية خبراتهم ومواهبهم, ودعم الإبداع الذي توقف, وتنشيط العقول العربية التي تراكمت عليها أطنان من غبار الخوف والفقر والهزيمة, بحيث تكون لنا إسهامات وبصمات متميّزة في هذا الجانب, تعبّر عن قدراتنا وإمكاناتنا ولغتنا, بذلك فقط سننتصر للغتنا العربية

 

عبدالرحمن حسن الحرازي