صدمة

  صدمة
        

          ذلك المساء الدافئ وذلك الإحساس المرهف الذي كان يدغدغ أفكاره, كانا السبب الرئيسي لجعله يمشي على السيف البحري الناعم. تتسابق خطواته بأرتام متفاوتة.. مستشعرة الأحاسيس الدفينة المتمحورة في قلب العقل الباطني.. وفي ضوئها تتوازن الخطى وتسير على نهجها. فتارة تسرع وأخرى تبطئ وثالثة تتوقف. ها هم الأحباب يتجسمون أمامه وخلفه وعن يمينه وشماله, فيرى اللون الأسود يمازج الأبيض يراهما يتمازجان ويختلطان ليشكلا لونا واحدا وشكلا متوحدا. فيطغى الأسود على الأبيض. ويتسيد الأبيض على دائرة الاسوداد, إلى أن تعود المعايير إلى أسسها, والأشكال إلى تباينها, والحركات إلى طبيعتها, كما كانت عليه في السابق, سواء أكان ذلك قعودا أم وقوفا أم مشيا. يناغم تلك التوترات صوت الموج الهادئ وانبطاح الماء المالح على صدر الأرض الرملية الناعمة. وكأنها معزوفة موسيقية شجية تشدو بها حنجرة المياه. الأحداث تلو الأحداث, بداية منذ اختارت له أمه تلك الفتاة لتكون زوجة له, دون سابق معرفة بها, أو بأهلها بشكل عام, فقد كان كل همه أن يتزوج فحسب, دون أن يدخل في معمعة العلاقات العاطفية التي لا طائل منها سوى البكاء والسهر والأمراض النفسية المتنوعة. يتفاجأ بتلك الزوجة في ليلة الدخلة وهي تموء مواء قطة, وترتعش كارتعاش ورقة شجرة في وجه الرياح.

          حاول أن يأخذ حقه في تلك الليلة (المشئومة) كما أطلق عليها في دخيلة نفسه فيما بعد. ولكنها منعته بكل ما أوتيت من قوة. وكان نصيبه كدمات متفرقة على وجهه وخطوطا حمراء ذات أشكال مختلفة على ساعديه وظهره وصدره وخديه, لا. لم تكن تلك المقاومة الغريبة لتحبطه أو تحيده عما انتوى عليه. بل على العكس من ذلك فقد ساورته الشكوك والظنون في الجانب الأهم من دعامة الكرامة الإنسانية وعفافها وبكارتها, وبالتالي فقد دفعته تلك الظنون إلى الدخول في معركة شديدة الوطء تكسر فيها ما هو قابل للكسر, وتحطم فيها ما يتوقع أن يتحطم, إلى أن اتضحت له حقيقة المقاومة والصراع المدمي الحامي الوطيس. لم يشفع لها بكاؤها, وكان بصدد أن يتخذ قرارا في تلك الليلة, لولا تمهله لمعرفة السبب الحقيقي الذي جعل زوجته وأهلها (إن كانوا على علم) يخفون عنه هذه الحقيقة التي قد اكتشفها توا. أكانت بهذه السذاجة بحيث تخبئ عنه ذلك الذي لا يمكنه أن يتوارى خلف أي ستار أو بتلك الغباوة التي جعلتها تقدم على مغامرة خاسرة منذ البداية. سرعان ما انتشر الخبر في محيط عائلته, وسرعان ما عرف السبب من قبل عائلتها, فقد كانت ضحية طلاق غريب عجيب, كانت فيه تصارع الإنس والجن حسب قول أهل زوجته, وتبريرهم لموقف الطلاق. ها هو ذا يتزوج امرأة ممسوسة, يا لهناء الحظ السعيد. إذن لا يوجد حل سوى التأقلم مع الوضعية الواقعية, ولا مفر من الإذعان للواقع المؤلم, لا سيما أولئك الذين ساقوا له التبريرات المختلفة, منها الديني والاجتماعي... الخ. هاهي ذي (توريه النجوم في عز النهار) بتصرفاتها الغريبة, فتارة تنتقده في طريقة ملبسه, وتارة أخرى تشمئز من لحيته, وثالثة طريقة مشيته, او سمنته أو ضعفه أو.. أو.. وما يدهشه أنه فعلا يحبها حبا جارفا, وما جعله يتعلق بها أكثر فأكثر تلك الثمرة الوحيدة التي استطاع أن يقطفها بالإجبار, ذلك الطفل الجميل المحيا البريء الذي لا يود أن يكون ضحية صراع مرير, وفضل أن يصبر ويتحمل إلى أبعد حدود. ولكن هل صبره سيتحمل هو الآخر ذلك العقاب, وأي عقاب هذا الذي تعاقبه الزوجة في عتمة الليل والناس نيام. أي ألم هذا الذي يجعل الزوج يقدم على التخلص من تراكمات عذاباته النفسية في (دورة المياه) أي عذاب هذا, أي عذاب? فجأة ينتشله من ذلك العذاب صوت أجش, إنه صوت صديقه الذي لم يره منذ ما يقارب خمسة أعوام ونيف. وكان صديقه في ذلك الوقت قد أنهى إحدى المكالمات الرقيقة. هي المكالمة التي جعلته يستئذن الضيوف الذين دعاهم إلى أحد  المطاعم الراقية المطلة على البحر. وبالتالي فالشاطئ الذي كان يمشي عليه خليل لا يبعد عن ذلك المطعم سوى خطوات بسيطة. من أراد اجتيازها عليه أن يدفع الكثير من المال ليصبح في أحضان ذلك المطعم الراقي. في المطعم طاولات مستديرة موزعة في اتجاهات مختلفة على اتساع مساحة المطعم. تقبع أمامها كراسي ناعمة ومصقولة بخشب مميز. عدا صدر المكان فقد تربعته فرقة موسيقية مكونة من عازفين على آلات مختلفة. بينما يتناوب على الغناء رجل وامرأة مسنان. ها هو ذا يتعرف على الضيوف, انهما إمرأة لا تتحدث العربية, تتغنج بشكل ملحوظ, وتتلوى التواءات غريبة وكأنها حية ناعمة الملمس سامة الجوهر, ورجل ملامح وجهه توحي بالشراسة المبالغ فيها وكأنه مصارع (السومو) الذي لا يقهر على الحلبة. الزبائن الآخرون يعدون على أصابع اليدين, فيجلس بالقرب منهم شاب وشابة في العشرينيات من عمرهم, جل وقتهم الصمت وبعض الهمسات التي لا تلبث إلا أن تنفجر كالفقاعات الصابونية, أما الطاولات الثلاث الأخرى فيجلس إليها رجال ونساء لا يتحدثون العربية ومتوزعون إلى الطاولات الثلاث بالتساوي, كل اثنين إلى طاولة. لحظة الصمت مبتورة بينهم, وبين فترة وأخرى تصدر ضحكة أو قهقهة أو تعليق غير مفهوم. ها هما الشابان يهمان بالانصراف, ينصرفان وعيونهما مطأطئة على الأرض. وكأنهما مجرمان يحاولان إخفاء وجهيهما عن كاميرات التصوير. ها هي ذي الطاولة الجالس إليها تمتلئ عن آخرها بما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة, كل يختار حسب مزاجه وميوله, لا توجد قيود, لا توجد حواجز, بل إن الطلبات في ازدياد, مع أن الطعام بأنواعه وأشكاله وكذلك الشراب مازال كأن لم تمسسه الأيدي. الجميع ينصرف سواهم, وعندما أزفت ساعة الدفع أشرع المضيف يخرج محفظته الجلدية تفوح منها رائحة المال الوفير, وكانت القيمة الإجمالية لا تخطر على ذهن البعض, بينما البعض الآخر يتوقعه, أما المبلغ المتبقي والذي أصبح مصيره على الطاولة بين دفتي حضن قائمة الطعام, فإنه لا يقل عن ذلك المبلغ الذي يدفعه الإنسان لملء خزان سيارته بالبنزين عن آخره, وما يتبقى منه لملء معدته وأفواه جائعة أخرى بالأطعمة والأشربة التي يقال عنها (أطعمة وأشربة الفقراء) وغالبا ما يكون مصير ذلك المبلغ في أيدي الندل يتقاسمونه أو يستحوذ عليه أضخمهم جثة وعضلات, أو أكبرهم سلطة ونفوذا. وهم يودعون بعضهم بعضا تبادل الصديقان رقمي هاتفيهم (الجوالين) على أمل أن يلتقيا في أقرب فرصة ممكنة. وكان اللقاء المقترب قد حان في ذلك اليوم الممطر, بالهموم والأحزان الكئيبة, بعد الاتصال الذي تلقاه خليل من صديقه الذي يدعوه للحضور إلى شقته التي استأجرها خصيصا للمغامرات الغرامية واللقاءات غير المرئية, مع أن (صديقه) متزوج ولديه ثلاثة أطفال كالزهور الجميلة ولكنه لا يبالي بأي تبعات ممكن أن تقع من جراء اللعب على الحبال.

          بعد فترة زمنية ومسافة مكانية متوسطة, استطاع خليل أن يصل إلى المكان عن طريق الوصف من خلال المكالمة الأثيرية. تقبع الشقة التي صممت بتصميم هندسي جميل خلف الشارع الرئيسي الحيوي لإحدى المناطق الراقية, مما يساعد على حجبها عن عيون الفضوليين. ها هما الاثنان في الشقة, بينما فتاتان تجلسان على أريكة فاخرة, أمامها طاولة صغيرة جميلة ذات شكل هندسي أنيق.

          الشقة مبلطة بالسيراميك الفاخر, تتمدد على الأرضية سجادة إيرانية ذات نقوش زاهية وتطريز قمحي يلفت الانتباه. أما الغرفة الرئيسية التي ينام في حضنها سرير كبير يسع فردين فإنها تطل مباشرة على الصالة التي تجلس فيها الفتاتان, كما أن دورة المياه وملحقاتها الضرورية تلتصق بغرفة النوم, وفي الجانب المعاكس يوجد مطبخ يحتوي أدوات المطبخ وثلاجة متوسطة الحجم, غالية الثمن, كما أن الطباخة ذات الفرن الواسع لا تقل عنها ثمنا. رغم كل تلك الأشياء المتوافرة في الشقة فإن اليدين نادرا ما حاولت تنظيف أو ترتيب أو تنسيق تلك الأشياء المتناثرة هنا وهناك. كما أن سلة المهملات ممتلئة عن آخرها, من علب فارغة وبقايا أطعمة, مما ينتج عنها رائحة نفاذه تزكم الأنوف, تطغى على المكان وتستحوذ عليه, أما التلفاز الذي يحتل الجانب الغربي من الشقة فإنه من النوع باهظ الثمن, شاشته مسطحة ومصقولة بإتقان وفن ملموس, نقاء وصفاء الصورة المبثوثة عليه تجعل الإنسان يعيشها كالحقيقة المعيشة. كما أن جهاز استقبال القنوات الفضائية من النوع الخاص أو (المشفر) الذي يستقبل القنوات التي تتلهف العيون المراهقة إلى رؤيتها, مهما كلفها ذلك من ثمن مادي ومعنوي. انتبهت الفتاتان إلى وجود خليل.

          وهمت إحداهما بوضع خمار على وجهها بمجرد رؤيتها له. بينما الأخرى صافحته في برود وبينما يهم بمصافحة الأخرى, إذ بها تنهض من على الكنبة بحركة مفزوعة وكأنها لدغت بحشرة سامة ثم تركض إلى خارج الشقة بكل ما أوتيت من قوة. أراد خليل ملاحقتها ولكنه فضل أن يترك الجمل بما حمل ويمور في أعماق ذلك المساء الذي تحول إلى جحيم مستعر. بينما أمواج البحر تخرج له لسانها الساخر, وقدماه تغوصان في أحشاء الرمال الناعمة, تمنى أن تبتلعه.

          ولكنه يعي تماما أن حظه العاثر هو الذي دائما ما يمسد على روحه وقلبه. وبالتالي حتى وإن ابتلعته جميع الأرضين فإن البراكين ستلفظه بغضب ووحشية, ولن يعرف للنهاية مدى إلا بتحوله إلى رماد

 

ماجد بن علي الهادي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات