صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب

 صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب
        

مقالات العلاّمة الدكتور محمود محمد الطناحي

في حلة قشيبة وطبعة أنيقة, صدرت مجموعة مقالات فقيد العربية الكبير الأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي عن دار البشائر الإسلامية ببيروت في مجلدين فخمين جليلين كل ما فيهما ينطق بمكانة الرجل وتضلعه من علوم العربية.. .ومَكِنَتِه في فنونها, ودرايته بالتراث مخطوطه ومطبوعه.. وتحرّيه الدقة والصواب في تحقيق النصوص, وغيرته على علوم الأمة, وذوده عن حياضها ومغارفها, ومعرفته بالرجال... ووفائه للشيوخ والأعلام, وبراعته في الكتابة.

          ولو شئت أن أمضي فيما برع فيه الرجل لمضيت, ولما وسعتني هذه العجالة, فما كان الطناحي رجلاً عادياً... ولكنه أمة في رجل:

وقالوا الإمام قضى نحبَهُ وصيحةُ من قد نعاهُ علَتْ
فقلت فما واحدٌ قد مضى ولكنّهُ أمَّةٌ قد خَلَتْ


         لقد جمع فأوعى, ودرس فأوفى, وعرف فأغنى... وكان كما قال الأول:

مُلقّن ملهمٌ فيما يحاولهُ
جمٌّ خواطرُهُ جوّابُ آفاقِ


           ولاشك أن الأمة فقدت برحيله رجلاً عليماً بأسرار العربية, متذوّقاً لبيانها, حاذقاً في لسانها, ناشراً لكنوزها وذخائرها.

          وكانت مبادرة كريمة تلك التي نهض بها رهطٌ من أهل العلم وعشّاق أدب الطناحي إذ أخرجوا هذا الكتاب بقسمين, فأسدوا إلى العربية وأهلها يداً بيضاء ينبغي أن تُذكــر فتُشـــكر, أولهـــم الشـــيخ المحــقق محمد بن ناصر العجمي صاحب الفكرة وباعثها والحاشد لها, وثانيهم ابن العلامـــة الطناحي البــار الأستاذ محمد الذي قام بجمع مقالات والده المنشورة في المجلات والدوريات المختلفة, وثالثهم صفي الطناحي وصنوه العالم الأديب الأستاذ عبدالحميد بسيوني الذي تفضل بقراءتها وتحضيرها للطباعة, ورابعهم الشيخ أمين شحرور الذي صححها وصنع فهارسها, وخامسهم ناشر الكتاب الأستاذ رمزي دمشقية الذي عني بإخراجه وبثّ فيه من روحه.

          وكي لا يظن القارئ أني أبالغ في نعوت الرجل فسأجعل همّي في هذه الكلمة الكشف عن حقيقة هذه النعوت والتدليل على كل منها بما جاء بين دفتي هذا الكتاب النفيس وفيما يلي بيان ذلك:

مكانة الطناحي

          تتبدى هذه المكانة فيما صُدّر به الكتاب من كلمات تنوّه بها وتشيد بصاحبها وتبين وجوه إبداعه.

          أولها: كلمة الشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي والذي بيّن حجم الرزء بوفاة الطناحي وفداحة الخسارة بفقده, وأثنى عليه بما هو أهله.

          وثانيها: كلمة الأستاذ الدكتور عبدالله محارب (الطناحي ورحلته مع التراث العربي) التي تحدث فيها عن مسيرة حياة الطناحي في طلب العلم, وأسفاره في صحبة المخطوطات والعناية بها تصويراً وفهرسة وتحقيقاً, وصحبته لأكابر العلماء والباحثين ووفائه لهم وكلامه على أفضالهم, ثم عرض لعلمه وفضله مؤكداً أن الحديث في هذا الجانب (سوف يغرق في بحور إحسانه) وختم بوصف الأستاذ الأديب عبدالحميد بسيوني له بأنه (جبل من جبال العلم).

          وثالثها: كلمة للطناحي نفسه كان أودعها مقدمة تحقيقه لكتاب (منال الطالب) لابن الأثير, فأوردها الناشر تحت عنوان: (من ذكريات الدكتور الطناحي في مكة) يقول فيها: (... وقد أنزلني القوم آنذاك منزلاً كريما. حيث عوملت وظيفياً تحت بند هناك يسمّى (كفاءة نادرة) يعامل به الإنسان الذي أكرمه الله بشيء من العلم معاملة (العالم) لا معاملة (حامل الشهادة العليا) وفي ظل هذا البند كان يعامل الأساتذة: محمد متولي الشعراوي, ومحمد الغزالي, والسيد أحمد صقر, والسيد سابق, ومحمد قطب, وطائفة من كبار مشايخ الأزهر...).

          ورابعها: (السيرة الذاتية) التي ذكرت تحصيله الدراسي, ونشاطه العلمي, وإنتاجه الغزير من التحقيقات والمؤلفات التي بلغت خمسة وثلاثين كتاباً, وختمت هذه السيرة بذكر أعماله الوظيفية بين الجامعات والمنظمات العربية ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.

          ولا أدل على هذه المكانة من رسائل العلماء إليه التي اشتمل الكتاب على نماذج منها تصدّرتها رسالتان من شيخنا العلامة أحمد راتب النفاخ - طيب الله ثراه -, تلتهما رسالة من شيخ المحققين الأستاذ عبدالسلام هارون - رحمه الله -, ثم رسالة من أستاذنا العلامة الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق حرس الله مهجته وأطال بقاءه.

الطناحي... وعلوم العربية

          عرف الطناحي بتضلعه في علوم العربية, ومكنته في فنونها لغة ونحواً وصرفاً وبلاغة وأدبا. وشواهد ذلك في الكتاب كثيرة أجتزئ بالإشارة إلى براعته في كل فن من هذه الفنون بما خصه من مقالات. أما اللغة فكتب فيها: (صيحة من أجل اللغة العربية.. هل يتحول التراث العربي إلى ألغاز وطلاسم). وكتب أيضاً: (لسان العرب لابن منظور), و(التصحيح اللغوي... وضرورة التحري), و (المعاجم اللغوية والهجوم الذي لا ينتهي), و(تاج العروس... والزمن البعيد). وعلى ذكر التاج فهو واحد من فرسانه الذين اضطلعوا بتحقيقه في نشرته الجليلة التي أخرجها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت في أربعين مجلدا.

          وأما النحو فكتب فيه مقالين بعنوان: (النحو العربي... والحمى المستباح). وثالثاً بعنوان: (النحو والشعراء).

          وأما الصرف فله مقال نفيس بسط فيه الكلام على كلمة (تترى) التي يظنها كثير من الناس فعلاً وما هي بفعل! وإنما هي اسم بيّن الطناحي - رحمه الله - أصله واشتقاقه وحرّر معناه مستشهداً بغرر الشواهد الشعرية والنثرية فيه, ثم دفع شبهة الفعلية عنه وذلك في المقال الذي يحمل عنوان (الآي تترى).

          وأما البلاغة ففي مقالين رائعين حملا عنوان (البيان والطريق المهجور). أستميح القارئ أن أقتطف نبذة من مطلع المقال الأول جاء فيها: (من أجل نعم الله على عباده نعمة البيان, وقد امتنّ الله على عباده بهذه النعمة فذكرها في أشرف سياق فقال تقدّست أسماؤه: الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علّمه البيان .. (ووجوه الإحسان في تأدية المعاني كثيرة, ومنادحها واسعة, ولا يكاد يظفر بها إلا من وُهب لطافة الحسّ وخفّة الروح ورحابة الصدر والارتياح والطرب لمظاهر إبداع الله عزّ وجل في هذا الكون, وما بثّه في ملكوت السماوات والأرض, وما أجراه على ألسنة خلقه, أما (أهل الكثافة) وهم الذين امتحنهم الله بثقل الظل وركود الهواء, فما أبعدهم عن البيان والإحسان:

وهُلك الفتى ألا يراح إلى الندى وألا يرى شيئاً عجيباً فيعجبا...)


          وأما الأدب فيتبدى في مقاله البديع: (أجمل كتاب في حياتي.. البيان والتبيين للجاحظ), حيث بسط الكلام على محبته لهذا الكتاب وما فيه من أسرار وبيان وفن وأدب وفكر, بل لقد ذهب في ختام مقاله إلى أنه كتاب شامل للحضارة العربية, وأوصى بأن يلتفت إليه مدرّسو العربية (وأن يجعلوا من نصوصه نصيباً مفروضاً على تلاميذهم, فقد استقامت بهذا الكتاب ألسنة, وارتقت عليه أذواق, واستوت به ملكات).

درايته بالتراث

          تعود خبرة الطناحي بالمخطوطات العربية إلى نشأته بينها ناسخاً لها, ومفهرساً لطائفة منها, ثم محققاً لنفائس من غررها, وقد كان لعمله خبيراً بمعهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية أكبر الأثر في هذا, إذ انتُدب عضواً في بعثات المعهد إلى تركيا والمغرب والسعودية واليمن, فكشف نوادر خزائنها, وفهرس لخبايا مخطوطاتها, وفي الكتاب الذي نعرض له شواهد كثيرة لهذه الخبرة, تجلّت في المقالات التالية:

          (التراث العربي في المغرب.. وقضية التواصل بين المشرق والمغرب) و(التحقيق), و(حلقات مفقودة في تراثنا المطبوع) و(دار الكتب ونشر التراث في مصر) و(تركيا والمخطوطات العربية) و (المتنبّي وعلم المخطوطات) على أن معرفته بالمطبوع لا تقل أهمية عن معرفته بالمخطوط, وقد تجلى ذلك في المقالات التالية: (الكـــتب الصفـــراء... والحضـــارة العربيــة) و (الكتاب والتواصل العلمي) و (من حصاد الندوات: أولية الطباعة العربية في مصر) و (تراثنا.. رحلة شاقة شيقة). والحق أننا لا نستطيع الفصل الحاسم بين المخطوط والمطبوع في هذه المقالات إذ يتداخل فيهما الكلام على نحو يبرز براعة الرجل في كل منهما. ولا أجد في هذا المقام خيراً من اقتباس كلمته التي ختم بها مقاله: (المتنبي.. وعلم المخطوطات) وقال فيها: (إن علماء المخطوطات يتناقصون يوماً إثر يوم, بالموت الذي لا يُرد, وبالصوارف التي لا تدفع. وقد مات كثير من علماء المخطوطات وفي صدورهم الشيء الكثير, فبعضهم ضنّ واحتجن, وبعضهم تراخى وغرّه طول الأمل. ولهذا فإني أدعو كل من أنعم الله عليه بشيء من هذا العلم أن ينشره ويذيعه, فإن الموت لا موعد له, وعلمه عند علاّم الغيوب).

غيرته على علوم الأمة

          وينبع ذلك من أصالة الرجل التي لا يخطئها قارئ في أي مقال من مقالاته, ولكن ثمة مقالات وضعت أساساً لمثل هذا الذود عن معارف الأمة, والحمية عنها, والغيرة على لغتها, ورفع رايتها, من مثل مقاله: (صيحة من أجل اللغة العربية.. هل يتحول التراث العربي إلى ألغاز وطلاسم?) وهو يستهله بالقول:

          (لم يعد خافياً على أحد ذلك التدنّي الذي وصل إليه خرّيجو أقسام اللغة العربية في جامعاتنا خلال العقود الأخيرة, وهؤلاء الخريجون هم الذين يتولون تعليم أولادنا في المدارس, وهم أيضاً الذين يسمعوننا الكلمة العربية من خلال الإذاعة والتلفزيون, ولو ترك الأمر على ما هو عليه الآن فالله وحده هو الذي يعلم أبعاد الكارثة التي ستطبق على هذه الأمة, ونخشى أن تغشانا طوارقها ذات يوم وقد استحال تراثنا الذي ضني به الأوائل خلال أربعة عشر قرناً من الزمان ألغازاً وطلسمات كالذي تراه على جدران المقابر والمعابد ولفائف البردي, رموزاً قديمة تخفى على جمهرة الناس, ولا يعقلها إلا العالمون, ويومها سنقول:

استعجمت دار ميّ ما تكلمنا والدار لو كلّمتنا ذات أخبار)


          وقل مثل ذلك في مقالاته: (المعاجم اللغوية... والهجوم الذي لا ينتهي) و(النحو العربي... والحمى المستباح) و(هل أدلكم على تجارة?).

معرفته بالرجال

          يبدو أن هذه القضية قد استبدّت بالطناحي على نحو كبير, إذ لا نبالغ إن زعمنا أن نصف مقالاته إنما يدور حول الكلام على الرجال, وإبراز معارفهم, ومحاولة الإفادة من تجاربهم وخبراتهم, على اختلاف ألوانهم واختصاصاتهم, وأزمانهم وأمكنتهم.

          وفي كل مقالة يبرز جانب من جوانب المعرفة عند هؤلاء الأعلام فهو يتحدث عن العلم والإصلاح في مقاله: (ابن السبكي... علم وإصلاح), وعن الحديث والأثر في: (أحمد محمد شاكر), وعن علم المكتبات وبناء الشخصية العصامية في: (فؤاد السيد.. العالم الذي فقدناه), وعن الوراقة والورّاقين والخبرة بشئون المخطوط العربي في مقاله: (رشاد عبدالمطلب... والديار التي خلت), وعن آخر حارس من حرّاس معهد المخطوطات في: (محمد مرسي الخولي... والبنيان الذي تهدّم), وعن قراء مصر وخصائص قراءتهم في: (الشيخ مصطفى إسماعيل.. وقراء مصر).

          وفي: (إقراء القرآن بمصر (وترجمة للشيخ عامر عثمان)), وعن أثر اللغة في تكوين الداعية الإسلامي والواعظ الديني في: (الشيخ الشعراوي.. واللغة), وعن تكريم الأعلام والإشادة بمناقبهم في مقاله: (محمود محمد شاكر... والتكريم المستحق). والحق أنه لم يكتف بمقال واحد عن شيخه العلامة محمود محمد شاكر - رحمه الله - وهو الذي عرف به, وتعلق بمحبته, وتأثر بطريقته, واقتدى بهديه, وقفى أثره, ونافح عنه, وكنا نرى فيه الخليفة المرتجى لشيخه, ولكن المنية عاجلته - وإنما كتب عنه سبع مقالات انطوت على حقيقة ما يكنّه له من محبّة وتقدير ووفاء واحترام وهي على التوالي: (محمود محمد شاكر.. ومنهجه في تحقيق التراث) و(الشيخ محمود شاكر.. وتاريخ ضخم), و(محمود.. والديار التي خلت), و (أي شلال هادر توقف) (عن محمود شاكر), و(محمود محمد شاكر... ركن باذخ), و (محمود محمد شاكر... والسهام الطائشة), بالإضافة إلى المقال الذي ذكر أولاً.

          ويكفي أن نقرأ فقرة جاءت في مقاله: (محمود شاكر.. والديار التي خلت), لنعلم أيّ مقام تبوّأ ذلك الشيخ الجليل في نظر تلميذه الوفيّ: (وقد كتبت عن محمود شاكر كثيراً, وحاولت أن ألتمس وجوهاً من الوصف تنبئ عن حقيقة حاله ومكنون أمره, وغاية ما انتهيت إليه أن الرجل رُزق عقل الشافعي وعبقرية الخليل ولسان ابن حزم وجلد ابن تيمية, بل إني رأيت أن ليس بينه وبين الجاحظ أحد في الكتابة والبيان...).

براعة في الكتابة

          تميّز الطناحي ببراعته في الكتابة.. وسمو بيانه... وحلاوة لسانه... وطلاوة تعبيره.. وفكاهته: إن كل حرف كتبه الطناحي يدل على أنه أديب مرهف الإحساس وكاتب متمرّس عارف بأصول الكتابة ووجوه البيان, وفي أسلوبه إلى ذلك طلاوة محببة, وفي تركيب عبارته حلاوة بادية, وقد رزق من لطافة الحسّ, وخفّة الروح ورحابة الصدر ما جعله آية في ذلك. اقرأ معي إن شئت ما أورده الأستاذ الدكتور عبدالله محارب في كلمته التي جعلت مدخلاً للكتاب من كلام الطناحي في وصف هؤلاء الذين يتزلفون لتلاميذهم بأسلوب ساخر ممتع: (وإن منهم لفريقاً يتهافت على ذوي المناصب من تلاميذه, حتى إذا رأى أحدهم في مجلس طمح ببصره إليه, وأخذ يمدّ عنقاً ويميل رأساً, ويسدد نظراً ليريه مكانه, فتلتقي العينان, فيذهب بها غنيمة باردة يحدث بها أهله وولده, فإذا أبصره في طريقه ركض خلفه حتى يكاد يتعثّر في أذياله, وشق الصفوف إليه وقد علاه البهر وغلبه النهيج حتى يوشك أن يكتم أنفاسه, فإذا انتهى إليه ابتسم في صغار وانكسار وأخذ يذكّره بتلمذته له في ثقل وغثاثة:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عَظّموه في النفوس تعظّما)


          ومن ظريف تعبيراته في وصف شيخه محمود شاكر قوله: (والمكتبة العربية عند أبي فهر كتاب واحد, فهو يقرأ صحيح البخاري كما يقرأ الأغاني, ويقرأ كتاب سيبويه قراءته لمواقف عضد الدين الإيجي, وقد قلت عنه مرة بالتعبير المصري: إنه خد البيعة على بعضها).

          ومن طريف ما كتب في معرض الموازنة بين ما كانت عليه مناقشات الرسائل الجامعية من الرصانة والجدية وما هي عليه اليوم من الهشاشة والهزل: (أما اليوم فالأساتذة يدخلون في موكب بهيج من الضحك والانبساط والتطلق, ويسري هذا كسابقه إلى الحضور, فترى القاعة تموج بالانشراح والبهجة والتعليقات الحلوة, والأطفال يتقافزون ويمرحون في القاعة, وقد جيء بهم ليروا (بابا) في يوم عرسه, والنساء يزغردن عند إعلان النتيجة, بل إني سمعت إحداهن تنشد لقريبها الطالب:

يا شجرة يا حلوة يا مفرّعة
شرفت أعمامك الأربعة
هكذا والله...).

          ومن عباراته التي حفظها الناس وتناقلوها حتى لقد ذهبت مذهب الأمثال قوله: (وحظوط الكتب كحظوط الناس, يصيبها ما يصيبهم من ذيوع أو خمول).

          ومن مداعباته وفكاهاته ما ذكره من انتشار عدوى العامية بين أساتذة الجامعة وشباب المعيدين من طلاب الدراسات العليا. حيث يقول: (طلبت يوماً من أحدهم شيئاً, فقال: حاضر يا عسل! فقلت ما هذا يا بني? لا ينبغي أن تستعمل مثل هذه الألفاظ, فقال: لقد سمعتها من فلان وفلان وفلان, وذكر أسماء كبيرة, فلما سمعت هذا قلت له: خلاص يا حلاوة, براءة, أنت كده في السليم, فنظر إلي نظرة انتصار, فهممت أن أقول له: متبصليش بعين رديّة شوف إيه عملته في شرح الألفية).

          ولقد حفظ الطناحي القرآن الكريم منذ نعومة الأظفار, وتربّى تربية المشايخ التي تعتمد حفظ المتون والاستكثار من مذاكرة الأشعار والأمثال والحكم والأخبار, فكان له من ذلك كله ركن مكين يتكئ عليه في كل ما يكتب, فلا تكاد صفحة مما كتبه تخلو من شاهد قرآني أو شعري أو نثري أو مثل أو حكمة أو خبر أو طرفة, فهو في هذا يغرف من بحر عميق غوره كثير خيره, فيتحف القارئ بكل شاذّة وفاذّة, تضيء النص, وتزيّن الحديث, وتتوّج الفكرة, وتجلو المعنى.

          من ذلك - وهو كثير لا يكاد يحصى - قوله في معرض الحديث عن التوسع في المعذرة وتغمد الخطأ: (ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة التابعي الجليل (قتادة بن دعامة السّدوسي) أنه كان يرى القول بالقدر, وهي مقالة منكورة عند أهل السنة والجماعة, ثم عقب الذهبي على ذلك فقال في كتاب سير أعلام النبلاء: (ثم إن الكبير من أهل العلم إذا كثر صوابه, وعُلم تحريه للحق, واتسع علمه, وظهر ذكاؤه, وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله, ولا نضلّله ونطرحه وننسى محاسنه).

          ثم استشهد الطناحي على ذلك بقول زفر بن الحارث:

أيذهب يومٌ واحد إن أسأتُه بصالح أيامي وحسن بلائيا


          وقول المتنبي:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً فأفعاله اللائي سررن ألوفُ


وقول الآخر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع



          ومن ذلك تمثله بأمثال العرب من نحو قولهم: (شنشنةٌ أعرفها من أخزم), وقولهم: (ذكرتني الطعن وكنت ناسيا), وربما جعل المثل عنواناً لمقال, كما في: (أبي يغزو وأمي تحدّث), وفي: (زاحم بعَوْدٍ أو فَدَعْ).

          وأما الآي والأحاديث فهي تملأ الكتاب بقسميه مما حدا الناشر على إفراد فهرس لكل منها. وليته صنع مثل ذلك للأشعار والأمثال, إذن لتمّ له عمله, ولكن (جلّ من لا عيب فيه وعلا).

          وبعد فإن ما ذكرته لا يعدو أن يكون صويً تشير إلى بعض مزايا الكتاب, ولكنها بلا ريب لا تحيط به ولا تكاد تبلغ ذلك, لأن من وراء ما ألمعت إليه علماً غزيراً... وفكراً سديداً.. وبياناً سامياً.. وحمية للعربية جياشة. وما أحوجنا أن نتتلمذ عليه ونفيد منه, ونقبس من روائعه, فهو بحق معلمة ينتفع بها من كل جانب.

          - القسم الأول: طبقات الفقهاء الشافعية, عينية ابن زريق, الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية, لسان العرب لابن منظور, العامة وقراءة التراث, قصيدة نادرة في المديح النبوي, مع بداية العام الدراسي الجديد.. من يقرأ هذه الكتب, من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن, الهجرة وكتابة التاريخ الإسلامي (في حلقتين), الجامعة المصرية إلى أين?, الكتاب الجامعي والطريق الصحيح, في كم يتلى القرآن?

          - القسم الثاني: هذه النقطة وقضية التصحيف والتحريف, السيرة الذاتية.. والصدق مع النفس (في حلقتين), دراسة في مصادر الأدب (للدكتور أحمد مكي) (في حلقتين), تاج العروس... والزمن البعيد, مطبعة للمنشورات... وليست للثقافة - كمال النجمي... والثغور التي تتساقط, الناشرون الأوائل... وسماحة مصر, ذيل الأعلام... ومغالبة الهوى (لأحمد العلاونة), القرآن الكريم... وتفسير العوام, الرسائل الجامعية.. وساعة ثم تنقضي, مقالات قصيرة بعنوان: (الكلمة الأخيرة) وقد ضمت الكلمات التالية: المؤتمرات العلمية.... والنغمة المكرورة, الجزار الثالث, العامية في مهرجان أمير البيان, ما المسئول عنها بأعلم من السائل, الندواتية, موائد الرحمن, جلال معوض... وزمن الورد.

          ولابد من الإشارة هنا إلى أن الناشر نبّه في كل مقال إلى مكان نشره وزمانه. أما الزمان فقد بدأ في شهر أبريل عام 1965 وانتهى في شهر يونيو عام 1999 بعد ثلاثة أشهر من وفاته, وكان قد كتبه قبيل وفاته وكأنه يكتب وصيته. وأما المكان فقد توزعته المجلات التالية: الرسالة, الكتاب العربي, المجلة, الثقافة, دعوة الحق, مجلة الشعر, مجلة فن تحقيق التراث, صحيفة المدينة المنورة, مجلة الهلال (وقد حظيت بالقسط الأوفر من المقالات بدءاً من عام 1990 حتى وفاته), العربي, جريدة الأهرام, الوطن, مؤسسة الفرقان للتراث بلندن, الجيل, البيان بلندن.

 

محمد حسان الطيان   







غلاف الكتاب (القسم الأول)





محمود الطناحي أثناء دراسته في الأزهر





الطناحي في اخر حياته