إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

تغيير المرعى

          التهمته التهاما.. عندما وقعت عيني عليه. كان ذلك نحو عام 1961 كتاب صغير الحجم والقطع, قليل الصفحات, لكنه إنجاز في بابه.. بسيط وعميق وجذاب يتضمن نظرات ثاقبة في موضوعه, يختزل تاريخ الشعر وأبرز أعلامه ومحطاته في 120 صفحة. إنه كتاب (فن الشعر) للدكتور محمد مندور, ودفعني ثراء الكتاب وأسلوب الكاتب الذي خلا من الثرثرة والتحذلق إلى مطالعة كل ما كتب مثل (نماذج بشرية) و(في الميزان الجديد) و(النقد المنهجي عند العرب) وغيرها. وهكذا نفذ مندور إلى حياتي وعقلي, وهكذا قررت لقاءه أواخر عام 1964 كنت أكتب القصة القصيرة طوال عامي 63 و1964 وعرضت ما كتبت على عدد من النقاد فتضاربت الآراء حتى ترسبت الحيرة في نفسي, ولم أستطع الاهتداء إلى رأي حاسم وكنت في السنة الأولى بفلسفة القاهرة, وانتهيت إلى ترجيح فكرة الحصول على رأي مندور شيخ النقاد في ذلك الوقت.

          علمت أنه في يوم كذا سيكون في دار (روزاليوسف) فمضيت متأبطا قصصي المخطوطة.. التقيت على السلم الخارجي برجل قمحي اللون, يميل إلى السمنة كبير الرأس, منتفخ العينين, ثقيل الخطو يحمل كثيراً من الكتب والمجلات.. عَرَفْتُه وعرَّفْته بنفسي وحاجتي.. تسلم أوراقي وأفسح لها مكانا بين ما يحمل وقال:

          - نلتقي إن شاء الله على الدرجة نفسها في الموعد واليوم نفسه.

          تركته وفي يديه أوراقي وقلبي وعقلي, وعدت بروحي فقط لا أكاد أعي ما حولي.. تمضي الأيام ثقيلة والرأس مشغول.. كنت أستشعر أني أمتلك القدرة على الكتابة القصصية, لكنني برغم اجتهادي في تشكيل النص القصصي يخالجني شعور حاد بعدم الرضا عنه, ولم أتحمس لمن استحسنوا ما كتبت, وساءني من بالغوا في استنكاره والتعريض به وتعداد مثالبه.

          إن لوعة الكاتب الجديد تلهبه وتحاصره وهو ينتظر على جمر الشوق رأي النقاد الجادين المخلصين, وربما كان إدراك بعض النقاد لأهمية رأيهم وتأثيره - خاصة إذا كان سلبيا - قد يدفعهم لامتداح الناشئ دون حق - مما يخلف لنا في الحياة الثقافية والفنية من اعتقدوا تمتعهم بالموهبة وامتلاكهم قدرات غير عادية على الإبداع, وهذا ما يدعونا دائما للتأكيد على ضرورة قيام النقاد بأدوارهم التقييمية في فرز الإبداع الجديد بصورة مستمرة وطرح الرؤى النقدية فيه بموضوعية وصدق ومصارحة لا تهاون فيها ولا تهوين.

          التقينا كما رسم بالضبط.. قال:
          - كفاك ما قرأت من طه حسين وتيمور. انقل مرعاك إلى يوسف إدريس ويحيى حقي.
          كان الكلام واضحا وموجزاً إلى درجة أنني دهشت, فلم أنبس بحرف للحظات, وحرت ماذا أقول.. ابتسم مشجعا, فقلت:
          - كنت أود أن أعرف رأيك فيما كتبت?
          قال: لقد قلت رأيي في خمسة كتاب دفعة واحدة.
          عدت إلى ذهولي وحيرتي, وتساءلت: متى قال رأيه في خمسة كُتَّاب.. لقد ذكر - فقط - أسماء أربعة كتَّاب.
          وبينما أنا غارق في حيرتي التي يزداد غمامها, محاولا البحث عن الإجابة المحددة, وكان خاطر يائس قد طاف برأسي فيما يشبه الإحساس بالندم لأني لجأت إليه, وهو رجل قليل الكلام, شحيح النصح.. مد مخطوطاتي إليَّ, ثم أمسك بذراعي قائلا: هيا نعبر الطريق.

          تشجعت وسألته: ما رأيك بالتحديد في مستوى الكتابة? في مستقبلها?
          قال: لديك الخيال والرؤية القصصية, وإلا ما كنت قلت لك ما سمعت. فانس هذا, واسْتعِدْ مرة أخرى ما سبق قوله عن الكتاب الخمسة.
          بعد شرود وتأمل.. أدركت فعلا أنه قال رأيه في خمسة أدباء, منهم هذا الشاب الجديد الذي يقبع متوجسا داخل ملابسي, هذا الكاتب الشاب - ويا للسعادة - قد أحصاه واعتبره ضمن من ذكر من الكتاب.
          حاولت أن أستدرجه ليفصح أكثر.. عاد يقول:
          - إدريس وحقي أولا.. ثم نتكلم, سوف ترى بنفسك الأثر بعد تغيير المرعى.

 

فؤاد قنديل