قراءة نقدية في رواية: اسمي أحمر

قراءة نقدية في رواية: اسمي أحمر
        

رواية عن الموت وسحر الفن

          هذه رواية (جديدة) للكاتب التركي أورهان باموق, ترجمها عبدالقادر عبداللي, وصدرت عن دار المدى بدمشق عام 2000.

          إنها رواية (جميلة) كبيرة الحجم, وتتناول موضوعاً صعباً, شديد الحرج, مستمدا من تاريخ (الفن التشكيلي الإسلامي) في تركيا. ورغم ذلك فما إن يبدأ (القارئ) قراءتها, حتى يجذبه (سحرها) ليستغرق في عالمها الثري الرحب (مستمتعاً) أشد الاستمتاع. ومن هذا المنظور تعتبر هذه الرواية (درساً) بليغاً في فن الاقتراب من القارئ!

فنان كبير

          وُلد الكاتب أورهان باموق في 7 يونيو 1952 بمدينة اسطنبول, وتشكّلت شخصيته كـ(كاتب) من عدد من الملامح العامة والخاصة. ترجع الملامح (العامة) إلى أنه نتاج مجتمع معين, هو المجتمع التركي, فعلى أرضه وُلد وعاش وسط ظروف (سياسية, اجتماعية, اقتصادية, تاريخية... إلخ) خاصة. كما امتلك (ميراثاً), لا يملك الفكاك منه, من عادات, تقاليد, ومفاهيم ترجع إلى أسرته, بيئته المحلية, مجتمعه الكبير, ثم العالم من حوله.

          أما الملامح (الخاصة) فترتبط بحجم (موهبته) الروائية, التي حباه بها الله, ومدى تفانيه في الإخلاص لها, ومدى اطلاعه على مختلف النماذج المحلية والعالمية, واستيعابه لمختلف أساليب وتقنيات الكتابة الروائية, والجانب الآخر المهم هو مدى ما اكتسب من خبرات حياتية ساعدت على تكوين رؤيته الداخلية, حتى وجد طريقه, وتفجّر نبع إبداعه, فأنتج ثماراً أصيلة مبتكرة لفتت إليه الأنظار, وذلك بدءاً من روايته الأولى (جودت بك وأولاده), وسرعان ما انفتحت أمامه أبواب الترجمة إلى اللغات العالمية, بعد صدور روايته الثانية (البيت الصامت), ثم انعطف إلى الرواية (التاريخية), وأنجز روايته الثالثة (القلعة البيضاء), التي وضعته في مصاف (الكتّاب العالميين), وبعدها نشر روايتين, هما (الكتاب الأسود) و (الحياة الجديدة), ثم رجع ثانية إلى القرن السابع عشر من (التاريخ) التركي, وذلك في روايته الجميلة (اسمي أحمر) التي صدرت عام 1998.

          ولعلّ (واقع) الفن التشكيلي في تركيا والعالم الإسلامي, قد أثار انتباهه, وأرّقه طويلاً, ولم يجد أمامه إلا عالمه الروائي فهو الملاذ والملجأ. وربّما راودته, في تلك الفترة, فكرة مشروع روائي يتناول فيه هذه القضية, فبدأ رحلة (إعداد) رهيبة, بجديّة باحث دءوب وإصرار لا يلين, وذلك بالاطلاع والدراسة والبحث في كل المراجع الممكنة, التي تغوص في جذور نشأة الفن التشكيلي التركي ومسيرة تطوّره, بكل ما لها وما عليها, تمهيداً لهضمها واستيعابها, حتى يصبح مالكاً تماماً لموضوعه, مسيطراً على مختلف جوانبه, وكل هذا لا ينتج رواية, لكنه يكون (محفّزاً) للإبداع, حتى إذا ما لامس صدى وتجاوباً مع مخيلته الإبداعية, فيشعر - عندئذ - بأن عملية إخصاب قد تمت, وأن فترة (حمل) قد بدأت, وبحكم خبراته كفنان كبير, يعي جيداً أنه يجب أن يتمتع خلال تلك المرحلة بالصبر والجلد والاحتمال, حتى يختمر العمل على نار هادئة, وينضج, فتبدأ مؤشرات المخاض تدمدم داخله معلنة قرب الميلاد, لتبزغ (نغمة) العمل المتميزة, معلنة عن وجودها, بشكل طبيعي, واضعة (القارئ) المحتمل في الاعتبار, لأن عملية الابداع لن تكتمل إلا حين تصل إلى الطرف الثاني, وأن يستقبلها بشكل طيب, مستمتعاً في جميع الحالات!

حبكة بوليسية

          حتى يستحوذ أورهان باموق على اهتمام (القارئ), افتتح روايته بجريمة قتل بيد مجهول, وهي بداية خيط (الحبكة البوليسية), التي سيستخدمها على مدار الرواية بأكملها, حتى يتم اكتشاف القاتل في الصفحات الأخيرة, يتيح هذا الأسلوب عرض مختلف الشخصيات, بشكل مباشر كشخصيات محتملة معرّضة للاتهام, ويتم خلال ذلك, وبشكل غير مباشر, عرض جوانب قضية الفن التشكيلي التركي, مستفيدة باهتمام القارئ, وكان أورهان باموق موفّقاً أشدّ التوفيق, حين اختار القتيل فناناً يعمل في النقش خانة مع ثلاثة نقّاشين آخرين, تحت رئاسة الأستاذ عثمان, وتدعيماً لهذا البناء, وضع تلك الشخصيات جميعاً في بؤرة (صراع) بين جانبين: جانب يعمل بشكل معلن كمجموعة, في كتاب (سرنامة), الذي يحكي وقائع احتفال ختان ابن السلطان, ويتم العمل فيه وفق الأساليب الفنية الشرقية المعروفة, وتحت إشراف الأستاذ عثمان, وجانب آخر يعمل بشكل سرّي في كتاب يتولى الإشراف عليه سفير سابق للسلطان في البندقية في إيطاليا وكنته الرواية بزوج الخالة, وفرّ له السلطان الأموال اللازمة لإغراء نفس مجموعة الفنانين الأمهر في البلاد على المشاركة فيه, كل منهم بشكل فردي, على أن يتم الرسم وفق أسلوب (البورتريه) الغربي, الذي سبق أن شاهده في البندقية وأعجب به وأقنع السلطان باستخدامه. وإذا كان الرسم والنقش في الكتاب الأول يأتي مصاحباً لحكاية ويشرحها, فإنه في الكتاب الثاني يجسّد الأشخاص والأشياء, التي تتم بشكل منفصل ولذاته, وبقدر ما كان الكتاب الأول يندرج في سياق مألوف, متوارث, يبيحه الإسلام, كان الكتاب الثاني  يشخّص الأشياء, ويدخل في حدود الحظر, ويهاجمه أئمة المساجد, تتصاعد الأحداث وتتفاقم, حين يُقتل أيضاً, السفير السابق المسئول عن الكتاب السرّي, وتختفي مواكبة لقتله آخر اللوحات, عندئذ يتدخل السلطان, ويقدم كل عون ممكن لرئيس النقّاشين, ويمنحه مهلة ثلاثة أيام للكشف عن هوية القاتل, الذي يرجّح أن يكون واحداً من النقّاشين, فإذا لم ينجح فسيبدأ بتعذيب النقّاشين وصولاً للاعتراف بالقاتل. ولأن رئيس النقّاشين اكتشف أن القاتل قد ترك أثراً, دون أن يدري, عند رسم إذن حصان, يمكن أن يستدل منه على شخصه, فكان من الضروري أن يرجع إلى رسوم الأساتذة القدماء, لعلّه يهتدي إلى ضوء ييسر له أن يتوصل إلى القاتل, وهو ما وافق عليه السلطان, وأمر بفتح مخازنه التي تحتوي على كنز كتب ولوحات وأدوات الفنانين القدامى, وهو ما أعطى الرواية مبرراً فنياً لاستعراض ثراء تلك الكنوز بشكل طبيعي, وفي الوقت الذي توصّل فيه رئيس النقّاشين إلى تخمين شخصية القاتل, كان قد انتهى إلى أن يحمي نفسه, كما سبق أن فعل الأستاذ العظيم بهزاد, حتى (لا يتدخل في أي نقش خانة أو إرادة شاه), بمعنى أنه اختار أن يتحرّر من أعباء الواقع الخارجي وما يفرضه من صراع, ولعلّه كان يرهص, في الوقت ذاته وبشكل فني, لما سيئول إليه حال الفن التشكيلي بعد ذلك بسنوات, من توقف وموات!

حكاية حب

          عنصر جذب آخر ممتع للقارئ, استخدمه أورهان باموق ببراعة, حين ضفّر حكاية حب بديعة مع رحلة صراع النقّاشين, السابق بيانها, وامتدت تلك الحكاية على مدار الرواية بأكملها, طرفها الأول (شكورة) أجمل الجميلات, ابنة السفير السابق (زوج الخالة), والتي عشقها كل من رآها, خاصة من كان يدخل إلى بيت الأب ورآها أو تعامل معها, أما الطرف الثاني, فهو (قرّة) الذي نشأ مجاوراً لها بحكم القرابة, لأنها ابنة خالته, فقد أحبّها, ولم ينجح في إخفاء هيامه بها, بل ارتكب خطيئة التعبير عن حبّه مباشرة لها, مما اضطره إلى قطع رجله عن بيتها, والارتحال بعيداً لمدة اثنتي عشرة سنة قضاها مغترباً, ولم يقطع ترحاله إلاّ رسالة استدعاء من زوج الخالة, يدعوه فيها إلى العودة إلى البيت. وحين قابله, كلّفه بمهمة تحضير حكاية تناسب الصور التي رسمها الفنانون, كل بشكل منفرد, لكتاب السلطان السري.

