الثقافة المهيمنة.. مرض العصر

 الثقافة المهيمنة.. مرض العصر
        

  • أرسطو جعل من الجمهور صانعا لشهرة رجال السياسة والشعر 
  • الفرص التقنية متاحة للجميع فلماذا بقيت مسيرتنا أسيرة تعثرها? 

          خاض البشر, منذ العصور الإنسانية الأولى, صراعاً دائماً من أجل البقاء, في مواجهة كائنات كانت تفترس نصيبهم من الطعام وفرصتهم في الأمان, وحقهم بالحياة. وتعلم هؤلاء أن ارتباطهم معًا في مجموعات صغيرة يزيد من فرص نجاتهم أمام هجمات الكواسر الضارية, ومنحت الحاجة للحماية والسعي للأمان أفراد هذه المجموعات أكثر من حافز لتطوير شبكات العلاقات فيما بينهم, تلك الشبكات التي رسمت هويتهم وميزت ثقافتهم فيما بعد. 

          كانت الثقافة - آنذاك - محض محاولات دفاعية لامتلاك مقومات الحياة, ودعم غريزة البقاء, وتكشف دراسات علماء الأنثروبولوجيا - سواء تلك التي أجريت في قارات آسيا وإفريقيا, وأستراليا قبل قرنين أو تلك الأحدث التي تجرى في قارات العالم كله - أن حاسة التوجس من الخطر الداهم, والخوف من الضواري المتربصة قد دفعت الجماعات البشرية للتقارب, فيما عاشت المجموعات الأخرى غير المهددة بشكل منتشر - فرادى أو ضمن مجموعات أصغر - يميز كل منها ثقافة فريدة.

          ولعل هذا التحليل, حول نشأة الثقافة, وعلاقتها التي لا تنفصم بنشأة المجتمعات, هو ما دفع الكاتب (إدوارد سي ستيوارت) في دراسته حول (ثقافة العقل) للبحث عن الأصول العاطفية للثقافة, حتى يخلص إلى ما يفسر لنا كثيرا من أمراضها المعاصرة.

          ويرى ستيوارت, وهو المتخصص بعلم نفس الثقافة, في دراسته المنشورة ضمن كتاب صدر أخيرا بعنوان (الثقافة في عصر الاتصالات) أن الأسى والقنوط وانعدام الحيلة تمثل جميعا تجارب (الفريسة) وخبراتها في الحياة, وتصف لنا المرويات الفلكلورية كيفية التحايل من قبل الإنسان الأول ليهرب من تلك الحالات الموحشة, سواء كانت القصص المروية بطلها الإنسان أم كانت تحكي عن صغار الحيوانات والطيور الأكثر حكمة في ظن تلك المرويات خلال رحلة نجاتها. وفيها كيف ينهض الضعيف في وجه القوي, وكيف تُهزم الأسود أمام الثعالب, ولنا في قصص تراثنا العربي أكثر من أثر يؤيد ذلك, كما تروي قصص (كليلة ودمنة) على سبيل المثال.

          ولأن الخوف والقلق مازالا يغذيان البشر حتى يومنا هذا, فإن أفكارهم ومشاعرهم تتأجج تلقائيا حين يستدعي أحد المواقف الحياتية ما يجعلهم يمثلون دور الفريسة في مواجهة الضواري. ولكن ما ضواري الألفية الثالثة?

          يعتقد الكاتب - ونحن معه - أن خبرة ذلك الصراع السرمدي المغموس بالخوف, لتجنب المعاناة وتفادي الموت كفريسة, سواء كان المفترس حيوانا ضاريا, أو وحشا كاسرا, أو دولة معادية, أو حتى مجموعة أخرى من ثقافة مغايرة, قد جعلتنا نتخذ من (الآخر) الذي يختلف عنا, في ثقافته وهويته, ما يسبب لنا الخوف, ويجلب لذوينا الهلع. ولذا تتماهى صورة المختلف عنا - داخل عقولنا - مع صورة الحيوان البري, الذي أرعب الأسلاف وأرهبهم.

          ويخلص ستيوارت إلى القول, إن خبرة البشرية, عبر مراحلها المختلفة, قد جعلها تؤسس ما يمكن تسميته بعملية التطور الثقافي, وهي عملية يتكيف فيها العقل لتجنب الخطر, ويصبح مؤهلا لاستثمار الفرص التي واجهها جدودنا, في صيدهم والتماسهم قوتهم في بيئة عدائية.

          لقد أورثت ظروف الحياة القاسية احتمالات الإحساس بالخوف - من الحيوانات والبشر (الآخرين) - أنظمة الإدراك لدى البشر, بشكل جعل دفاعهم عن الذات مشحونا بالعدوانية, والغضب, وشريعة الثأر, وهي آليات تميز علاقة الفريسة بالكواسر.

          ومن هنا كانت استجابة هؤلاء - لأي حدث خارجي من ثقافة مختلفة - تجري ضمن عملية تشفيرية مزدوجة, تعبر عن أحاسيسهم وعواطفهم, وتنشئ (واقعا) من المشاعر الضمنية, البعيدة عن التعقل. واقع تترجمه اللغة العدوانية للآخر, وتفسره الحواس العدائية نحوه.

          ولعلي أتساءل هنا: ألا يعبر ذلك عما تعيشه البشرية الآن من صراع, وما آل إليه عالمنا من تدهور? وهو سؤال لا يسحب الكلام على صراع القطب الأوحد والأقوى وحده أمام (محور الشر) و(قوى الإرهاب) وسواهما, إنما أشير إلى كل بؤر الصراع في العالم, بعد أن نسجت الحروب شبكته العنكبوتية على خريطته - بديلا عن خطوط الطول ودوائر العرض - ولم يعد هناك بلد لا يعاني ويلاتها, ولم تبق ثقافة لا تصارع أخرى, وأصبحت الحرب هي القاعدة, وبات السلام في خانة الاستثناء, وكأن مئات الآلاف من عمر البشرية لم تفلح في مداواة جرح الذاكرة الإنسانية, التي تلخصت في صورة وحيدة, صراع من أجل البقاء, واستبدلوا بديناصورات ما قبل التاريخ أعداء جددا, وكأنها دورة لا تنتهي ولا ترتاح الفريسة فيها أبداً, ودوامة لا تهدأ حتى تغرق الجميع.

          ونسأل ستيوارت وزملاءه, مؤلفي (الثقافة في عصر الاتصالات), ألم يفلح هذا العصر بكل تقنياته وسبله, ومعارفه, في ردم الهوة بين مجموعاته الثقافية? ألم ينجح في تقليل التنافر فيما بينها? وإذا كان الجهل بالآخر أساسا للعداء معه, ألم توفر آليات هذا العصر الفرص كاملة للتعرف عليه, وتفهمه, وتقبله, ومعايشته, والتعامل معه, والتعاطف مع قضاياه وإذابة روح العداء تجاهه, بل والتحمس لحل مشكلاته?

          ربما تكون هذه التساؤلات ما حاول الإجابة عنها في دراسته أحد مؤلفي الكتاب, وهو (جورج ايه جونزاليس), مدير البرامج الثقافية في جامعة كولينا بالمكسيك, ومحرر مجلة (دراسات الثقافات المعاصرة), الذي سعى إلى الوقوف على تفهم رغبة الثقافات المعاصرة الأقوى للسيطرة, لكنه يبرر - في الوقت نفسه - حقها في الهيمنة حين يقول (إن أي مجتمع لا يستطيع أن ينظم آليات حياته اليومية دونما هيمنة, وهي تعد عاملا إيجابيا للحفاظ على قوة المجتمع).

          لكن جونزاليس ينسى أن هيمنة الثقافة, إذا كان مسموحا بها داخل الحدود القطرية, وهو أيضا أمر فيه نظر, فإن سيطرتها ما وراء الحدود لا يمكن أن توصف بالإيجابية ذاتها. ولذلك نرى أن السعي إلى تكريس ثقافة واحدة مسيطرة - باستغلال فرص عصر ثورة الاتصالات والمعلومات, بدءًا من الصحف حتى الإنترنت, ومن محطات البث الإذاعي إلى القنوات العابرة للقارات - إنما يلغي ثقافات الأمم والشعوب الأضعف, ويسعى لطمرها في محيط النسيان.

          والثقافة المهيمنة - كما نراها في هذا السياق - مدخل للهيمنة الاقتصادية, والسياسية على الأمم الأخرى, وفرض إرادة الأقوى, والعمل على سحق كل إمكانات القوة المستقبلية لدى الأضعف, وهذا لا يتأتي إلا بالقضاء على ثقافته وإلحاقه تابعا لثقافة العولمة المهيمنة.

          ولعلنا نذكر أن مفهوم (القرية الإلكترونية), المرادف لعصر الاتصالات, لم يكن إلا دعوة للتقريب فيما بين الشعوب, والتعرف على ثقافاتهم, لكنه اليوم يكاد يصبح علامة على مسخها ومزجها وصبها في قالب واحد مصمت, لا يعترف بالتفاصيل الفارقة ولا يعنى بها, مما يجعل من (القرية الإلكترونية) قرية معادية لروح الثقافة التي يقوم ثراؤها على التنوع وتستمد خصبها من التعدد.

          ويأتي (ستيفن هاينرمان) - أحد المشاركين في الكتاب, وهو محاضر حول دراسات الاتصالات في جامعة سان خوسيه بكاليفورنيا - ليرصد إحدى صور الثقافة المهيمنة في عصر الاتصالات, فيقول تحت عنوان (ثقافة النجم) إنه لم يعد بمستغرب على المسافر الأمريكي عبر الولايات المتحدة أن يسمع حيث يحل الأغاني المألوفة لديه, وأن يتنقل بين القنوات التلفزيونية في غرفة فندقه فلا يرى سوى النجوم أنفسهم, وأن تتابع وسائط الإعلام المباريات الرياضية ذاتها:

          (لن تتوقف أبدا الأشياء المألوفة التي تنتظر المسافر, ولو تصورنا أن هناك شخصين, أحدهما مسافر والآخر من أهل المكان, قد جلسا ليكتبا قائمة بأكثر الأبطال شعبية, فلن يكون مثيرا للدهشة أن كلتا القائمتين بهما الأسماء نفسها, من أبطال الأفلام ونجوم الموسيقى وعمالقة الرياضة, وشخصيات البرامج التلفزيونية, وقد تضم القائمة: مادونا وريكي مارتن وتوم هانكس أو جان - كلود فان دام, على سبيل المثال).

          وقد لا يزعجنا هذا التشابه على الإطلاق - يستطرد هاينرمان - ولكنه يتساءل: هل نتفق جميعا في كل أنحاء الكرة الأرضية حول من نحب ونكره بين هؤلاء (الأبطال) وغيرهم من ساسة وقادة ومدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم ممن غيّروا وجه العالم?

          والحق أن تلك القضية الأساسية كانت محور جدل القرن الماضي حول الثقافة ووسائط الإعلام, منذ مسعى منظري مدرسة فرانكفورت في بدايات القرن العشرين, وحتى وصولنا إلى سدنة المحافظين على الثقافات في الألفية الثالثة. حتى أن سطوة (ثقافة النجم) تتعرض للوم لمسئوليتها عن تحطيم القيم الأصيلة, وإذابة الفوارق بين الاختلافات المحلية والفردية. أو بتعبير آخر بعد أن استخدمت المؤسسات الصانعة للنجوم أدواتها لتوحد الجماهير في (خلطة) واحدة, تحقق آمالا مزيفة في ارتقاء سلم الحراك الاجتماعي.

          فهؤلاء النجوم, الذين تجد في البحث عنهم عيون مدربة, وتقدمهم الاستوديوهات في مجال أوسع, كنماذج مثالية للجماهير, ضمن حملات إعلانية وإعلامية لا تهدأ, يمثلون صورة ذلك (الأمل الكاذب) الذي يكافئ قلة عشوائية على حساب الملايين من جمهورهم.

          ولعل ذلك كله صحيح, فهذه (النجومية) جزء من ثقافة العولمة, التي ربطت الكون بشريط موحد من الأنشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية, ومن صورها متابعة الملايين لمباريات كأس العالم في كرة القدم, وحفلات انتخاب ملكات جمال الدنيا, والحروب التلفزيونية (وما أكثرها).

          وهل من مشكلة في قدرة جماهيرنا العريضة, لبعض مجتمعاتنا التي تعاني قسوة الحياة وشظف العيش, على الحديث في مجالسها ومكاتبها ومخادعها عن حياة النجوم وأسرارهم وأعمالهم, في الشرق والغرب, على حد سواء.

          ويقول هاينرمان إن النجومية تنسج معا الخيوط المعرفية والثقافية, بعد أن كادت تفقد ترابطها, بتأثير الحياة المعاصرة, والمدهش أن وراء النجومية تكمن قدرة هذه الحياة المعاصرة على إنتاج صور النجوم والترويج لها. وتعلمت مؤسسات الإعلام والإمتاع كيف تغرس نبتة النجم وتنميها بما يكفل اجتذاب مستهلكيها مرة بعد أخرى.

          وحين نعود مع التاريخ إلى نجومه, نجد أن أرسطو لا يعزو شهرة هؤلاء لقدرة الأفراد من الشجعان والحكماء والقادة والخطباء والشعراء وحسب, بل لصناع هؤلاء النجوم, وهم بالنسبة لأرسطو (384-322 قبل الميلاد): الجمهور. فتشريف العامة لهؤلاء الأبطال يأتي بعد إنجاز أتموه وخطبة بليغة عبروا بها عنه. ومن الطريف أن تعليل أرسطو يثبت أهمية (الخطباء والشعراء) في إعلام عصره.

          وتمر القرون ليستبدل عصرنا بهؤلاء آلاته الإعلامية الجبّارة, التي تصنع النجوم, أو تحطمهم, بصور بعضها مزيف, وإنجازات بعضها ملفق, وسير حياتية نضج بعض سطورها على نار الأكاذيب. ولكن المتلقي لا يكاد يفرق بين الأمرين, فإذا به يكتفي بما تلقيه إليه شجرة الإعلام من فتات الحقيقة, فيستهلكه أو يعيد إنتاجه, في صناعة تكريس النجم.

          إن الفرص التقنية متاحة للجميع, فلكل جماعة ثقافية إمكان ظهورها على شاشة التلفزيون عبر القنوات الفضائية, مثلما لها فرصتها في حضورها عبر الشبكة العالمية للإنترنت, إنه عصر ثورة الاتصالات السريعة, وفضاء القرية الإلكترونية, لكننا نعجب من بقاء ثقافتنا العربية والإسلامية (محلك سر), عاجزة عن المشاركة حتى في ثقافة صناعة النجم, في حين يستطيع (الآخر) أن يختار نجومه ويروّج لهم, حتى من بين نفاياتنا نحن!

          وأحسب أننا نزداد خيبة عندما نفكر في صناعة نجومنا من أمثال أسامة بن لادن أو صدام حسين أو نماذج ثقافية كالتي نشاهدهم يهزّون أردافهم وأكتافهم طوال اليوم من على شاشات أجهزتنا الإعلامية التي نطلق عليها قنواتنا الفضائية!

          وربما يكون السبب الأكثر وضوحا هو أن ثقافة عصرنا لا تأتي بمفردها, بل تحل بصحبة كوكبة من آليات السوق, وميكانيزمات الاقتصاد, وقيم الانفتاح, وصور المنتصرين في كل المعارك, ولن تستطيع ثقافتنا - أو أي ثقافة أخرى - أن تساهم أو تنافس أو تنتصر, مادامت أسيرة مسيرتها العاجزة والمتعثرة, والرافضة للأخذ بأسباب التطور والرقي.

          وهل سنكون على حق لو وضعنا أجهزتنا الإعلامية, والثقافية, في خانة التابع الأسير, والمقلد الأعمى, والمروج غير الواعي لسياسة العولمة الساعية إلى طمس ثقافتنا, واستبدالها بثقافة القوى الساعية إلى الهيمنة ?

          وهل لنا الخيار في الحفاظ على تراث أمتنا الممتدة جذوره في أرضنا على مدى آلاف من السنين? أم أننا قادرون بجرة قلم على التحول إلى ثقافة أخرى قادمة من أرض ليست أرضنا ومجتمع لا يمت لنا بأي صلة? وندعي, باسم التحضر والتطور والعولمة, أننا قادرون على أن نخلع لباسنا ونلبس لباسا جديدا ليس على مقاسنا ولا رابط له بذوقنا وحياة أمتنا?

          إن التنوع مطلوب ومرغوب ويزيد الثقافة خصوبة واتساعا, ومعرفة الآخر عن طريق ثقافته شرط للتعايش والتفاهم والسلام, إنما على الآخر أيضا أن يستوعب ثقافتنا ويفهمها ويتعايش معها ضمن منظور أشمل وأوسع للعلاقات بين الشعوب طريقا للتفاهم والتعاون, ومهما كانت هناك من ثقافات قوية مدعومة بالوسائط الحديثة, وقوة الجيوش والاقتصاد, فستبقى الثقافات الأدنى والأضعف تقاوم الفناء, من باب غريزة حب البقاء, وتتحين الفرص للنهوض في يوم ما, وعندها تحاول أن تنتشر وتهيمن, إن استطاعت!

          إن الهجمة العالمية للثقافة المهيمنة, والمتمثلة بالثقافة الأمريكية تحديدا, تواجه مقاومة في كل مكان, وتختلف قوة تلك المقاومة من بلد لآخر, ومن مجتمع لمجتمع, لكن هي مقاومة, تمتد من أوربا, إلى الشرق بكل تلوّن ثقافاته, إلى ثقافات المجتمع البدائية في إفريقيا وكثير من بقاع العالم, وبالتأكيد لن تستسلم أيّ منها بسهولة ويسر, وعلينا ألا ننسى أن تلك الثقافات هي أكثر عراقة وحكمة ومخزوناً من تلك التي تحاول الهيمنة اليوم

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات