الكويت وتسميتها

الكويت وتسميتها
        

الأسماء في أوربا وأمريكا قلما تجد من يهتم بمعناها, بعكس العرب فهم لا بد أن يردّوا كل اسم إلى معنى, ولو قسراً. لماذا معنى (مازن) هذا الاسم الجميل بيض النمل?

          في أحد المهرجانات الثقافية - في العراق - مرّت أسماء بعض المدن العراقية ومعانيها, ككربلاء والبصرة, وقال الأساتذة الأفاضل ما قاله أصحاب المعاجم اللغوية, نقلوا ما جاء في لسان العرب عن تسمية البصرة, وما قاله الفيروزبادي في القاموس المحيط, وما ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي, وغيرها, وكل الأحاديث والشروح أجمعت على أن معنى البصرة هو الحجارة السوداء أو الحجارة البيضاء... إلخ, والاختلاف بين الشارحين انحصر في لون الحجارة, قيل الحجارة البيضاء, وقيل الحجارة السوداء, وقيل الحجارة اللامعة.

          لو كان هذا الوصف لمدينة في شمال العراق, مثل كركوك أو أربيل, لما أثار التفسير استغرابي, وأنا بين المستمعين المستسلمين لما يقوله العلماء, ولكن البصرة, هذه الأرض الرسوبية التي لو حفرت فيها ميلاً في العمق لما وجدت فيها حجارة بيضاء ولا حجارة سوداء ولا حجارة لامعة, ولا حتى حجارة (ملحة) كيف استمر تفسير وصفها المخالف لطبيعتها ألف عام?

          قرأت في بداية العام (1999) كتابين جديدين عن الخليج العربي الأول للدكتور فالح حنضل (العرب والبرتغال في التاريخ) وهو كتاب مهم حافل بالمعلومات والوثائق.

          والكتاب الثاني هو كتاب (تاريخ الخليج العربي منذ العصور الإسلامية حتى أواخر القرن التاسع عشر), تأليف د. راشد توفيق أبو زيد ووداد خليفة النابودة, وهو كتاب ضخم أيضاً ومهم. في الصفحة 295 منه موضوع (الكويت الاسم والمنشأ) ورد:

          (تتفق المراجع والروايات - وفي الهامش خمسة مراجع - على أن اسم الكويت هو أحد اشتقاقات الكلمة العربية كوت, وتطلق لفظة الكوت على البيت المربع الشكل المبني بهيئة حصن أو قلعة وتبنى حول هذا البيت بيوت صغيرة أقل منه شأناً. ويكون هذا البيت أو الكوت مقصد السفن والبواخر ترسو عنده للتزود بالفحم أو الزاد أو حاجات المسافر الأخرى. ولا تطلق هذه الكلمة إلا على ما يبنى قريباً من الماء بحراً أو نهراً, وقد تطلق لفظة الكوت على النهر الصغير كذلك).

          انتهى الشرح الفضفاض معدداً وظائف (الكوت) البناء المربع, وأي بيت ليس مربعاً أو مستطيلاً, وأي مدينة لم تؤسس قرب ماء وإلا فكيف تستمر. ثم (النهر الصغير), وكأن ليس للنهر الصغير أسماء كافية بعد كالجدول والجعفر والجعيفر والركيّ والساقية والنُهير... إنّ نهر النيل العظيم ليفتقر إلى نصف هذه التسميات.

لغة واحدة

          تفسير طويل يدور حول المعنى ولا يمسه, ذاك لأن الجميع يريدون أن يفسروا حتى ما لا يعرفون, لأنهم يرجعون الكلمات إلى لغة واحدة هي العربية, فكل كلمة لابد أن تكون عربية ولها معنى عربي, ناسين أن الجزيرة العربية والهلال الخصيب كانا موطن الكثير من الأقوام المستقرة والعابرة, كالسومريين والكلدان والآراميين النبط وغيرهم. وأن الكثير من مفردات هذه الأقوام مازالت مستعملة في لغتنا العربية حتى الآن.

          سألت مثقفا كويتياً بعد هذا الشرح غير المقنع عن معنى الكويت فقال ببساطة: هو مصغر كوت كما سمعنا وتعلمنا بالمدرسة.

          في جنوب مدينة بغداد يلتف نهر دجلة بشكل حاد مكوناً شبه جزيرة, اسم المنطقة الكرّادة لأن المزارعين يسقون مزارعهم فيها بوسيلة (الكرود) وتقسم الكرادة إلى كرادتين: (كرّادة علجوّه وكرّادة علبرّة). وبقيت هذه التسمية قروناً, حتى تنبه لها المعربون, وأنها غير عربية فأبدلت بها أخيراً كرادة داخل, وكرادة خارج.

          والكلمتان (برا وجوّا) هما ظرفا مكان باللغة الآرامية, ولا ظرف غيرهما للمكان, تعني كلمة (برّا) خارج, أو أعلى, أو شمال أو فوقا باللهجة اللبنانية. وتعني كلمة (جوّا): تحت (التحتا), أو داخل, أو جنوب, أو السفلى.

          وجُوَّيتا: مؤنث جوّا. وهي عكس برّا (القاموس المندائي تأليف دراور وماتسوخ صفحة 74). والجيم بالآرامية تلفظ (كَـ) مثل الجيم المصرية, وحين تؤنث كلمة كوّا تصير (كَوَّيثا أو كَوَّيتا) إذ لا ثاء في الحروف الآرامية - وحديثي عن الكرّادة هذا له علاقة مهمة ببحثي,بل هو البرهان على أصل التسمية.

          قالوا: أول من استخدم اسم الكويت هو الرحالة (مرتضى بن علوان) في العام 1709 للميلاد, وأقول إن هذه التسمية أطلقت واستعملت على هذه المنطقة التي هي الكويت منذ القرن الأول الميلادي.

          فقد هاجر إليها جماعة من الصابئة الهاربين من مذبحة رهيبة على أيدي اليهود في فلسطين, قتلوا فيها الكثير من أنبيائهم (وكلمة نبي تعني بالآرامية والبابلية والسومرية المعلم, الحكيم, الآسي).

          قصد قسم من هؤلاء المهجرين الناجين مدينة حرّان شمالاً حيث توجد أكثرية الصابئة, وانحدرت فئة منهم جنوباً إلى منطقة الكويت الحالية والتقوا فيها بجماعة منهم, يدينون بدينهم, استقبلوهم وعاشوا معهم, ودوّنوا تاريخ هجرتهم وما لاقوا من اضطهاد وتقتيل, في كتاب اسمه حرّان كوّيثا أي حرّان الجنوبية أو حرّان السفلى. تشبيهاً بحران العليا التي هي أهم حواضرهم.

          أما حران (العليا): فيذكر ابن النديم في كتابه الفهرست وجود الصابئة في حران ويقول سميت هاران على اسم هاران أخي إبراهيم عليه السلام لأنه أول من بناها, فعربت فقيل حرّان.

          وفي الموسوعة البريطانية: حران مدينة قديمة واقعة شمالي العراق في وادي البليخ أحد روافد الفرات الأعلى, وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس وقيل إن عائلة إبراهيم استقرت فيها بعد هجرتها من أور الكلدانيين - انتهى.

          ويذكر صاحب معجم البلدان ما قاله المفسرون في قوله تعالى: إني مهاجر إلى ربي  أنه أراد حران. وقالوا في قوله تعالى: ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين  وهي حرّان.

          وتذكر المصادر المندائية أن نزوح القوم من القدس شرقاً كان بسبب اضطهاد اليهود إياهم وأن الله تعالى عاقب اليهود بخراب القدس سنة سبعين للميلاد. إن المستشرقين المتخصصين بهذه الدراسات يضعون هجرة الصابئة المندائيين من القدس إلى حران في القرن الأول للميلاد زمن الملك أردبان الثالث الفرثي الذي امتد حكمه من السنة الثانية عشرة قبل الميلاد حتى الثامنة والثلاثين بعده.

          من هذا يتضح لنا معنى تشبيه حران الجنوبية بحران الشمالية وأهمية التسمية للمهاجرين الذين وجدوا الأمان فيها وسموها (الكويت) أو حران الجنوبية.

أدلة قديمة

          ومن المؤكد أنه كان لهذا المكان اسم غير هذا, هو كاظمة على الأغلب, وقد مرّ بي في بحث قرأته في جريدة (الرأي العام) الكويتية مطلع الستينيات من هذا القرن بتوقيع رئيس التحرير, ورد فيه أن أخوين من الصابئة كانا (أميرين) اسم أحدهما كاظم والثاني تارح, قد بنيا مدينتين (كاظمة وتارحة) في الموضع المسمى بالكويت الآن. ويؤسفني أني لا أملك المرجع ومن السهل على أي باحث أن يجد المرجع الذي نقل عنه صاحب المقال.

          قرأت أخيراً في مجلة (العربي) العدد 483 فبراير 1999 مقالاً للسيد سليمان مظهر بعنوان (الكويت والتنقيب عن الجذور) وهو الذي حفزني لكتابة هذا البحث, يقول الكاتب: (على تلك الأرض جرت أحداث... وعلى أديمها التقت حضارات قبل آلاف السنين... وكلها أدلة تاريخية تؤكد قيام حضارة قديمة على أرض الكويت عاصرت حضارات الشرق القديم. هنا الصُبيّة, يمتد اسمها إلى عمق التاريخ حيث تبرز الآثار والأطلال دلائل تشهد بماض عريق. وفي تاريخ التحفة النبهانية تقرأ لخليفة النبهاني (الصُّبِّية) مدينة قديمة آهلة بالسكان منذ أمد بعيد عامرة بالأبنية والأسواق ورواج التجارة, وكان سكانها من الصابئة الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون  .

          ...وبقيت الصبية في المكان نفسه, وظل اسمها دليلاً عليهم في عمق التاريخ). انتهى المستل من مقال السيد سليمان مظهر في مجلة (العربي).

          وأود أن أضيف إلى ما ذكر الكاتب الكريم من معلومات قيّمة تصحيحاً بسيطاً:

          قال (ويقول التاريخ إن الصابئة لم يكونوا سكانها الأصليين فقد كان سكانها الأصليون عرباً نزح إليهم الصابئة حين ضربهم الـ..).

          الحقيقة أن الآراميين - والصابئة آراميون نبطيون - هم أجداد العرب وليسوا غرباء عنهم. وأن السكان الأصليين كانوا صابئة أيضاً احتمى بهم الصابئة المهاجرون فاستقبلوهم وآمنوهم. هذا ما ورد في مخطوطة (حرّان كويثا) ولديّ نسخة منها الآن, وهي موجودة أيضاً في مكتبة الفاتيكان وأوكسفورد وفي ألمانيا, ورأيت نسخة في المكتبة الوطنية بباريس.

          والنقطة الثانية التي أريد أن أصححها قوله: (... والتي سميت بعدهم بالصُّبية, هذه الأرض هي أرض الكويت الحديثة والمكان هو ذلك الموضع الذي سمي باسمهم حتى بعد أن أرغموا على الرحيل تحت ضربات العرب أصحاب الأرض, فهبطوا أرض بابل بين واسط والعمارة).

          أقول كانت جغرافية هذه الأرض قبل حوالي ألفي سنة مختلفة, كان فيها ولاشك مياه جارية, إذ لا يسكن الصابئة إلا على الأنهار, لأنهم يتعمدون بالماء الجاري فقط, وهذا أساس دينهم, ولكن جفاف الأنهار والتصحُّر أي زحف الصحراء على الأراضي الزراعية, جعل الصابئة ينزحون إلى البصرة وجوارها, ولأن غالبيتهم تسكن هناك أيضاً منذ القدم, وليس لأن العرب أرغموهم على الهجرة, لأن الصابئة من أصحاب الكتاب, وقد حسبوا من أهل الذمة. ولم تذكر لهم مواقف معادية للإسلام, ولم يوجه لهم القرآن الكريم نقداً, وكان الصحابي سلمان, رضي الله عنه, منهم ووصفهم للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له: (اذكر قومي يا رسول الله, إنهم يعبدون الله ويؤمنون بالآخرة ويصلون... وقد تنبأوا بمجيئك وذكروا صفاتك).

          والصابئة أسلاف يفخر بهم, فهم أهل حضارة قديمة, واسمهم بالآرامية (مندايي) أي العارفون أو أهل المعرفة, وهم كتبة ذاك الزمان. ثم إنهم أناس مسالمون يحرمون القتل ولا يحملون الأحقاد ويتوارثونها. وليست لهم نيّة إنشاء وطن قومي. وعددهم الآن بضعة آلاف موزعون في العالم.

          أما تفسير ياقوت الحموي الذي أورده الكاتب في المقال أيضاً من أن (الصبية أو الصليب جبل عند كاظمة...) فهو بعيد ولا علاقة للصليب قطعاً بالقوم أو المكان.

          وبين يديّ الآن بحث بالإنجليزية للبروفسيرة جيرون جاكوبسن باكلي عن الصابئة, تشير فيه إلى كتاب (حرّان كوَّيثا) تقول: (هم من الغنوصيين المتعمدين, وبناء على كتاب لهم اسمه (حرَّان كَوَّيثا) - إنر هرّان - أنهم هربوا من القتل بقيادة الملك البارثي (أرديان) والتجأوا إلى جنوب بابلون).

          ولعل من الطريف ما تنقله البروفسيرة باكلي من كتب الصابئة وهي المتخصصة بالدراسات المندائية: (أن آدم هو من العصر الأول للعالم, ونحن الآن في العصر الرابع, وأن العالم سينتهي حين لا يبقى صابئة على الأرض).

          شرط سهل, ولذلك سنحافظ على البقية الباقية من الصابئة حتى لا ينتهي العالم!

 

لميعة عباس عمارة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية