جمال العربية

 جمال العربية
        

البارودي
شاعر البطولة والانكسار

          بين عامي 1839, 1904 عاش الشاعر الفارس محمود سامي البارودي حياته التي توزعت بين بطولة باذخة وانكسار مرير, وكان حصاد هذه الحياة العاصفة بكل وقائعها وتقلباتها شعرا جعل من صاحبه طليعة عصر شعري جديد وفاتحة زمان مختلف للقصيدة العربية وأفقا إبداعيا مغايرا للسائد والمألوف, مجاوزا للركاكة والتخلف والجمود, مقتحما لفضاء معرفي يرى في الشعر ما لا يراه معاصروه, وكأنه يقدم بيانه الشعري إلى الناس حين يقول:

الشعر زينُ المرء, ما لم يكنْ وسيلةً للمدح والذّامِ
قد طالما عزّ به معشرٌ وربما أزرى بأقوامِ
فاجعله فيما شئْت من حكمةٍ أو عظةٍ, أو حَسبٍ نامِ
واهتف به من قبل إطلاقهِ فالسهم منسوب إلى الرامي


          ولا يفارق البارودي معجمه الذي يتفق وطبيعته العسكرية وروحه المقاتلة حين يتحدث عن (إطلاق) الشعر الذي هو بمنزلة (السهم) الذي يدل على (الرامي) ويظلّ منسوبا إليه, أصاب هدفه أم لم يُصبْ!

          ولقد وجد البارودي في حرب كريت ثم في الحرب الروسية - التركية ـ اللتين شارك فيهما ضمن الجيش المصري الذي أرسله خديو مصر إسماعيل لمساعدة تركيا - وجد فيهما المجال الذي أفصحت فيه شاعريته عن اكتمالها وتألقها, وتجسيدها لحلم البطولة الذي ظل يحمله ويشاغله دوما, مما أتاح لموهبته الشعرية الكبيرة تجليات سطوعها في العديد من قصائد الحرب والقتال, ونشدان المثل الأعلى للفارس الشجاع, والشاعر المهموم بواجباته ومسئولياته وشواغل وطنه, وعواطفه الإنسانية المشبوبة بنيران الغربة والشوق والحنين.

          كما وجد في منفاه الذي طال إلى سبعة عشر عاماً في جزيرة سرنديب (سيلان - سريلانكا) مع رفاقه من زعماء الثورة العرابية, الوجه الآخر لحياته, بعد انهيار الحلم, وانقشاع غبار المعارك, وفشل الثورة, وافتقاد الأهل والصحب والوطن, وزحف المرض والعجز والشيخوخة, ودبيب اقتراب الأجل, والاستسلام للقضاء, ليصبح شعره في هذه المرحلة بكائية ممتدة, تتجاور فيها بقيةُ همةٍ تحاول تطبيب الجراح بحديث الفخر والتغني بالنفس, ورثاءُ الأحباب الذين تصل إليه أنباء رحيلهم - خاصة زوجته وأم بناته - وزهدٌ في الحياة والناس يجعله يسلم أمره إلى الله لعله يجد في هذا الزهد ملاذاً ومأوى.

          والبارودي في صفحتيْ حياته, وفي حاليْ مجده وانكساره, شاعر كبير, ارتبط به إحياء الشعر وبعثه مع مطلع العصر الحديث. ورأى فيه كثيرون روعة الارتفاع إلى القمم الشعرية في عصور ازدهار الشعر العربي, ورأى آخرون أنه الباب الرحب الذي ولج منه شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وغيرهم, ساروا على النهج الذي اختطه وهيأه, متجاوزين المدى والأفق, ومهيئين للقادم من بعدهم. وغير هؤلاء جميعا رأوا فيه طليعة للاتجاه الوجداني, الرومانسي, في الشعر العربي الحديث.

          يقـول الـبـارودي في إحدى قصائده المواكبة للحرب التركية - الروسـية عام 1877, التي شهدت تألقه قائدا محنكا ومقاتلا شجاعا وشاعرا مبدعا, وهي تـقـدم نـمـوذجـا دالاّ لـشـعـره فـي الـوجـه الأول من حياته:

أدور بعيني لا أرى غير أمةٍ من الروس بالبلقان يخطئها العدُّ
جواثٍ على هام الجبال لغارةٍ يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو
إذا نحن سرْنا صرّح الشرّ باسْمه وصاح القنا بالموت, واستقتل الجنْدُ
فأنت ترى بين الفريقيْن كبّةِ يَُحَدث فيها نفْسه البطلُ الجعْدُ
على الأرض منها بالدماء جداول وفوق سراة النجمِ من نقْعها لِبْدُ
إذا اشتبكوا أو راجعوا الزحف, خلْتهم بحورا توَالَى بينها الجزْرُ والمدُّ
فهمْ بين مقتولٍ طريحٍ, وهاربٍ طليحٍ, ومأسورٍ يُجاذبُه القِدُّ
نروحُ إلى الشورى إذا أقبل الدجى ونغدو عليهم بالمنايا إذا نغدو
ونقْعٍ كلجّ البحر, خضْتُ غماره ولا معقلٌ إلا المناصلُ والجرْدُ
صبُرتُ له والموت يحمرُّ تارةً وينغلُّ طوّراً في العَجاجِ فيسودُّ
فما كنتُ إلا الليْثَ أنهضه الطّوى وما كنت إلا السيف فارقه الغِمدُ
صئولٌ وللأبطال همسٌ من الوَنَى ضروبٌ وقلبُ القرْن في صدره يعدو
فما مهجة إلا ورمحي ضميرها ولا لبةٌ إلا وسيفي لها عِقْدُ
وما كلْ ساعٍ بالغ سُؤل نفسه ولا كلُّ طلاّبٍ يُصاحبُه الرشدُ
إذا القلبُ لم ينصرْك في كلِّ موطنٍ فما السيف إلا آلةً حملُها إدُّ
ليضْنَ بي الحسّادُ غيظا, فإنني لآنافهم مرغْمٌ, وأكبادهم وقدُ
أنا القائل المحمود من غير سُبّةٍ ومن شيمة الفضل العداوةُ والضدُّ
فلازلتُ محسوداً على المجد والعلا فليس بمحمود فتيً وله ندُ



          فإذا ما انتقلنا إلى الوجه الآخر من حياة البارودي وجه المنفى والبكائيات واقتراب النهاية وتوالي الفواجع باحثين عن نموذج دال من شعره, وجدنا قصيدته في رثاء زوجته, التي ورد إليه نعيها وهو بسرنديب - كما يقول ديوانه - لا يفارقه فيها على امتداد أبياتها معجمه العسكري من زناد وعزم وحملة وفيْلق وعُودٍ ورمح وطراد وسهم وعُدّة وعتاد, وهل يملك خروجا من جلده أو يستطيع فرارا من دمه? ها هو ذا في مواجهة الموت الذي ينتزع منه شريكة الحياة وأمّ البُنيّات الصغيرات, لا تستطيع يده ردّ الحبيب المفارق, ولا دفع المنية عن حليلته التي هي خلاصة عدته وعتاده في حياته: سلما وحربا وهو الآن غيره في مواقف البطولة والقتال, لقد أوهن الموت عزيمته وحطّم جسده وأصاب قلبه في مقتل. الفارس - الذي عاش عمره مفاخرا بجلده وشجاعته وبطولته - لم يعد ينفعه صبر ولا سلوان, أيامه ولياليه - في منفاه - وَلَهٌ وفقد ودموع ملازمة بعد أن أصبح عِبرةً وعظة لكل المحزونين والمصابين, يغشى عليه فوْر تلقّيه للنبأ الفاجع, واختلطت جسامة المصيبة بشماتة الحساد, فياللضعف والهوان! يقول البارودي:

أيَدَ المنونِ قدحْتِ أيَّ زنادِ? وأطرْتِ أيّةَ شُعْلةٍ بفؤادي?
أوْهنتِ عزمي وهو حملة فيلقِ وحطّمتِ عودي وهو رمْحُ طِرادِ
لم أدْرِ هل خطبٌ أَلمّ بساحتي فأناخَ, أم سهم أصاب سوادي?
لا لوعتي تدعُ الفؤادَ ولا يدي تقوى على ردّ الحبيب الغادي
يا دهرُ فيم فجَعْتني بحليلةٍ كانت خلاصة عُدّتي وعتادي
إن كنت لم ترحمْ ضنايَ لبُعْدها أفلا رحمْتَ من الأسى أولادي
أفردتهن فلم ينمْن توجُّعا قرْحى العيون, رواجفَ الأكبادِ
ألقيْنَ دُرّ عقودهنَّ, وصُغْنَ من دُرّ الدموع قلائدَ الأجياد
يبكين من وَلَهٍ فراق حفيّةٍ كانت لهن كثيرةَ الإسعادِ
فخدودهنّ من الدموع نديّةٌ وقلوبهنَ من الهموم صوادي
أسليلةَ القمريْنِ أيُّ فجيعةٍ حلّت لفقْدكِ بين هذا النادي
أعززْ عليّ بأن أراكِ رهينةً في جوْفِ أغْبَر قاتم الأسْدادِ
أو أن تبيني عن قرارةِ منزلٍ كنتِ الضياءَ له بكلِّ سوادِ
لو كان هذا الدهر يقبل فدْيةً بالنفس عنْكِ, لكنتُ أوّلَ فادي
أو كان يرهب صوْلةً من فاتكٍ لفعلْتُ فعل الحارثِ بن عُبَادِ
لكنها الأقدار ليس بناجعٍ فيها سوى التسليم والإخلادِ
فبأي مقدرةٍ أردُّ يد الأسى عنَى, وقد ملكتْ عِنان رشادي?
أفأستعينُ الصبْرَ وهو قساوةٌ? أم أصحبُ السلوان وهو تَعادِي?
هيهات بعدك أن تَقرّ جوانحي أسفاً لبُعدكِ أو يلين مهادي
ولهي عليك مصاحبٌ لمسيرتي والدمع فيك ملازم لوسادي
فإذا انتبهْتُ فأنتِ أولُ ذُكْرتي وإذا أويْتُ فأنتِ آخرُ زادي
أمسيْتُ بعدكِ عبرةً لذوي الأسى في يوم كلّ مصيبةٍ وحِدادِ
ما بين حزنٍ باطنٍ أكلَ الحشَا بلهيب سوْرتهِ, وسُقْمٍ بادي
ورد البريدُ بغير ما أملْتهُ تعسَ البريدُ, وشاه وجهُ الحادي
فسقطْتُ مغشياً عليّ, كأنما نهشت صمِيمَ القلبِ حيّةُ وادي
ويُلُمّه رُزءاً أطار نعيُّه بالقلب شُعلةَ مارجٍ وقّادِ
قد أظلمت منه العيونُ, كأنما كحل البكاءُ جُفونها بقتادِ
عظُمت مصيبتُه عليَّ, بقدر ما عظُمت لديَّ شماتةُ الحسّادِ
لاموا على جزعي, ولمّا يعلموا أنّ الملامة لا تردُّ قيادي
سرْ يا نسيمُ فبلّغ القَبْرَ الذي بحمى الإمامِ تحيتي وودادي
أخبرْهُ أني بعده في معشرٍ يستجلبون صلاحهم بفسادي
تالله ما جفّت دموعي بعدما ذهب الردى بك يا ابنة الأمجادِ
لا تحسبيني ملْتُ عنك مع الهوى هيهات, ما تَرْكُ الوفاءِ بِعَادي
قد كدتُ أقضي حسرةً لو لم أكنْ متوقعا لُقياكِ يوْمَ معادي
فعليك من قلبي التحيةُ كُلّما ناحت مُطوقةٌ على الأعوادِ



          يقول الباردوي في تقديمه لديوانه: (ولو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلا تهذيب النفوس, وتدريب الأفهام, وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق, لكان قد بلغ الغاية التي ليس وراءها لذي رغبةٍ مسرح, وارتبأ الصهوة التي ليس دونها لذي همةٍ مطمح, ومن عجائبه تنافسُ الناس فيه, وتغايرُ الطباع عليه, وصفْوُ الأسماع إليه, كأنما هو مخلوق من كلّ نفْس, أو مطبوع في كلِّ قلب).

          وحسْب الباردوي أن يكون في كثير من شعره مُحققاً لفكرته عن الشعر الحكيم, تهذيباً وتدريباً وتنبيهاً. فالشعر في جوهره رسالة, وفي حقيقة إبداعه مجْلى حقيقيّ لجمال العربية وسحرها الباقي على تعاقب الأزمان, وخطاب للنفس العربية: يضخّ في شرايينها الحياة, ويُنضج وعيها بحقيقة وجودها, وإيمانها بإرادتها الحرة, وكرامتها الإنسانية, وهو أمر ليس بالقليل!

 

فاروق شوشة