أرقام

 أرقام
        

 بـين الـحـقـل والـمـلـهـى

          عندما عقدت الأمم المتحدة دورة خاصة بالطفولة في مايو عام (2002), كانت هناك دراسة علمية فنلندية تقول إن الأم وعندما تنجب ذكوراً, فإنها تدفع الثمن من حياتها, ذلك أن إنجاب طفل من (الجنس الخشن) يعني نقصان عمر الأم بمقدار ثمانية شهور وبالتحديد (34) أسبوعا!

          الدراسة قام بها فريق جامعي بقيادة خبير في بيولوجيا التطور هو (سامولي هيلي), وحين نشرت مجلة (ساينس) العالمية نتائج البحث أشارت أيضا إلى أن إنجاب البنات - وعلى العكس - يطيل عمر الأم!

          السؤال: هل يهدم ذلك معتقدات قديمة وشرقية تجعل إنجاب الذكور هو الأفضل, حتى أن العرب القدماء كانوا يئدون البنات لأنهن غير مرغوبات? هل يتغير السلوك البشري بعد هذا البحث الذي يخيف الأم على حياتها ويجعل للإناث ميزة لا يتمتع بها الذكور?

          والجواب بالنفي لأنه في عالم يسود الفقر معظم أجزائه, يصبح الطفل الذكر عنصرا مهما في سوق العمل, وفي جلب الرزق, وهو ما توقفت أمامه دورة الأمم المتحدة والتي حضرها - ولأول مرة - ممثلون عن الأطفال, أتيح لهم أن يتحدثوا, ويعرضوا مشاكلهم, ويعقدوا المؤتمرات الصحفية في القاعة التي يتحدث فيها رؤساء الدول.

          كان أمام المؤتمر أجندة طويلة, وكان أمامه سجل حافل يبدأ بإعلان جنيف الصادر عن عصبة الأمم المتحدة عام (1924) والخاص بحقوق الطفل, وامتداداَ لأول اتفاقية ملزمة دوليا حول القضية نفسها وهي التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1990 ثم انتقلت لحيز التنفيذ بانعقاد مؤتمر القمة العالمي من أجل الأطفال عام (1990).

          كانت الأجندة تحكي لنا ما جرى في العقد الماضي, وما المطلوب - في العقد الجديد - من أهداف وإجراءات والتزامات تضمنتها الوثيقة النهائية التي تحمل عنوان (عالم جدير بالأطفال) وهي الوثيقة التي تنتقل من مجال الإنجاب الصحي ورعاية الأمومة إلى تعليم الطفل وتنشئته وحمايته ضد الجوع, وضد العسف, وضد الانحراف.

          إنها قصة عشرين بالمائة من سكان العالم, وهي أيضاًَ قصة المستقبل بعد أن أصبح الطفل - في مواقع كثيرة - سلعة تباع وتشترى, ويجري استخدامها في أغراض حربية أو غير أخلاقية.

... سوق العمل

          في هذه الدائرة كانت دراسات منظمة العمل الدولية على قدر كبير من الأهمية, ففي تقريرها عن عمالة الأطفال في العالم أن حجم هذه العمالة (والتي تشمل أطفالاً من سن الخامسة وصبية يصلون إلى السابعة عشرة) قد وصلت إلى (246) مليون طفل وصبي, كلهم - تقريبا تحت سن العمل... و (75) في المائة منهم - كما تقول المنظمة - يعملون في أعمال شاقة وخطيرة.. أي أن المعرّضين لمخاطر صحية أو أخطار أخرى يبلغ عددهم (180) مليونا.

          السؤال: لماذا يعمل الأطفال? لماذا يذهبون إلى الحقل - وربما إلى الملهى الليلي - بدلاً من أن يذهبوا إلى المدرسة, ويتمتعوا بدفء الأسرة, ويقضوا فراغهم في اللهو البريء وارتياد الأندية وملاعب الكرة? لماذا يحظى طفل برأسمال يتيح له أن يلعب على الكمبيوتر وأن ينعم بأدوات التزحلق على الماء, بينما يستيقظ طفل في الخامسة صباحا ليلحق بفريق عمل في الصحراء, أو يذهب لأفران تقدم الخبز في الصباح?

          يقول تقرير صادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي إن هناك (358) مليارديرا في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه (5ر2) مليار شخص من سكان المعمورة - أي ما يزيد على نصف سكان العالم في التسعينيات, ويقول التقرير نفسه إن (20) بالمائة من السكان يستحوذون على (85) في المائة من الناتج العالمي أي أن (80%) من السكان لا يحوزون أكثر من (15) في المائة من الناتج.

          إنه الثراء والفقر, والأخير تعكسه أرقام للأمم المتحدة التي تقول إن أكثر من مليار نسمة يعيشون بأقل من دولار في اليوم ونحو مليارين بأقل من دولارين يومياً!

          و... في مثل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية لابد أن ندرك أن فرصة الطفل في التنشئة والتعلم والعناية بالعقل والجسد.. وفي الترفيه والتثقيف والسياحة, الفرصة في كل ذلك محدودة للغاية.

          إنها الأسرة تحكم مستقبل الطفل, والمجتمع يحكم مستقبل الأسرة, ولكن, ولأن الأمور تترابط وتتكامل فإن الطفل يتحول من كائن بشري (تحت التكوين) و(تحت الرعاية) إلى عنصر منتج, وفي وقت مبكر.

          الطفل في معظم الدول النامية مصدر دخل, وسواء كان عمله قانونيا أو غير قانوني, فهو يعمل... وأصحاب العمل يرحبون به لأنه يتقاضى أجراً أصغر.

          وتشير الدراسات إلى أن جزءاً كبيراً من العمل الزراعي في إفريقيا, وربما في آسيا تؤديه الإناث, ويؤديه الطفل.

          تشير الدراسات أيضاً إلى أن بعض الأعمال الخطرة في البلاد الآسيوية مثل الوقوف أمام أفران صهر الحديد وصهر الزجاج, بعض هذه الأعمال يجري إسنادها للأطفال!

          الأخطر ظاهرة (الطفل المحارب) وظاهرة (الطفل العاهر) والذي تنتهك عذريته نظير أجر معلوم, أو قهر مذموم!

          كانت الحالة الأولى - وفي معظم الأحيان - تجري في إفريقيا حيث تم تجنيد الأطفال من أجل الحرب في نزاعات قبلية وعرقية بالدول الإفريقية.. و.. في بعض الأحيان كان يتم اختطاف الأطفال ووضعهم في معسكرات تجنيد قسري, ثم إطلاقهم - بعد الترويع والتهديد والتهذيب إلى ساحات الحروب لينفذوا التعليمات, وربما بقسوة غير إنسانية.

          والأخطر أيضاً هو ما شهدته دول شتى في آسيا وأوربا وغيرهما من تجنيد الأطفال - إناثاً وذكوراً - للعمل في شبكات الرقيق الأبيض وبيوت الدعارة الرسمية وغير الرسمية... و... لأن الأمر فيه ربح كبير, فإن التقارير تسجل أنه كثيراً ما يتم شراء الأطفال وبيعهم من أجل توظيفهم في هذا الغرض الشائن.

كم يبلغ عدد هؤلاء?

          منظمة العمل الدولية تقول إنهم ليسوا بالمئات أو الآلاف أو عشرات الآلاف... فعدد الذين ينخرطون في أعمال الدعارة والتهريب والعمل المسلح والأنشطة غير الشرعية يصل إلى نحو (4ر8) مليون طفل!

          لماذا الأطفال?

          ليس لأنهم أقل أجرا, أو أسهل نيلا, ولكن لأنهم كثيرا ما يكونون خارج المسئولية القانونية, فضبط طفل يحمل طنا من المخدرات قد يحمل آثاراً قانونية أقل من ضبط رجل يحمل نصف كيلوجرام من الهيروين أو الأفيون!... والشيء نفسه في ساحات الحروب, فربما تكون الرأفة هي مصير طفل يتم أسره لدى الخصوم المتحاربين... بعكس الأسرى من الرجال البالغين والأشدّاء.

          و... في كل الأحوال.. في حال الأسرة التي تبيع أبناءها, وفي حال المجتمع الذي لا يوفر عملاً أو بديلاً شريفا, أو في حال الدولة التي تقصر يدها عن الرقابة وضبط (أحوال الطفل), في كل هذه الأحوال نقول: (اسأل عن الفقر)... ثم نقول, وفي حالات أخرى أقل (اسأل عن الفضيلة ومعنى الحرية في المفهوم الغربي), ونقول: إنه في الحال الأخيرة ومع إباحة الجنس بلا قيود دينية أو خلقية أو عمرية, تحدث انحرافات كثيرة, وتتحدث الصحف البريطانية عن أم حملت في الثانية عشرة من عمرها وباتت تتساءل: (لماذا لا ألهو مع زميلاتي في المدرسة بدلا من أن أتحمل عبء طفل لا يفصله في العمر عني سوى ثلاثة عشر عاما), إنها الحرية المفرطة التي تجعل الجنس رخيصا, وتدفع بعض الأطفال والصبية للانحراف.. والاحتراف.

.. المستقبل

          أخبار المستقبل تنبئنا بمصير أسوأ للأطفال, فبينما يزداد اهتمام الأمم المتحدة والدول المشاركة فيها برسم البرامج التي تضمن ظروفاً أفضل لأطفال القرن الواحد والعشرين, بينما يحدث ذلك في القاعات المكيفة بمبنى المنظمة الدولية بنيويورك, فإن الواقع يشير إلى توقعات تعكس نفسها بالضرورة على الطفولة في العالم, ومن ثم (على مستقبل العالم كله).

          أكبر آفات القرن الماضي والتي قادت لوضع مأساوي للأطفال هو ظاهرة الفقر, ويبدو أن الآفة - ورغم جهود أخرى لمحاربة الفقر - سوف تستمر.

          في مؤلف ألماني قدمه باحثان كبيران هما: هافس - بيتر مارتين, وهارالد شومان يتحدث المؤلفان عن (فخ العولمة) ويقولان إن من توقعات القرن الجديد وفي ظل الآلة الجهنمية للعولمة وشراهة رأس المال وتقدم التكنولوجيا فإنه سيكون هناك (80) بالمائة منهم فائضون عن الحاجة!

          إنها البطالة مرة أخرى, وعلى نطاق واسع, وهي بطالة تزيد حال الفقر والعوز وتقلل القدرة على استهلاك السلع والخدمات التي سيفوز بها القلة أيضا, سواء كانت هذه السلع غذاء أو كساء أو كتابا مدرسيا, وسواء كانت الخدمة: صحة أو تعليما أو ترفيها.

          ولكن, والبطالة تتفاقم: هل يزيد تشغيل الأطفال... أم تنحسر هذه الظاهرة ليحظى الكبار أولا بفرص العمل?

          في سوق حرة للعمل ورأس المال ليست الأفضليات الاجتماعية هي السائدة, ولكن ما يفيد رأس المال هو ما يسود, ومن ثم فإن عمالة الأطفال - والتي تنافس عمالة الكبار - سوف تستمر وسوف يتلاقى عنصرا العرض والطلب: عائلات تريد تشغيل أطفالها لتجني دخلاً إضافياً.. وأصحاب عمل يريدون عمالة رخيصة فيلتقطون الفرصة.

          إنها الحلقة الجهنمية والتي لا صلاح لها بغير نظام عالمي عادل, ومجتمعات أكثر قدرة على التقدم والنماء. في هذه الدائرة تزدهر أحوال الطفولة وتختفي ظاهرة الطفل الذي يشقى, والطفل الذي يحارب, والطفل الذي يـعمل بالبغاء ولا يـفهم معناه!

ورقم
أفـيـون (2000)!

          كثيرا ما ارتبطت الحال الأفغانية بزراعة وتجارة الأفيون, ففي البدء يكون الأفيون, وفي النهاية يكون تمويل الأنشطة المختلفة, وفي دراسة باكستانية مهمة أن سعر الأفيون يتضاعف من نقطة الحدود الأفغانية - الباكستانية وحتى يـصـل إلـى نـقـاط حـدود بـعـيـدة, ربـمـا فـي لـنـدن أو واشـنـطـن أو غيرهما, فكلما بعدت المسافة وزادت الـمـخـاطـرة ارتـفـع الـسـعـر أضـعافاً مضاعفة.

          ولكن... لماذا أفغانستان?

          تقول تقارير أمريكية (إنها وحدها قد أنتجت (70) بالمائة من أفيون العالم سنة 2000). هذا هو نصيب أفغانستان والذي دفع نظام الحكم الجديد - بدعم أمريكي ودولي- للقيام بحملة لتدمير زراعات الأفيون, مع تقديم ثمن رخيص لكل فلاح هو مائة وخمسون دولارا عن كل فدان يتم تدميره.

          الثمن غير باهظ, والسؤال: هل تكفي هذه الدولارات لتحويل النشاط (كبير العائد) إلى نشاط زراعي آخر? وهل تجد أفغانستان استقراراً يتيح لها بناء اقتصادها من جديد... اقتصاد زراعي وصناعي وخدمي?

          تلك هي القضية.

 

محمود المراغي