          وكانت شكورة قد تزوّجت بعد ثلاث سنوات, من اغترابه, من محارب هو فارس, أنجبت منه صبيين هما شوكت وأورهان, ثم ذهب الزوج إلى الحرب, ولم يعد منذ أربع سنوات, ولم تصلها منه أي رسائل, ولم يبلغها عن مصيره أي أخبار, وقد هام بها, أثناء غيابه, أخوه حسن هياماً, حتى اضطرحموها درءاً للخطر, أن يسمح لها بأن تغادر بيت الزوجية, وأن تؤوب إلى بيت أبيها.

          وبمجرد عودة قرة, ومشاهدته لشكورة اشتعل الحب ثانية, وكانت همزة الوصل أو ساعي البريد بينهما, هي الدلالة اليهودية (استر), التي كانت تنقل الرسائل بين قرة وشكورة وبين حسن وشكورة وبالعكس.

          وهكذا تأججت نيران العلاقة وتأرجحت أيضاً, وسط تطوّرات مستمرة متلاحقة, وكان الجو مهيأ لاستكناه جانب من اختلاف رؤية المذاهب الدينية لحالة عدم رجوع الزوج من الحرب.

          وتسارعت الأحداث, حين قُتل والد شكورة, التي خططت - ووافقها قرة - على أن يتم تطليقها فوراً, وأن يتزوجا, حتى تكون في عصمة رجل وحمايته عند الإعلان عن موت الأب, لكنها رجت قرّة, تنفيذاً لوعد قطعته لأبيها, ألا يقربها قرة إلا بعد أن ينهي عمله في كتاب السلطان السري, وتتصاعد الأحداث, وسط الصراع مع حسن, الذي أصرّ على التمسك بها, بحجة أن كل ما قاما به من إجراءات باطل, لتنتهي الرواية أخيراً, وقد ظللهما الحب بأجنحة سعادته!

رحيق الخبرة

          كما الفنانين الكبار, نثر أورهان باموق رحيق خبراته أو استبصاراته حول الحياة, بين طيات الرواية, والتي بدت تارة حول (انكسارات البشر), حين (يدرك الإنسان بألم أنه بقي وحيداً, ولكن لا يتوانى عن فتح الأبواب والخزائن وحتى أغطية القدور), وحين يكتشف أن (ثمة ما يحدث لنا جميعاً, بعد أن نبني خيالات على مدى أسابيع وسنوات على أننا نفكر بمنطق أن نرى شيئاً ما في يوم ما, وليكن وجهاً أو لباساً أو إنساناً سعيداً, فندرك أن خيالاتنا لن تتحقق), كما (يفهم الإنسان في لحظة الحرب والموت والسياسة التي يتابعها من بعيد أنه لا يساوي شيئاً, وكذلك في لحظات التعذيب والقتل), وأن (ثمة لحظات تمرّ في حياتنا جميعاً ندرك عند حدوثها أننا سنقضي فترة طويلة جداً دون أن ننساها).

          ومن ناحية أخرى, تناثرت في الرواية, استبصارات عدة حول (السعادة) بدت تارة حين يفتقد الفرد سبيل البحث الصحيح, وهو ما أوضحته الدلاّلة الخبيرة بالحياة للجميلة شكورة, حين واجهها بقوله (تبحثين عن الشيء الذي تريدين بقلبك, مع أنك يجب أن تقرري بعقلك), وظهرت تارة أخرى, حين يضلّ البشر السبيل إليها وهي ملك أيديهم, لأنه (لا يفهم أحد أن السعادة تأتي من المواءمة, وأن المواءمة ستأتي بالسعادة). وبدت تارة ثالثة, حين لا يبذل البشر جهداً كافياً للحصول عليها, وهو ما توصلت إليه شكورة بعد حياة مليئة بالخبرات, (فجأة شعرت بأن العالم عبارة عن قصر فيه عدد لا محدود من الغرف المفتوحة على بعضها البعض, ولا يمكننا العبور من غرفة إلى أخرى إلا بالتذكّر والتخيّل, ولكن أغلبنا يجعل هذه الغرف قليلة جداً نتيجة الكسل, وينظر في الغرفة نفسها. ويبقى في النهاية ذلك البحث الدءوب عن السعادة سواء في الفن أو في الحياة: الإنسان في الحقيقة لا يبحث عن الابتسامة في رسم السعادة, بل عن السعادة في الحياة, النقّاشون يعرفون هذا, ولكن مالم يستطيعوا رسمه هو هذا أيضاً, لهذا السبب يضعون سعادة الرؤية موضع السعادة التي في الحياة).

          أما (براءة) الإنسان, فتتجلى من زاويتين, فهنالك (جانب بريء في الإنسان يجعله يرى هموم الآخرين, ويذرف الدمع من أجلها), وبانت الزاوية الأخرى, حين شعر بها قرة, وهو يرتّب الأمور حتى يتزوج من محبوبته (كنت مؤمناً بأن الله يحبّني كثيراً, ويحفظني ويحميني, لهذا, فإن الأمور ستيسر في نصابها, إذا شعرتم بهذا الإحساس داخلكم ستعملون ما يخطر ببالكم, وما تدركون أنه صحيح, وتثبت صحته).

          وهناك, أيضاً, إطلالة مهمة على (مآل) الأشياء جميعاً, وهو ما توصّل إليه قرّة وهو يتجوّل مع الأستاذ عثمان بين كنوز التحف الثمينة, والكتب النادرة المحفوظة في مخازن السلطان, حين قال (شعرت بمتعة أن الغنى الموجود هنا كلّه, وتراكم الأشياء هذه هو نهاية الحملات والحروب والدماء المراقة والمدن والخزائن المسلوبة), وهو نفس ما استنتجه متذوّق الفنون زوج الخالة, حين فهم أنه (ليست رسومنا وحدها, بل كل ما نعمله في هذا العالم سيزول بالحرائق والديدان وعدم الاهتمام), أما (التفسير) فيكمن في تلك (الحقيقة) الخالدة, التي قد ينساها البشر, وتذكرها أستاذ النقّاشين (وتذكرت أن الشيء الذي نسيه الشاهات أصحاب عقدة السيطرة والذهب هو أن الجمال كله لله).

رواية صوتية

          جاء بناء رواية (اسمي أحمر) الفني, بناء سامقاً, آسراً (للقارئ), ممتعا للقراءة, لأنه اعتمد على (تعدد الأصوات), وهو ما منح الرواية ثراء وتنوعاً, حين بدت كقطيع (سيمفوني) عذب, يتكون من 59 لحناً (فصلاً), موزعة بين شخصيات محوري العمل, اللذين تضفرا معاً وشكلا حبكتها, وهما: صراع الفنانين ذو الحبكة البوليسية وحكاية الحب, حيث توزّعت الفصول/الألحان على شخصيات الحكايتين, وتيسيراً على (القارئ), جعل أورهان باموق عنوان كل فصل/لحن دالاً على الشخصية التي ستحكي (أو تعزف) خلاله, مع بعض التنويع في مقدمة العنوان (أنا, نحن, اسمي, ينادونني), ومع توحيد العنوان إذا ما ظهرت الشخصية نفسها في فصول (أو ألحان) أخرى. وقد توزّعت الفصول/الألحان بين أبطال حكاية الحب, كما يلي: (اسمي قرة) 11 فصلاً, (أنا شكورة) 9 فصول, (أنا زوج خالتكم) 5 فصول, واسمي استر) 4 فصول.

          كما توزّعت فصول (الحان) حكاية صراع النقاشين, كما يلي (سيقولون عني قاتل) 7 فصول, النقاشون: (أنا الأستاذ عثمان) 3 فصول, (ينادونني فراشة) 3 فصول, (ينادونني لقلقا)3 فصول, و(ينادونني زيتونا) 3 فصول.

          ويلاحظ على هذا التوزيع أن (قرة) قد انفرد بعدد 11 فصلاً, لأنه بطل فاعل مشترك بين الحكايتين, تليه (شكورة) 9 فصول, لأنها أيضاً بطلة مشتركة بين الحكايتين, تلاهما شخصية القاتل المجهول 7 فصول, لأنه كان بطل الحكاية الرئيسية, التي ارتكزت عليها الرواية, يليهم زوج الخالة 5 فصول, لأنه شخصية مشتركة بين الحكايتين, ثم (استر) الدلالة 4 فصول, كرسول غرام ومراقبة خبيرة بالحياة, بينما تساوي النقاشون في عدد الفصول/الألحان 3 لكل واحد منهم, تعبيراً عن تساوي أدوارهم في الرواية

 

أورهان باموق   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات