حزن الحمام

 حزن الحمام
        

          عندما أطل من خلف شباك النافذة المغلق, بدا له الشارع خالياً هادئا. للحظة, ركّز بصره على سيارته الـ (هوندا) المركونة وسط سيارات الجيران, قبالة عمارة سكناه.

          كل شيء يبدو عادياً. العصافير تزقزق وتقفز من غصن إلى غصن في الحديقة الصغيرة الممتدة تحت نافذته. أشعة الشمس الأولى تتخلل فجوات شباك نافذته. نسمات الصباح خفيفة منعشة. فجأة, تناهى إلى مسامعه هديل القمري في الشرفة. تطاير مفجوعاً. اللحن حزين غيرعادي.

          أيكون القمري قد حدس أو رأى شيئاً? ترك النافذة, وتوجه بحذر إلى الشرفة. القمري يغازل حمامته على دربزين الشرفة. اطمأن. هدأت نبضات قلبه قليلاً. ومرة أخرى, ألقى نظرة على الشارع الهادئ. ليته لم يكن يسكن هذا الحي المنعزل, البعيد عن وسط المدينة.

          من خلف العمارة المجاورة, ظهر كلب سائب. قطع الرصيف المقابل. توقف فجأة عند سيارة جمال وراح يتشمم عجلتها اليمنى الأولى. (هل جذبته رائحة معينة?), ازدادت نبضات قلب جمال. فجأة, رفع الكلب قائمته الخلفية اليمنى وأخذ يبول بمتعة واضحة على العجلة.

          (أوف... تبا لك أيتها الوساوس). ومع ذلك, فأرق البارحة وهواجسها مازالا يضغطان على صدغيه, فيشعر بألم مقيت.

          كان قد قضى ليلة بيضاء. فقد عاد إلى سكناه, مع المغرب, وعندما فتح علبة رسائله, وجد قطعة قماش من (الفينيا) البيضاء ملفوفة في استمارة وفاة شاغرة.

          (رباه لقد حكموا علي بالإعدام!) ارتاع. فكر أن يعود أدراجه, يركب سيارته وينطلق بها لا يلوي على شيء. غير أنه سرعان ما عدل عن الفكرة. ربما يكونون قد تبعوا أثره, أو يكونون مختبئين في الحي, وفور عودته إلى سيارته, يفاجئونه.

          أسرع باتجاه سلم العمارة وراح يصعد درجاته ثلاثاً ثلاثاً. فجأة, سمع خطوات تنزل من أحد الطوابق العليا. توقف مرتاعاً. أحس بالدم يغادر وجنتيه وبقلبه يكاد يخرج من بين ضلوعه. ثم وهو يهم بالتراجع, ظهر جاره سليمان. استرجع أنفاسه بصعوبة وبلع ريقه بمرارة. وسرعان ما صافحه سليمان بحرارة, وإن بدا أنه مستعجل لأمر ما. ومع ذلك, بقي جمال واقفا للحظات. لم يضغط على يد سليمان, كالعادة, لأن أصابعه كانت ترتعد. (أيكون سليمان قد أحس بذلك? تبا لك أيها الخوف.. ثم لماذا لم يره قطعة الكفن البيضاء واستمارة الوفاة الشاغرة? ربما, كان سيأخذه معه ويرافقه حتى يطمئن عليه في مكان آمن). غير أنه بعد لحظة, ظهرت له هذه الأفكار تافهة, لا سيما وقد تفطن إلى أنه يقف قبالة الرواق المؤدي إلى شقته. كل شيء يبدو عادياً. أسرع إلى باب شقته, ففتحه. دخل وأغلق الباب الحديدي بإحكام (حسنا فعل, عندما قلد جيرانه وركب هذا الباب الحديدي).

          في الشقة لم يهدأ. لم يجلس وإنما رمى محفظته على طاولة الصالون, وراح يذرع رواق البيت ذهاباً وإياباً. فجأة, تذكر الشرفة في هلع. أسرع يطل من خلف الشباك الخشبي المغلق.

          آه, نسي أنه ركب لها منذ شهرين سياجاً من القضبان الحديدية, فتح الشباك. استقبله هديل حمامتيه قرب عشهما. اطمأن قلبه واستأنس بالطائرين. شيء جميل أنه سمح لهاتين الحمامتين بنصب عشهما في شرفته. لكم يطرب لهديل الحمام. إنه يذكره بطفولته الريفية, حيث ترعرع في حوش مليء بأعشاش الحمام. ومع ذلك, فسرعان ما عاوده القلق والتوجس. ترك الشرفة, فجأة, حين تذكر الهاتف. الجهاز, هناك, فوق طاولته الخاصة في الصالون. رفع السماعة بيد ترتعد.

          (رباه, ليس هناك حرارة! هل قطعوا خيط الهاتف?), كاد قلبه يخرج من بين ضلوعه. (حانت ساعته إذن). بقي واقفاً صاغراً والسماعة في يده. ازدادت رعدة يده. تفطن في آخر لحظة إلى أن السماعة قد تسقط على البلاط. ضبط يده, قدر المستطاع. وفجأة, جاءت الحرارة. بلع ريقه بصعوبة ونبضات قلبه تستقر رويدا رويدا. (أيهتف إلى رجال الشرطة? وهل سيأتون? قد يظنون أن أحداً يستدرجهم إلى كمين, كما حصل لهم في العديد من المرات). تردد طويلاً, ثم وضع السماعة. (لن يهتف لأحد. قد تمر الليلة بخير, فلم التهويل?).

          دار على عقبيه ببطء. وقع بصره على علبة سجائر موضوعة فوق جهاز التلفزيون. مد يده إليها واستل سيجارة, سرعان ما أشعلها وراح يدخن بشره. فجأة تفطن إلى أنه يعلك العلبة في يمناه. لم تكن تحتوي إلا السيجارة التي يدخنها الآن. ارتاع. (كيف سيقضي الليل من دون سجائر.. هل سيخرج? كلا).

          وسرعان ما تذكر محفظته. عادة ما يحمل فيها علبة أو علبتين. فتح المحفظة على عجل. (آه, ها هي علبة جديدة غير مفتوحة تتوسط ملفاته). اطمأن قلبه. جلس على أقرب تخت إليه في الصالون. بعد لحظات, تفطن إلى أنه ينفض رماد السيجارة فوق البلاط. قام يبحث عن منفضة سجائره. وجدها خلفه على طاولة جهاز (استريو). نفض سيجارته رغم أن رمادها كان قد سقط فوق البلاط. جلس هذه المرة قرب (استريو).

          فكر أن يضع شريط موسيقي. (أي نوع? لا بد أن تكون هادئة خفيفة. علاء? نعم علاء.. فتقاسيم عوده تريح النفس وتطرد القلق المقيت). ثم, وهو يبحث عن شريط علاء, غير رأيه. (من الأفضل أن يشعل جهاز التلفزيون. هذا أحسن بالتأكيد). تناول جهاز الإشعال عن بعد وضغط على زر القناة المحلية. إنها تبث منوعات. (ليكن. سيتابعها).

          قطع ذكرياته, عندما تفطن, فجأة, إلى أنه يقف في الشرفة. (من هنا, قد يكون هدفاً سهلاً لأي قناص يظهر في الشارع). تراجع مذعوراً ودخل الصالون. عيناه تؤلمانه ورأسه يوجعه من أرق البارحة. حك جفونه حتى آلم عينيه. عصبيته أنسته حتى ضرورة اللطف بعينيه. ومرة أخرى, أسرع يفتح زجاج النافذة ليطل من خلف الشباك المغلق. قط أسود كبير ينفلت من تحت إحدى السيارات ويقطع الشارع جارياً. يختفي تحت سيارة أخرى. للحظات, يترقب جمال خروجه. لا يخرج. تتحول نظرات جمال باتجاه أحد سكان العمارة المجاورة وهو يقبل من اليمين. يقصد الرجل سيارته في تؤدة وعندما يبلغها, يقف جانبها ويروح يفتش في جيوب سترته. يستل سيجارة ويشعلها. يمتص الدخان بشره ثم ينفثه وهو يتأمل سيارته. وسرعان ما راح يدور حولها, متفقداً العجلات وزجاج النوافذ.

          (هي سالمة على ما يبدو. لم يسرق اللصوص لا العجلات ولا الزجاج).

          وبينما الرجل يفتح باب سيارته, يخرج أحد جيران جمال. إنه سليم, مدير عام إحدى الشركات الوطنية. قلب جمال يخفق. هم بأن يناديه ويقول له انتظرني, لكنه تراجع في آخر لحظة. خاف أن يبدو تافهاً, جباناً في نظر هذا الجار). كل الناس خائفون, غير أنهم يتظاهرون بالشجاعة, فلم يضعف هو? ثم قد تكون قطعة الكفن واستمارة الوفاة الشاغرة, مجرد إنذار أو.. لعبة أطفال لإخافته, لا غير. على أي حال, لن يعود إلى الحي بعد اليوم. سيبحث عن سكن آخر في حي أكثر أمناً).

          شجع نفسه وهو يبتعد عن النافذة. رجعت نبضات قلبه إلى وتيرتها الطبيعية. استعد للخروج.

          فتح باب شقته وهو يحاول أن يبدو هادئاً, قدر المستطاع. أجال بصره, وهو يخرج, في رواق العمارة. لا شيء يذكر. أغلق الباب ونزل درجات السلم ببطء. كل شيء هادئ. زقزقات العصافير تصل مسامعه كثيفة متناقضة الألحان ونسمات الصباح الفاترة تقبل وجنتيه بلطف. استنشق الهواء النقي, لعله يطرد بقايا دخان التبغ الذي بات يمتصه بشره.

          تجاوز رتاج العمارة الحديدي. تلقفه الشارع بنسماته التي بدت له أكثر برودة من تلك التي كان يستنشقها وهو ينزل سلم العمارة. الشارع فارغ. ألقى نظرة إلى ساعة معصمه. الثامنة إلا ربعا. ارتعدت فرائصه للحظة, غير أنه استنجد بكل ما يملك من شجاعة وأغذ الخطو باتجاه سيارته. فجأة, سمع خطوات سريعة تقترب منه. التفت. شابان يخرجان من خلف العمارة ويتجهان نحوه. ارتاع. حاول الهروب, لكن شاباً ثالثا قطع عليه الطريق من ناحية العمارة الأخرى.

          (أين المفر?) تسمر في مكانه والشاب يصوب إليه مسدساً أسود طويلاً. للحظة, شد بصره الثقب الصغير المظلم في رأس الماسورة, ثم سرت قشعريرة باردة مباغتة عبر كامل جسده الهش, وتولاه رعب قاتل.

          فجأة, رمشت عيناه أمام ضياء مباغت انبعث من رأس الماسورة وأصمت أذنيه فرقعات متتالية. وسرعان ما شعر بلسعات حادة في جبينه, تلاها على الفور مزراق مؤلم مزق رأسه طولاً وعرضاً. في رد فعل سريع, حاول أن يرتمي على مطلق النار, وعيناه الجاحظتان تسعيان, عبثاً, لاكتشاف ملامحه. غير أن بصره سرعان ما تضبب. ثم خذلته ركبتاه, فترنح. حاول التشبث بإحدى السيارات, غير أن الأرض اقتربت بسرعة مذهلة من وجهه. ومع أنه فهم أنه سقط, استغرب للحظة, كيف أنه لم يتألم وأن الشيء الوحيد الذي يؤلمه هو تلك المزارق التي تعبر رأسه في كل الاتجاهات وتلك الرعدة الممقوتة التي تهز كامل كيانه. ومع ذلك بدا له أنه سمع الجيران يغلقون شبابيك نوافذهم, ثم رأى, كما يرى النائم, حبيبته سعيدة تجري لتسعفه. غير أن رعدة قوية, سرعان ما هزته فطمست كل شيء.

          هو الظلام يبرنس بزغدانه(1) البصر. ثم لا شيء

 

جيلالي خلاّص   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات